سورة الحج الآيات 26-37
الآيــات
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بي شَيْئاً وَطَهِّرْ بيتي للطائفين والقائمين وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَأَذِّن في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تفثهم وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوثان وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ * حنفاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شعائر اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ محله إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ واَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شعائر اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صواف فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (26ـ37).
* * *
معاني المفردات
{بَوَّأْنَا}: بوّأ له مكاناً: أي جعل له مرجعاً يرجع إليه ويقصده.
{رِجَالاً}: راجلين.
{فَجٍّ }: طريق.
{عَميِقٍ}: بعيد.
{تَفَثَهُم}: التفث: قال في المجمع: «قال الأزهري: لا يعرف التفث في لغة العرب إلاّ من قول ابن عباس وأهل التفسير، وقال النضر بن شميل: هو إذهاب الشعث»[1]. وجاء في الميزان: «التفث: شعث البدن، وقضاء التفث: إزالة ما طرأ بالإحرام من الشعث بتقليم الأظفار وأخذ الشعر ونحو ذلك، وهو كناية عن الخروج من الإحرام»[2]. وقضى الشيء يقضي: إذا قطعه وأزاله.
{حُرُمَاتِ}: جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه.
{حُنَفَآءَ}: جمع حنيف، وهو من استقام على دين الحق مائلاً عن الأديان الباطلة.
{سَحِيقٍ}: بعيد.
{شَعَـائِرَ}: جمع شعيرة، وهي العلامة، وشعائر الله هي الأعلام التي نصبها الله لطاعته.
{الْمُخْبِتِين}: الإخبات: الخضوع والطمأنينة، وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصاً فهو من المخبتين، وقد فسره بقوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمي الصّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} كما يقول صاحب الميزان[3].
{وَالْبُدْنَ }: جمع بَدَنَة، وهي الناقة السمينة، من بدن بدناً: إذا كثر لحمه.
{صَوَآفَّ }: مصطفّة قد صفّت أيديها وأرجلها عند النحر.
{وَجَبَتْ جُنُوبُهَا }: سقطت على الأرض على جنوبها، وهو كناية عن موتها.
{القانع }: الراضي، أو الفقير الذي يقنع بما أعطي، سواء سأل أو لا.
{وَالْمُعْتَرَّ }: الذي يتعرض لك لتعطيه.
* * *
الحج عبادة منفتحة على الله
لم يكن المسجد الحرام مسجداً عادياً في طبيعته وخصوصيته، ولم يأت بناؤه تلبية لرغبةٍ ذاتيةٍ في بناء مسجد للعبادة كما هي حال المؤمنين عادة، بل جاء نتيجة أمر من الله، فقد أوحى لنبيّه إبراهيم (ع) أن يبني هذا المسجد ليكون بيتاً له ـ تعالى ـ على مستوى العالم كله، ليفِد إليه الناس من كل بقاع الأرض تلبية لدعوته الشاملة، من أجل تحقيق المنافع الدنيوية والأخروية، المادية والمعنوية.. ولينطلق الناس من خلاله، ومن خلال الأعمال المتنوعة التي شرعها لهم في رحابه وأجوائه، ليخلصوا له العبادة من موقع التوحيد، ولينفتحوا على عمق التوحيد في صفائه ونقائه، في ما تعيشه أفكارهم، وتختزنه مشاعرهم، وتتحرك فيه أوضاعهم، في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، من خطٍّ يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يمرّ الناس إلا من خلاله، ولا يلتقي بخصوصيات الحياة إلا في دائرة رضاه.
وهكذا كان الحجّ هو العبادة المنفتحة على أكثر من أفق للعقيدة، والمرتكزة على أكثر من قاعدةٍ للحركة، والقريبة إلى الجانب العملي في الحياة، في ما يلتقي به الإنسان مع الله في أكثر من موقع، وهذا ما نحاول استيحاءه من خلال الآيات التالية.
* * *
يا إبراهيم، طهّر بيتي
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} فحدّد الله له موقعاً وأراده أن يجعله مرجعاً يقصده الناس في رحلتهم إليه ـ تعالى ـ للعبادة، وأن يعدّه إعداداً كاملاً لتحقيق النتائج الروحية التي يريدها الله من حركة العبادة في ساحاته، وأوحى إليه أن يؤكد على صفة التوحيد فيه؛ من حيث الشكل، بإعطائه صورة بعيدة عن عبادة الأوثان التي توجد في أماكن العبادة عادة ويتعبد لها الناس لتقرّبهم إلى الله زلفى، ومن حيث المضمون، في ما يثيره معنى التوحيد من أفكار ومشاعر وآفاق روحية في عمق الذات، وفي امتداد الحركة، ومن حيث شخصية الإنسان الذي يبني المسجد ويرعاه في ما يستهدفه منه، وفي ما يركّزه عليه من أسس البناء، ولهذا جاء النداء الإلهي لإبراهيم (ع)، ليختصر ذلك كله في قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً } بما يعنيه ذلك من إقامة قواعد المسجد كلها على أساس التوحيد، الذي هو سر وجوده، وهدف العبادة فيه التي تجمع الحياة والإنسان لتقودهما إلى وعي العبودية الخالصة لله، {وَطَهِّرْ بَيْتِي} طهارة كاملة بمعناها المادي الذي يستدعي النظافة من كل قذارة تسيء إلى جوّ التحليق في آفاق الطهارة الروحية التي تختزنها روحية العبادة وتخلقها داخل الإنسان، فإن الإسلام ـ في كثير من تشريعاته ـ يبتعد عن التجريد، ويعمل على إطلاق المعاني الروحية من حركة الأشياء المحيطة بحياة الإنسان عادة، ولذا، فإن الله شرّع الطهارة من الحدث والخبث، اللذين يمثلان القذارة المادية والمعنوية، كشرط لصحة الصلاة والطواف على سبيل الإلزام، واستحبّها لكثير من الأمور العبادية الأخرى، على سبيل الرخصة..
