تفسير القرآن
الحج / الآية 25

 الآية 25

الآيــة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الذي جَعَلْنَـاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (25).

* * *

معاني المفردات

{وَيَصُدُّونَ }: يمنعون.

{الْعَـاكِفُ}: المقيم الملازم للمكان.

{وَالْبَادِ }؛ البادي: يقال للمقيم في البادية بادٍ، والمراد بالبادي في الآية: الآتي إلى المسجد الحرام من الخارج.

{بِإِلْحَادٍ }؛ الإلحاد: الميل عن الخط المستقيم.

* * *

جزاء الصدّ عن البيت الحرام

انطلقت دعوة الله في مكة؛ البلد الذي جعله حرماً آمناً يأوي إليه الناس من كل مكان ليعبدوه في المسجد الحرام، حيث يصلّون ويطوفون بالبيت الحرام. ولكن أهل مكة، الذين كانوا يتخذون الشرك قاعدة لتفكيرهم ولعبادتهم ونهجاً في حياتهم، واجهوا هذه الدعوة الجديدة بكل أساليب التعسف والتمرّد والضغط والنكران. وجاءت هذه الآية لتحدّد لنا طبيعة هذه المواجهة، وما أعدّه الله لهم في الدار الآخرة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } من خلال اتّباعهم الشرك، وإصرارهم عليه، ورفضهم لكل البيّنات التي قدّمها النبي (ص) إليهم في كتاب الله وفي حديثه، واستمرارهم على عبادة الأصنام.. {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } فلم يكتفوا بالكفر الإشراكيّ في تفكيرهم وسلوكهم، بل عملوا على الوقوف ضد كل من يريدون الدخول في الإسلام ويتحركون في سبيل الوصول إلى الحق، الذي يبلغ بهم رضوان الله ورحمته، فكانوا يلاحقون المؤمنين ليعذبوهم، وليشرّدوهم، ويمنعون الذين يحبون الإيمان أن يدخلوا فيه بالضغوط الصعبة القاسية التي يوجهونها إليهم {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الذي جَعَلْنَـاهُ لِلنَّاسِ } لا فرق فيه بين فردٍ وآخر أو بين جماعةٍ وأخرى ممن يؤمن بالله ويريد أن يعبده فيه، أو ممن يريد أن يدخله ليؤمن بالإسلام، فهو بيت الله الذي أراده للناس كافة، {سَوَآءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ }، فالمقيم فيه والآتي من الخارج إليه سيّان، لا يملك من يقيم في مكة منع القادم إليها من دخول المسجد، لأن خالق الأرض ومالكها هو من يملك إعطاء الإذن بالمنع والدخول من موقع خلقه له، {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } ويميل عن الخط المستقيم، وذلك بالقيام بأيّ عملٍ يعيق وصول الناس إليه، ويضرّ بحياتهم في داخله، عبر استخدام ما يملكه من قوّة تمكّنه من مواجهة حالات الضعف التي تحيط بالآخرين من المقيمين به أو الداخلين إليه، {بِظُلْمٍ} أي بدون حق، فإن ذلك ليس من حقه مهما قدم لتصرفه من مبررات وأعذار، لأن للناس حرية الدخول إلى الكعبة التي تمثل بيت الله، فيحجون إليها، ويعبدونه فيها، ولم يجعل لأحد سلطة منع الناس من ذلك، إلا في نطاق حمايتهم من الخطر وحمايتها من الضغط القاسي، فمن أراد ذلك بدون حق {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } جزاءً له على تمرده وعصيانه وظلمه، تماماً كالكافرين والصادّين عن سبيل الله.

* * *

الآية واختلاف المفسرين في بعض مفرداتها

وربما استوحينا من ذلك أن الله أعطى الناس المؤمنين حرية الدخول إلى المسجد الحرام وممارسة العبادة الصحيحة فيه، دون أن يكون لأي أحد سلطة منعهم من هذا الحق، إلا في نطاق النظام العام. وهذا يجعلنا نرفض ما استحدثه حكام تلك البلاد من قوانين تمنع الدخول إليها لأداء فريضة الحج والعمرة إلا بإذن منهم، وحسب شروطهم، مما يتنافى وأجواء هذه الآية.

وقد نستوحي من قوله تعالى: {سَوَآءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } أن للناس ـ جميعاً ـ الحقّ في مكة، فلا يملك أحد أن يمنع الناس من الإقامة فيها، أو يمنح نفسه حق تملّك موقعٍ فيها أو دائرةٍ معيّنة، لأن الله قد ساوى بين المقيم فيها والخارج منها، لأن الظاهر ـ كما يقال ـ أن المراد من المسجد الحرام، هو مكة كلها، كما يظهر ذلك من قوله تعالى في سورة الإسراء {سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى } [الإسراء: 1] حيث ذكرت أن النبي قد أسري به من المسجد الحرام في الوقت الذي كان الإسراء فيه من دار أم هاني في داخل مكة.

وقد جاء في التهذيب ـ للشيخ الطوسي ـ بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله جعفر الصادق (ع) هذه الآية: {سواء الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } فقال: كانت مكة ليس على شيءٍ منها باب، وكان أوّل من علّق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئاً من الدور ومنازلها[1].

وقد ذهب إلى ذلك جمع من الصحابة والتابعين منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير، ومن مذهب هؤلاء ـ في ما نقله الفخر الرازي في تفسيره ـ «أن كراء دور مكة وبيعها حرام، واحتجوا عليه بالآية والخبر، أما الآية فهي هذه، قالوا: إن ارض مكة لا تُملّك، فإنها لو مُلِّكت لم يستو العاكف فيها والبادي، فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد، وأما الخبر فقوله(ع): مكة مباح لمن سبق إليها»[2].

وهناك قول آخر نقله الرازي أيضاً، فقال: «إن المراد جعل الله الناس في العبادة في المسجد سواء، ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس. قال(ع): يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعنّ أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أيّة ساعةٍ من ليلٍ أو نهار»[3].

وقد اختلفوا في المراد من الإلحاد فيه؛ هل هو خصوص المنع عن الدخول فيه، أو بعض الأشياء الأخرى، كالمنع من عمارته، أو الشرك أو نحو ذلك، أو هو الأعم من ذلك، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع)، في ما رواه أبو الصباح الكناني عنه: «كل ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكة، من سرقةٍ أو ظلم أحدٍ، أو شيء من الظلم، فإني أراه إلحاداً، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم»[4]، وفي رواية «يتقي» بدل «ينهى».

وقد ذكر الفخر الرازي ـ في وجه تعلق كلمة الإلحاد بالظلم ـ أنه «لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر، بيَّن الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد، لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهي ظلم، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }»[5] [لقمان:13].

ـــــــــــــــــ

(1) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية، طهران، ج:5، باب:16، ص:420، رواية:104.

(2) الرازي، الفخر، التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، ط:3، م:12، ج:23، ص:24.

(3) (م.ن)، م:12، ج :23، ص:24.

(4) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1412هـ ، 1992م، م:35، ج:96، باب:8، ص:300، رواية:24.

(5) تفسير الرازي، م:12، ج:23، ص:25.