الآية 17
الآيــة
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والصابئين والنصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيـمَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ} (17).
* * *
يوم القيامة يوم فصل الخلافات
وتستمر الخلافات حول العقيدة والشريعة والحياة والكون وقضايا الإنسان العامة والخاصة بين الناس، وتتطور الأساليب الجدليّة والوسائل الإقناعية التي يبتدعها كل فريق من أجل إخضاع الفريق الآخر لفكره ورأيه، وقد تؤدّي الخلافات إلى نزاعاتٍ وحروبٍ داميةٍ، وقد تنقضي الحياة دون أن يحقق أيُّ فريق منهم انتصاراً على الآخر.. ولكن كل ذلك سينتهي غداً أمام الله عندما يقف الجميع بين يديه، ويتجلى الحق واضحاً بيّناً دون ريبٍ، مما لا يدع مجالاً لشبهةٍ، في أيّ شأن من تلك الشؤون التي كانت مثاراً لخلافاتهم، وتكون كلمة الله هي كلمة الفصل، لأنه الشاهد الحيّ على كل ما يختلفون فيه من عالم الغيب والشهود، لأن الغيب عندهم هو حقيقة الشهود عند الله..
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا هو المصطلح الذي يستخدمه القرآن للدلالة على المسلمين الذين التزموا شريعة الإسلام، بإيمانهم بالنبي محمد (ص)، {وَالَّذِينَ هَادُواْ} وهم اليهود المنتسبون إلى موسى(ع)الملتزمون بالتوراة، {والصابئين} الذين هم عبدة الكواكب من الوثنيين أو هم قومٌ متوسطون بين اليهودية والمجوسية ولهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي(ع) ـ كما قيل ـ {والنصارى} وهم المؤمنون بعيسى(ع) ومن قبله من الأنبياء ويلتزمون بالإنجيل، كما يلتزمون بالتوراة، {وَالْمَجُوسَ} وهم المؤمنون بزرادشت، وكتابهم المقدس «أوستا» {وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } وهم عبدة الأوثان.. كل هؤلاء الذين يقوم النزاع بينهم في الحياة على قاعدة العصبيّة الضيّقة التي تحبسهم في دائرة ذواتهم ومصالحهم، فلا يحاورون بغية الوصول إلى الحق، ولا يواجهون قضاياهم العقيدية والعملية بالفكر، ويبقى كل واحد منهم مكانه، لا يسمح لأحدٍ بمناقشته في ما هو الخطأ والصواب، لأن الانتماء عنده موقع ذاتي، ودائرة ضيقة، لا مكان فيها لأيّ عنوانٍ فكريٍّ في العمق وفي الامتداد، ما يؤدي إلى التقاتل والتحاقد وهلاك الحياة من حولهم، {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} في ما يحكم بينهم، وفي ما يثيره أمامهم من وضوح الرؤية للأشياء التي كانت خفيَّة عنهم، أو بعيدةً عن مواقع وعيهم، فلا يبقى هناك مجالٌ لشبهةٍ، ولا موقع لريبٍ، بل هي الحقيقة الإلهية الواضحة كما النهار، المشرقة كما الشمس، في حدود النبوّات الزمنيّة، وفي طبيعة الرسل الرسالية، بما هي الكتب في حقائقها التي تتمرد على الانحراف والتحريف، وبما هي حقيقة الربوبية التي تتعالى عن الشرك والوثنية، ليعرف الجميع كيف تبرز الحقيقة الواحدة، وكيف يتلاشى الضباب من موقع الصحو الروحي الباحث أبداً عن الذوبان في آفاق الله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ}، لأنه يملك الحضور كله في أدقّ الأشياء وأخفاها، وأوضح الأمور وأجلاها، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وفي هذه الآية لونٌ من ألوان التهديد الإيحائي الموجّه إلى من انحرفوا عن الحقيقة وهم قادرون على الاستقامة، وعاشوا في الضباب وهم في مواقع الصحو، واتجهوا إلى الضلال وهم يملكون إمكانية الاتجاه إلى الهدى، فيقول لهم الله: إنهم إذا كانوا يلتزمون ما يلتزمونه من ضلالٍ وانحراف انطلاقاً من حالة تعصّبٍ أو ضيق أفقٍ، أو طمع، ويرفضون اللقاء بالحق والهدى والاستقامة، تمرداً وتكبراً واستعلاءً، ولا يقبلون بالحسم الفاصل بينهم في الموقف والموقع، سيلتقون غداً بالموقع الحق الذي يقفون فيه بين يدي الله ليفصل بينهم في ما كانوا فيه يختلفون، وليعرفوا أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، لأن الله هو الذي يملك الأمر كله.
تفسير القرآن