وهكذا أراد المسجد طاهراً في أرضه، كما أراد الإنسان فيه طاهراً في جسده وثيابه، لتعيش الطهارة الروحية في أجواء الطهارة المادية، ليتكامل المضمون الداخلي والشكل الخارجي {للطائفين} الذين يقصدون البيت للطواف حوله، بصفته الرمز المادي للتحرك في فلك رضى الله عبر احترام أوامره ونواهيه، في كل المجالات التي يطوف بها الإنسان في حياته، وعلى مستوى كل العلاقات التي يقيمها مع الناس من حوله، سواء من يتصل بهم وينتمي إليهم، أو من يتحرك في دوائرهم الفكرية والعملية، وفي كل الأماكن التي يتخذها الإنسان مواقع ثابتة أو متحركة لمشاريعه ولأوضاعه العامة والخاصة، ليكون ذلك كله مع الله في دائرة معينة يمثلها بيته، وله، في العبادة التي يخلص فيها الإنسان لربه تماماً كما هو الطواف بالبيت. {والقائمين } الذين يقومون لله في صلاتهم، كرمزٍ للقيام بين يديه في طاعتهم له في كل شيء، فهم يقومون له منتظرين أوامره ونواهيه ليطيعوها، وليخلصوا إليه الطاعة فيها وفي كل شيء، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } الذين يتعبّدون له في ركوعهم وسجودهم، في ما يمثله الركوع والسجود من انحناء الإنسان أمام الله بجسده وانسحاقه أمامه بجبهته، كرمزٍ لانحناء كل حياته أمام إرادته، بعيداً عن الخضوع الكامل بكل أشكاله وبكل معانيه.
فإذا استكملت البيت ـ يا إبراهيم ـ وأتممت بناءه وإعداده على قاعدة الطهر والتوحيد، فإن هناك مهمّة أخرى تنتظرك، وهي الإعلان عن الحجّ ودعوة الناس إليه، لتكون لهذا البيت خصوصية عبادية تختلف عن سائر بيوت الله، وليمثل الاتحاد البشريّ في الحياة، باعتباره البيت العالمي الذي يلتقي فيه الناس جميعاً من كل الأجناس والألوان، على عبادة الله، ليعيشوا وحدة الإنسانية من خلال وحدة الموقع الذي يقدسونه ويتعبدون فيه، ووحدة العبادة، كرمزٍ للإخلاص في إيمانهم بوحدة الله..
* * *
وأذّن في الناس بالحجّ
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } وأعلن ذلك في كل نداءاتك، كتشريع تقرّره وتثبته، لا مجرد صوت تطلقه، ليشعروا ـ من خلال ذلك ـ بأن هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال، ويقودهم إلى الطاعة، فـ {يَأْتُوكَ رِجَالاً } راجلين سائرين على أقدامهم، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي بعير مهزولٍ من شدّة التعب والجهد، {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} أي طريق بعيد، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول، {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} في ما يحصلون عليه من خلال الحج من منافع دنيوية يحققها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في المشاكل التي يعيشونها فكراً وواقعاً، عبر ما يثيرونه من قضايا وما يحددونه من أهداف وما ينتظرونه من حلول.
وبذلك تسقط الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس، ليلتقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله، والسير على منهجه، والالتزام بدينه، والجهاد في سبيله، طلباً لرضاه، ما يوفر لهم الخروج من الدوائر الضيقة التي يحبسون حياتهم فيها، لينطلقوا إلى الدائرة الواسعة التي تحتويهم جميعاً، مما ينقذهم من مشاكل التجزئة في حل القضايا العامة التي قد يستغرقون معها في خصوصياتهم، فيسيئون بذلك إلى تلك القضايا من حيث يريدون أو لا يريدون، لابتعادهم عن الأسس التي ترتكز عليها القضايا الإسلامية لجهة علاقتها ببعضها البعض، وارتباطها بالهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام في الحياة..
