تفسير القرآن
الحج / من الآية 39 إلى الآية 41

 من الآية 39 الى الآية 41

الآيــات

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير* الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّه ُوَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ في الأرض أَقَامُواْ الصّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} (39ـ41).

* * *

معاني المفردات

{صَوَامِعُ}: جمع صومعة، وهي: بناء في أعلاه حدة كان يتخذ في الجبال والبراري، ويسكنه الزهّاد والمعتزلون من الناس للعبادة، والأصمع ـ كما يقول الراغب ـ: اللاصق أذنه برأسه، وقلب أصمع: جريء، كأنه بخلاف من قال فيه: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هواء}[1] [إبراهيم: 43].

{وَبِيَعٌ }؛ البِيَع: جمع بيعة ـ بكسر الباء ـ وهي معبد لليهود والنصارى.

{وَصَلَوَاتٌ }: جمع صلاة، وهي: مصلى اليهود، سمّي بها تسمية للمحل باسم الحال[2]. وأصل الصلاة من الصّلاء، قال: ومعنى صلّى الرجل: أي أنه أزال عن نفسه بهذه العبادة الصِّلاء الذي هو نار الله الموقدة.. ويسمى موضع العبادة الصلاة، ولذلك سميت الكنائس صلوات كقوله: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ}[3].

{وَمَسَاجِدُ}: جمع مسجد، وهو موضع الصلاة اعتباراً بالسجود، ويطلق على معبد المسلمين. والمساجد ـ أيضاً ـ مواضع السجود: الجبهة والأنف واليدان والركبتان والرجلان، كما في مفردات الراغب[4].

* * *

الرسول يقود الصراع السلمي في مكة

كانت المرحلة التي تلت النبوّة في مكة، مرحلة الدعوة إلى الإسلام بكل الأساليب السلمية، وقوامها الكلمة الطيبة، والأسلوب الهادىء، والابتسامة الحلوة، والقلب المفتوح، والعقل المنفتح، والصبر على التحديات، باعتبار أن نجاح الإسلام في الوصول إلى الناس في المستقبل أمر محسوم من خلال وضوح أفكاره وتشريعاته ومناهجه ووسائله وأهدافه، وهو وضوح قد يحجبه غبار التخلف والجهل والعصبيّة المتصاعد، إلا أنه لا يلبث أن ينجلي ويفرض نفسه في نهاية المطاف.

وهكذا كان رسول الله ليّناً في كلامه، رقيقاً في أسلوبه، رحيماً في قلبه، منفتحاً في عقله، لطيفاً في ابتسامته، في الوقت نفسه الذي كان فيه ثابتاً في موقفه، صلباً في رسالته، حاسماً في قراره، مصرّاً على دعوته، يتقبل التحديات بصبرٍ ووداعةٍ وانفتاحٍ وإيمانٍ، ويتحمل الشتائم والإهانات، والكلمات القاسية الموجّهة إليه من قبل المشركين، ويتابع دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن، ويقودهم إلى الأخذ بالأساليب الهادئة، وبالتفكير الموضوعي العقلاني في سبيل الوصول إلى الحقائق.

وكان المسلمون يتعرضون للعذاب وللاضطهاد والتعسف، فيصبرون تارةً، ويتشنجون أخرى، ويعبّرون عن انفعالهم أمام رسول الله(ص) بالكلمات الثائرة والأساليب القويّة، التي تستعجل فتح المعركة مع المشركين، ما داموا قد بدأوها بوسائلهم التعسفية الضاغطة المثيرة، ويعلنون له بأنهم قادرون على تحقيق النصر إذا ما اجتمعت كلمتهم على موقفٍ واحدٍ متحد، أو على إظهار القوّة في ساحة المواجهة، على الأقلّ، ما قد يدفع هؤلاء الذين يتعسفون في حقهم ويعملون على اضطهادهم وخنق حريتهم، إلى أن يحسبوا ألف حساب قبل قيامهم بذلك، لأنهم سيكيلون لهم الكيل كيلين، والصاع صاعين.. وليس مهماً أن يموتوا كلُّهم أو بعضٌ منهم نتيجة المواجهة، فإن ذلك أهون من الذل الذي يعيشونه بين قومهم، وهم يملكون أن يكونوا في موقف العزّ، إذا ما فعلوا ذلك.