وهكذا تتواصل المنافع الدنيوية في رحاب الحج، لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسي، والتصور الفكري، وتحقيق التكامل الاقتصادي، والمواجهة الموحدة للقوى الطاغية وغيرها. وهذا ما يمكن الوصول إليه في هذا المؤتمر العالمي السنوي الذي يتشكل بطريقةٍ عفويةٍ، امتثالاً لأمر الله في العبادة، ليمتد إلى امتثال أمره في حركة الإنسان في الواقع..
أما المنافع الروحية التي تتداخل ـ في أكثر من موقع ـ مع المنافع المادية، فتأتي من التشريعات الإسلامية المتصلة بواجبات الحج المتنوعة التي تحقق لكل جانب من جوانب شخصية الإنسان، حركة روحية تغذي فيه علاقته بالله وإخلاصه له، وشوقه للوصول إلى درجات القرب عنده في دار النعيم..
وهكذا يريد الله للناس في الحج أن يأتوا إلى رحاب البيت، ليشهدوا ـ من مواقع الوعي والمعاناة ـ المنافع التي يجدونها أمامهم عند الوصول، أو التي يحققونها بعده، {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ } هي أيّام التشريق التي تبدأ من يوم الأضحى حتى الثالث عشر من ذي الحجة، على ما ذكر في أحاديث أئمة أهل البيت(ع)، أو هي أيام الحج.. {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} من الإبل والبقر والغنم، إذا ذبحوها أو نحروها في نسكهم، حيث جعل الله ذلك تعبّداً منهم له تعالى، لتكون قرباناً له، إذ أحلّ لهم هذه الأضحية وجعل لها معنى يتصل بالجانب الإيماني من حياتهم، ما يوحي بهذا التزاوج في التشريع بين ما هو روحي وما هو مادي في حياة الناس، إذ يجب أن لا يستغرقوا في حياتهم في جانب واحد، فالله هو الذي خلق الروح التي تلتقي به لتعبده، وهو الذي خلق المادة لتكون شاهداً على سرّ الإبداع في عظمته، وهو الذي خلق الأنعام وأراد للإنسان أن يتقرب بها إليه، تنميةً للحياة التي شاء لها أن تكون خاضعةً لقانون التضحية بحياة مخلوقة لله من أجل حياةٍ أخرى يريد لها أن تؤكد إرادته في دور الخلافة على الأرض..
* * *
لماذا ذكر اسم الله على الذبيحة؟
إنّ دراسة هذا التشريع الإسلامي الذي يقضي بذكر اسم الله على الذبيحة، كما يقضي بذكره في أمور أخرى في حياة الإنسان، إلزاماً واستحباباً، يجعلنا نلاحظ أن هذا التشريع يمثل أسلوباً تربوياً يوحي للإنسان بأن كل حركة في حياته لا بد أن تأخذ شرعيتها من إذن الله بها ورعايته، مهما كانت صغيرةً أو كبيرة، لتكون مسيرته كلها من خلال الله، بحيث تنطلق البداية منه، وتصل النهاية إليه، في رحلة العمر التي تستمد كل قوتها الحركية من قوّته ورحمته، خلافاً للذين يعبدون الأوثان، ويتقربون إليها بقرابينهم، ويذكرون اسمها عليها، فيشركون بالله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، نتيجة التخلف الفكري والروحي الذي لا يرتكز على قاعدةٍ معقولةٍ من علم وفكرٍ..
* * *
الانتفاع بذبائح الحجّ
{فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ} وهي رخصة شرعية بأكلها تدفع احتمال التحريم الذي قد يتوهمه البعض، على أساس أن القربان لا بد من أن تأكله النار، ولا يجوز للإنسان أن يأكل منه، لأنه لله، وما يكون لله لا يجوز أن يأكله الإنسان. ولكن الله أراد أن يبيّن أن القربان يمثل معنى داخل الإنسان عند تقديم الأضحية باسمه.. وتنتهي المسألة عند هذا الحد، وبعد ذلك تأتي قضية الانتفاع بالأضحية حتى لا تذهب طعمةً للنار، أو للتراب، فللإنسان أن يأكل منها، هديةً من الله له، وأن يعطي الفقراء القسم الآخر {وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ} لتكون جزءاً من التشريع المتكامل الذي يفتح للفقير الأبواب التي تسد فاقته، وتقضي حاجته، وتسكت جوعه..
ومن خلال ما تقدمه الآية، نستوحي ما ينبغي للمسلمين فعله بالذبائح التي يمتثلون بذبحها واجب تقديم الأضحية يوم النحر، فلا يلقونها في التراب دون فائدة، مما يعطي للآخرين انطباعاً سلبياً عن التشريع الإسلامي الذي قد يتحول، من خلال ممارسة كهذه، إلى عملٍ عبثي، تدفن معه ثروة حيوانية كبيرة تحت التراب، في وقت يعاني فيه الكثير من الشعوب الإسلامية المجاعة، علماً أن القرآن أكد على استثمار تلك الأضاحي والانتفاع منها بشكل فردي أو جماعي كجزءٍ من المساهمة في حل مشكلة الفقر، وهو ما يؤدي تركه إلى إلغاء الهدف من التشريع نفسه، وإلى تجميد الحكم الشرعي في صورة ذاتية، بدلاً من أن يتحرك ليحقق لنفسه وللإنسان، مصداقية الحل الإسلامي للحياة.
وربما تحتاج المسألة إلى دراسةٍ فقهية، لتجاوز الإشكالات الشرعية التي يثيرها البعض حول المسألة، ليُصار إلى حلها من ناحيةٍ شرعيةٍ، كما تحتاج إلى دراسةٍ عملية واقعية، لمواجهة المشاكل العملية في تنظيم الذبح وتوزيعه..
* * *
الخروج من الإحرام
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} وهو ما أصابهم من الشعث والغبار ونحوهما مما تفرضه قيود الإحرام، لينظفوا أجسادهم ويقلّموا أظفارهم، ويأخذوا من شعورهم، وليخرجوا من الإحرام، لأن ذلك هو نهاية مدة الإحرام.
{وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} التي ألزموا بها أنفسهم، وقد يكون المقصود بها الإحرام، إذ إنه شبيه بالنذر لجهة ما يتضمنه من معنى الالتزام، وقد يكون المقصود به النذورات الطارئة المتعلقة ببعض قضايا الإنسان الخاصة والمهمّة لديه، {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}، ليكون الطواف نهاية العمل، وقد جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت (ع) أنه طواف النساء، لأن الخروج من الإحرام يحلل للحاج كل شيء ما عدا النساء، ولذلك فهو يحتاج إلى الطواف لتصبح النساء حلالاً عليه.. ولا يرى المسلمون الآخرون ذلك ضرورياً، وتفصيل المسألة في الفقه.
والمراد بالبيت العتيق، الكعبة، التي كانت أول بيت وضع للناس كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران: 96]، وذلك لقدم بنائها.
* * *
تعظيم حرمات الله خير مطلق
{ذلِكَ} إشارةٌ إلى ما تريد الآية تقريره من قضايا {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَـاتِ اللَّهِ} وهي الدوائر التشريعية التي أحاطها الله بنواهيه، أو المواقع التي أراد الله من الناس احترامها، فلا يتجاوزون الحدود التي كلفهم بالوقوف عندها، في ما تستدعيه الطاعة من خضوع لأمر الله ونهيه تعبيراً عن العبودية، لأن تعظيم هذه الحرمات يمثل تعظيماً عملياً لله ينال به الإنسان الدرجات الرفيعة عنده نتيجة القرب منه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} في ما يعنيه الخير من النجاح والفلاح والسعادة والفوز في الدارين، لأن الأفعال المؤثرة إيجاباً على مستوى قضية المصير، هي التي تبقى وتخلد، وتعمّق في نفس الإنسان وحياته الطمأنينة الروحية والعملية على كل صعيد.. أمَّا الانحراف عن خط الله، والتمرّد على إرادته، فإنه قد يحقق له بعض المكاسب واللذات، وقد يجلب بعض الفرح الداخلي، ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى حزن دائمٍ، وقلق عميق، بسبب النتائج السلبية التي يتركها على مستوى الدنيا والآخرة..
وقد نلاحظ أنَّ الله قد أطلق الخير في الآية، ولم يجعله متعلقاً بشيء محدد، للإيحاء بأن تعظيم الله بتعظيم حرماته، يحمل الخير كل الخير للإنسان، لأنه يمثل الخير الباقي عند الله، لأن ما عندنا ينفد، وما عند الله باق..
وإذا كانت حرمات الله تتحرك في كثير من الموارد والمواقع والأفعال، فإنها تشمل ما يأكله الإنسان من الحيوان، فقد حرّم الله أكل بعض الحيوانات، وأحلّ أكل بعضها الآخر، تبعاً لما يصلح أمر الإنسان أو يفسده، لأن أحكام الله لجهة تحليل الأشياء وتحريمها، تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في داخلها، أو في أجوائها، ولهذا أحل الله الأنعام للإنسان، ليأخذ منها غذاءه، رحمةً به، ورفقاً بضعفه..
* * *
أحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } ممّا حرّمه في سورة المائدة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. هذا إذا فهمنا المعنى الاستقبالي من الفعل المضارع في كلمة «يتلى»، لأن المائدة هي آخر ما نزل من القرآن، والمعنى: أن الله قد أحلّ لكم الأنعام إلا ما استثناه في كتابه، فحافظوا على حدوده فيها، فلا تحرّموا حلالها، ولا تحلّوا حرامها، ففي ذلك تعظيم عملي لحرمات الله في خط الالتزام.
وقد رأى بعض المفسرين أن استخدام صفة الحاضر في عبارة: {مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} كان قد نزل في سورة الأنعام، إشارة إلى استمرار التلاوة، باعتبار «أن محرمات الأكل نزلت في سورة الأنعام وهي مكية، وفي سورة النحل وهي نازلة في آخر عهده (ص) بمكة وأول عهده بالمدينة، وفي سورة البقرة، وقد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضيّ ستة أشهر منهاـ على ما روي ـ ولا موجب لجعل {يُتْلَى} للاستقبال وأخذه إشارة إلى آية سورة المائدة كما فعلوه.
والآيات المتضمنة لمحرّمات الأكل، وإن تضمنت عدة أمور كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله، إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها وما بعدها بخصوص ما أهلّ به لغير الله، فإن المشركين كانوا يتقربون في حجّهم ـ وهو السنّة الوحيدة الباقية بينهم من ملّة إبراهيم ـ بالأصنام المنصوبة على الكعبة وعلى الصفا وعلى المروة وبمنى، ويهلّون بضحاياهم لها، فالتجنب منها ومن الإهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعنيّ به من الآية، وإن كان أكل الميتة والدم ولحم الخنزير أيضاً من جملة حرمات الله.
ويؤيد ذلك أيضاً تعقيب الكلام بقوله: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوثان وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ}، فإن اجتناب الأوثان واجتناب قول الزور، وإن كانا من تعظيم حرمات الله، ولذلك تفرّع {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ } على ما تقدمه من قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}، لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلى بهما في الحج يومئذٍ، وإصرار المشركين على التقرب من الأصنام هناك وإهلال الضحايا باسمها»[4].
وهذا الرأي قريب إلى الاعتبار، ولكنه ليس متعيناً، لأن ما أهلّ لغير الله به مشترك بين الآيات المذكورة.
* * *
اجتنبوا الأوثان وقول الزور
{فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَانِ} لما تمثّله من قذارة روحية تشوّه صفاء التصور والمشاعر، لربطها العبادة بالأوثان، ولما توحيه من قذارة فكرية تمثلها حالة التخلف التي يجسدها خضوع الإنسان للأحجار الجامدة، التي لا تملك أيّة قيمة ذاتية ولا أي معنًى، ولا تنطوي على أي سر من أسرار القوّة إلا ما تصنعه الأوهام الزائفة، ولما تحركه من قذارة معنوية عملياً على مستوى أقوال الإنسان وأفعاله، فهو عندما يتعبّد لها في صلاته، ويبتهل إليها في دعائه، ويقدم لها القرابين في نذوراته، ويهلّ بها في ذبائحه، تنفذ الوثنية إلى روحه وفكره وممارساته، فيتحجّر ويتحوّل إلى مخلوقٍ محدودٍ في آفاقه، قذرٍ في مشاعره وتطلّعاته، ولهذا لاحق الإسلام كل مظاهر الوثنيّة في حياة الإنسان، ليبعده عن كلّ الكلمات والحركات والعلاقات التي تمتّ إلى الوثنية بصلة قريبة أو بعيدة، لينأى به عنها من الداخل والخارج. ولذا جاء هذا الأمر القرآني باجتناب معاني القذارة والخبث الكامنة فيها، بحيث يصبح أمر اجتنابها طبيعياً كما هو اجتناب أيّة قذارة حسيّة في الحياة، وجاء أمر اجتنابها في مناسبة الحج، عند الطواف بالكعبة أو الصفا والمروة، حثّاً لهم للابتعاد عن عبادة الأوثان التي كان يلمّ بها المشركون ويذكرونها على الذبائح أو القرابين، من أجل أن يكون الحج نظيفاً من ذلك كله.
{وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ}، الذي يمثل الباطل في الفكر والعاطفة والحياة، والذي يتحوّل إلى انحراف في الخط العملي للإنسان، لأن الكلمة تعني الموقف، في ما تعبر عنه من حركة الموقف في الداخل وفي الخارج، ولذلك فإنها قد تترك تأثيراً سلبياً على مجمل الواقع من حولها، فتشوّه صورته، وتزيّف معانيه، وتنحرف به إلى اتجاه آخر، يضيع الحقوق إذا تحوّل إلى موقف شهادة زور، ويبدل صورة الحقيقة في حركة الواقع إذا تمثل في كلمة كذب في حياة الناس، ويثير المشاعر القلقة الهائجة في مواقع الغريزة إذا انطلق في أجواء الفحش والانحلال..
إنها الدعوة إلى الابتعاد عن كلمة الباطل باعتبار أنها ضد كلمة الحق التي جاءت الرسالات من أجل تأكيد الدعوة للاقتراب منها، أو الالتزام بها، والالتصاق بمعانيها والانفعال بإيحاءاتها ومشاعرها، في الجوّ والحركة والموقف.
لتكونوا {حنفاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} مستقيمين في الحق ومائلين عن الباطل، وذلك بالالتزام بالتوحيد الخالص الذي يرفض الشرك من موقع صفاء التصور والفكر والشعور، وحركة الحق في داخل الذات..
فقد اتّخذ الإسلام موقف التوحيد في مواجهة الشرك، وموقف حق في مواجهة الباطل، وكان هدف كل عباداته ومعاملاته ومفاهيمه وقوام طريقته في إدارة العلاقات وأسلوبه في الحركة ومنهجه في الحياة، الوصول إلى هذين الأمرين، باعتبار أنهما يمثلان الخط العريض لحركة الإسلام في الفكر والتصور والعمل، وهذا ما جعل الآية تؤكد على اجتناب الرجس من الأوثان وقول الزور، في سياق الحديث عن العبادة في الحج، لأن الحج موقفٌ لتأكيد التوحيد في العقيدة والعبادة وكلمةٌ لترسيخ الحق في أعماق الذات.
وقد وردت عدة أحاديث تؤكد على تفسير الزور بالغناء، ورأى فيها الفقهاء دليلاً على حرمة الغناء، وربما جاء ذلك نتيجة المضمون الداخلي لكلمات الغناء التي كان الباطل يغلب عليها، ما يجعل تحريم الغناء مختصّاً بالمضمون الكاذب، أو الباطل فيه.. وربما كان ذلك نتيجة طبيعة اللحن الذي ينأى بالمشاعر عن الحق أو يثير الأحاسيس الغريزية والشهوات الجامحة التي تبتعد به عن طريق الهدى والحق..
وقد تحتاج دراسة مثل هذه الأحاديث الواردة في التفسير لمعرفة ما إذا كانت تتناول الكلمة في معناها الشامل، أو بعض مواردها الخاصة، لأن ذلك يؤثر على المواقف الفقهية المتخذة على مستوى القضايا العملية..
* * *
الشرك قمة السقوط
{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء } لأن التوحيد يمثل السموّ الفكري الذي يجعل الإنسان يتصل بسماوات الروح، ويلتقي بالله الواحد الذي لا إله غيره، ويشعر بأنه مهما تحرك، وإلى أيّ مكان انطلق، وفي أيّ موقع وقف، وفي أيّ أفق عاش، فسيلتقي بالله في حركة الفكر والشعور والروح والحياة، حتى أن الأرض لا تتجمد في المادّة، بل تتحول إلى حالةٍ روحيّة تلتقي بالسرّ المتحرك الكامن في كل مظاهر الحياة في داخلها، الناطق، أبداً، بعظمة الله ـ سبحانه ـ المنفتح على عمق الإبداع في ذاته المقدّسة..
وهذا ما يجعل من الشرك سقوطاً فظيعاً من الأعالي الممتدّة في رحاب الله، لأنه يرمي الإنسان في حضيض الوثنية المحدودة، التي تحجز الذات في حدود ضيقة، وتمنع الفكر من الارتفاع والسموّ، وتنصب له حواجز، فلا يتحرك إلا في أحاسيس اللذّة والشهوة، وترفع له أكثر من جدارٍ يفقد أمامه فرصة الامتداد في كل مجالات الحياة، وتقوده إلى الاختناق داخل الزوايا المظلمة التي لا يصلها النور القادم من روح الله، لأن الصنم يمثل الجمود والتحجّر الكامل ويفتقر إلى المعنى، كونه شيئاً في المادة العمياء الميتة، إذ الموت هو فقدان الحياة، وليس عدماً كان بداية حياة. ولهذا فإن الشرك يمثل حالة سقوط للإنسان، كما لو كان في السماء ثم خرّ إلى الأرض، دون أن يملك أيّ موقع للثبات، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لتذهب به حيث تشاء، فتطرحه في الأرض، أو تأكله، أو تمزقه وتتركه للرياح، فلا يملك أن يستقر من موقع إراديّ، {أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ } وهو يهوي، لتلقي به {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد لا قرار له، ما يجعله معزولاً عن حقائق الحياة، وعن قضاياها المتصلة بحركة المسؤولية، لأن الذي يفقد التصور الصحيح لله في آفاق التوحيد، لا يملك ثبات التصور وعمقه وامتداده حول الإنسان والحياة وطبيعة الصلة التي تربطهما بالله. وهكذا يسقط المشرك من مواقع السموّ إلى مواقع الحضيض، ومن مواقف الارتفاع إلى مهاوي الانحدار، في ما يفكر به ويشعر به ويعيشه في أكثر من مجالٍ من مجالات الحياة..
* * *
تعظيم شعائر الله علامة التقوى
{ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}. تحدثت الآية السابقة عن تعظيم حرمات الله، وأنه خير له عند ربّه لجهة ما يحصل عليه الإنسان من نتائج إيجابية على مستوى المصير نتيجة الوقوف عند حدود الله، والابتعاد عن محرماته، وفي هذه الآية حديث عن تعظيم شعائر الله التي تمثل العلامات البارزة في الخط الطويل الذي رسمه الله للإنسان في مسيرته إليه، وحدد له فيه مفردات العبادة والمعاملة والعلاقة والانتماء. فقد جعل الله في كل موقعٍ من مواقع الحياة علامةً على أوامره ونواهيه، في ما يصلح أمر الإنسان أو يبعده عن الفساد، ليكون التزامه بتلك الأوامر والنواهي دليلاً على طاعة الله، حيث يلتقي الإنسان به عند كل حكم من أحكامه، في مظهر حيٍّ من مظاهر الطاعة التي تتجسد في تعظيم الشعائر الدينية، تعظيماً لله.. ويتمثل ذلك في اهتمام الحاج بأن تكون الذبائح التي يقدّمها أضحيةً أو قرباناً لله لجهة شكلها وحجمها وطبيعتها، واحترامه لحدود الله عند ذبحها لتكون كاملةً غير منقوصة..
وفي ذلك دليل على التقوى التي تكمن في عمق الإنسان الذي يستشعر عظمة الله ويخشع له في حركة العبادة في الداخل، لتتحول إلى تقوى في العمل الذي هو التجسيد الحيّ للمعنى الإيمانيّ الروحي في الخارج.. وبذلك كانت العبادة في الإسلام معنًى لا يتحدد في الشكل، بما يمثله من صورةٍ ظاهرة ذات ملامح خاصة، بل يمتد إلى المعنى الداخلي الذي يعيش في المضمون على مستوى التصور في الفكر، والخشوع في الشعور، والخفقة في الروح، ليتعمّق الحضور الإلهي في وعي الإنسان، بالإضافة إلى حضوره في حركة الواقع، ليجتمع له تقوى القلب والجسد، وليتكامل الموقف من خلالهما في تقوى الحياة كلها.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} في إشارة إلى ذبائح الحجّ التي يعدّها الحاج للهدي يوم النحر امتثالاً لأمر الله، فله أن ينتفع بلبنها وبركوبها إلى الوقت المحدد للذبح أو النحر، فإن إعدادها للهدي لا يجعلها محرّمة عليه قبل ذلك، لأنها تكون ملكاً له، لا مانع من تصرفه بها بما لا ينافي تقديمها لله في العبادة.. وقد جاء في الحديث أن رسول الله(ص) مرّ برجلٍ يسوق بَدَنَةً وهو في جهدٍ، فقال(ع): اركبها. قال الرجل: يا رسول الله إنها هدي، فقال: اركبها ويلك[5]. {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وهو البيت الحرام الذي يشمل الحرم كله، وهو أرض الحرام، ومنها منى، التي تذبح فيها الأنعام للهدي.
* * *
لكل أمّة جعلنا منسكاً
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم السابقة {جَعَلْنَا مَنسَكًا} تتمثل فيه العبادة لله، ويُقدم فيه القربان الإلهي، وتذبح فيه الأنعام طاعة لله.. فقد شرّع الله ذلك في الأديان السابقة بطريقة قد تلتقي بتشريعات الإسلام، وقد تختلف عنها لجهة خصوصيات المكان والزمان والتصرف، لأن معاني العبادة الإيحائيّة تتنوع لجهة حركة الجسد في القيام والركوع والسجود، وفي الإنفاق، وفي الامتناع عن الطعام والشراب، وفي ذبح الأنعام التي رزقهم الله إياها لمنافعها، حيث يقومون بتقديمها إليه، كرمز للشكر على هذه النعمة التي تقيم حياتهم وتقوّيهم، أو كهديّةٍ رمزيّةٍ، أمام طلباتهم التي يريدون منه الاستجابة لها، أو ما إلى ذلك، مما لا يبتعد عن مصلحة الإنسان في الانتفاع بها بعد ذلك، {لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } فعليهم أن يذبحوها لله، لا للأصنام، ويذكروا عليها اسمه، دلالة على الإخلاص له، {فَإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ} فلا تشركوا به شيئاً في العقيدة والعمل، {فله أَسْلِمُواْ} أمركم كله في الكلمة والممارسة، في ما يعنيه الإسلام هنا من الخضوع والانقياد والاستسلام لكل أوامر الله ونواهيه.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } الخاشعين لله المتواضعين له، المنفتحين على عظمته، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } في خوف عميق يستشعرونه في تصوّرهم العميق الممتد في الحياة للأسرار الخفيّة والظاهرة لمواقع العظمة في خلقه، فيقودهم ذلك إلى الخضوع لإِرادته خوفاً من عقابه الذي لا يفلت منه أحد، {وَالصَّـابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ } المتماسكين أمام التحديات الكبيرة في الحياة، وأمام ما يحل بهم من بلاء مادي أو معنوي في أنفسهم وفي أهليهم وفي أموالهم، وذلك بسبب الإيمان الضارب في أعماق الذات الذي يشكل ثبات الإنسان لاتصال القلب منه مع القوّة المطلقة المتمثلة في ذات الله، {وَالْمُقِيمِي الصّلاة} التي يعرج فيها الإنسان إلى الله بروحه، ويتحرك في مواقع طاعته بجسده، حيث تصفو الروح بمناجاة الله، ويخشع القلب بذكره، ويتطهر الجسد بطاعته في مواقع الطهارة، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فيعبدون الله بالصدقة التي يقدمونها للمحرومين من خالص أموالهم، وفي ذلك تتجسّد العبادة في جوهر فكرة العطاء وحركتها مادياً، فتتكامل العبادة لدى هؤلاء، في خشوع القلب، وثبات الموقف، وصلاة الروح والجسد، وحركة العطاء..
وإذا كان العطاء المالي هو مظهر العبادة عندما ينطلق من رغبة القرب من الله، باعتبار أنه تعالى يحبّ إعانة عباده المحرومين، فإن العطاء الفكري والروحي، الذي يتمثل في ما يقدمه الإنسان من فكرٍ للجاهل ومن طاقةٍ روحيةٍ للضالّ، أو من قوة نفسية للضعيف وغير ذلك من أنواع العطاء، يمكن أن يكون عبادةً بمعناها الواحد، عندما تلتقي كل هذه الأشياء في موقف القربة إلى الله، والرغبة في الحصول على رضاه..
وذلك هو السرّ الذي يشكل قوام بناء الشخصية الإنسانية في الإسلام، في ما يجتمع لديها من عناصر الحركة كلها في الحياة أمام الله.
* * *
البُدن من شعائر الله
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ}، فقد اعتبر الله نحر الناقة السمينة عند البيت الحرام من وسائل القرب إليه كمظهر من مظاهر عبادته وطاعته، في ما يوحيه من دليل على حضور الله في وعي المؤمن وفي حركته.. {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} لما تنتفعون به من لبنها ولحمها ووبرها وظهرها عند ركوبكم عليها، وفي حملها أثقالكم من بلد إلى بلد، {فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ} قائمات قد صفت أيديها وأرجلها عند النحر، ولا تذكروا عليها غير اسمه.
وقد ذكر في صور النحر للإبل، أن أفضل صوره، هو أن يقام البعير واقفاً اتجاه القبلة وأن تعقل إحدى يديه، ويتجه الناحر إلى القبلة أيضاً، ثم يضرب في لبته بآلةٍ حادّة، من سكين أو خنجر أو نحوهما.
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت جنوبها على الأرض، وهو كناية عن خروج روحها بالنحر، {فَكُلُواْ مِنْهَا} فذلك مباح لكم، {وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ} الراضي بما يعطى من غير مسألة، {وَالْمُعْتَرَّ} الذي يتعرض لك بالمسألة لتعطيه، وكلاهما في مواقع الفقر والحاجة، {كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} وأخضعناها لإرادتكم، وجعلنا منافعها في خدمة حياتكم لتنتفعوا بها، ولتدركوا مواقع النعمة في خلقها، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله الذي خلقكم وخلقها ورزقكم ورزقها، وجعلها من موارد رزقكم، فاستحقّ عليكم الشكر بالقول اعترافاً بجميل النعمة في صنعه، وبالعمل طاعة له في أوامره ونواهيه.
* * *
التقوى سرّ العبودية لله
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دماؤها} فإن الله غنيٌّ عنها وعنكم، لأنه هو خالقها وخالقكم، فلم يتعبدكم بنحرها لترجع منفعتها إليه، تماماً كما هو الحال في العبادات كلها، التي لن يرجع منها شيءٌ إليه، لأنه الرب الغني عن عباده، الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، {وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} في ما يعبر عنه موقف العطاء المادي بلا مقابل تقرباً إلى الله، من حركة داخلية تنمّي التقوى في النفس، وتثيرها في الواقع، ذلك أن الممارسة كلما امتدت في حياة الإنسان، كلما عمقت تجربته الروحية في الداخل، بحيث تصبح الحركة على المستوى العملي هي السلوك الذي يختزن الحالة الروحيّة في المعنى، وبذلك تصبح الممارسة أسلوباً في التربية التي تبني الداخل وتحدد ملامح الشخصية، الأمر الذي يجعلنا نسعى إلى تعميق الفكرة في النفس، عبر تكرار العمل الذي يطبع معناها ويعكسه في الواقع.
والتقوى حالة روحيّة يتحسس الإنسان من خلالها في قلبه وروحه سرّ العبودية لله، لجهة وعي المسؤولية وتجسيدها حركة في الواقع، في شعور عظيم بالحضور الإلهيّ الذي يحيط بكل ما حوله ومن حوله، وما فوقه وما تحته، لأن الله هو المهيمن على كل شيء، والخبير بكل سرّ وعلانية، وهو على كل شيء قدير.
وهي التي يمكن أن تضبط خطوات الإنسان في دروب الله، وتحقق نظام الحياة في نطاق إرادته، وتملأ الدنيا حركةً في المسؤولية، ومسؤوليةً في الالتزام، والتزاماً بالله في كل شيء، ولذلك كانت هدف الأهداف في كل تشريعات العبادة في جميع مجالاتها وأنواعها، وعلى اختلاف خصائصها القولية والفعلية.
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وتسبحوه وتعظّموه، وتستحضروا عظمته، وتتذكروا نعمته، وتتطلعوا إلى أسرار الإبداع في خلقه، والقدرة المطلقة في قوّته، فإن الالتفات إلى مواقع هداية الله توحي بذلك كله.. {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} الذين عاشوا الحياة إحساناً في الفكر والقول والفعل، على مستوى قضايا الحياة والإنسان، في خط إرادة الله، في أوامره ونواهيه.
ــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:7، 126.
(2) تفسير الميزان، ج:14، ص:372.
(3) تفسير الميزان: ج:14، ص: 376.
(4) تفسير الميزان، ج:14، ص:373.
(5) تفسير الرازي، م:12، ج:23، ص:33.
تفسير القرآن