ولكن النبي كان يقول لهم: إني لم أؤمر بقتال، لأن المسألة مسألة رسالة تبحث عن مفتاح سحريّ تفتح فيه العيون والعقول والآذان على الحق في حركتها وفي مفاهيمها وشريعتها وغاياتها، وتريد الوصول إلى هذا الهدف من قِبَل المؤمنين بها والرافضين لها، حيث يقوم المؤمنون بالإعلان عنها، والدعاية لها، بترويج قناعاتهم الإيمانية بأنها تمثل الحق الذي لا ريب فيه، أمَّا الكافرون، فيثيرون الانتباه إليها، عبر ما يوجهونه إليها وإلى الرسول من اتهامات، أو عبر اضطهادهم للمؤمنين بها، ما يثير التساؤل في نفوس من لم يسمعوا بها، أو ينتبهوا إليها، ويحثّهم على الانفتاح على ما تطرحه من موقع التفكير والتأمّل والحوار، الأمر الذي قد يوصلهم إلى الإيمان من أقرب طريق..

وهكذا كانت الدعوة الهادئة هي السبيل لانتشار الإسلام في الجزيرة العربية، كرسالةٍ جديدة تثير الجدل، وكحدث بارز يبعث على الاهتمام، لا سيما وأنَّ الصراع يستهدف قريشاً التي تقف في موقع الزعامة الدينية والثقافية والتجارية لموقع مكة في حياة العرب، ما يجعل لبروز الرسالة فيها أهمية تفوق الأحداث العادية في مكانٍ آخر، مع أناس آخرين.. وهكذا دخلت مفردات الرسالة العامة في حياة الناس من خلال أسلوب الصراع السلمي الذي قاده رسول الله(ص) في تلك المرحلة..

وقد يكون موقف المظلوم والمضطهد في بعض الحالات، سبباً في إثارة العطف وتهيئة جو التعاطف النفسي معه، أكثر من موقف المقاتل والمعتدي والمتحدي، وقد يكون تفجير الصراع عبر القتال سبباً في توجيه نظر الناس إلى المعركة، وصرفهم عن عمق المعاني التي تكمن خلفها وتنطلق معها، ما يمنع وصولهم إلى حقيقة القضية التي يدور فيها الخلاف وينطلق منها النزاع.. لهذا كان لا بد من مرحلةٍ تأخذ الدعوة فيها حريتها في الحركة والانفتاح، وفي التخطيط الواعي للوصول إلى قناعات الناس وأفكارهم.

ولهذا كان النبي يأمر البعض بالصبر، ويأمر البعض الآخر بالهجرة.. للتخفّف من الضغوط القاسية التي قد لا يتحملونها، وللانفتاح بالدعوة على جماعات أخرى، كما حصل في الهجرة إلى الحبشة، أو للقيام بمهمة الإعداد للمجتمع الإسلامي الجديد، كما في الهجرة إلى يثرب.

* * *

فكرة الدعوة... محل نقاش

على أساس هذا الأسلوب المرحلي الذي اتّبعه النبي في الدعوة، يستوحي البعض أن العمل للإسلام يستدعي توزيعه على عدة مراحل، بحيث لا ننتقل إلى مرحلة جديدة إلا بعد استكمال المرحلة السابقة، وهو وفق نظرتهم هذه يوزعون مراحل الدعوة على ثلاث: أولها: مرحلة الدعوة التي لا يجوز العمل السياسي فيها ولا الدخول في صراع مسلّح مع القوى المعادية خلالها. ثانيها: مرحلة العمل السياسي للوصول إلى الحكم والهيمنة السياسية على الواقع كله، وهي مرحلة تحتاج إلى كثير من الجهد للوصول بالأمّة إلى النضج في اتخاذ قراراتها، أو الوصول بها إلى مواقع متقدمة في ساحة المسؤولية العامة. ثالثها: مرحلة الجهاد المسلّح، الذي تواجه فيه الأمة التحديات من مركز القوّة على كل صعيد.

وإذا كان التخطيط في العمل الإسلامي بهدف الوصول إلى الحكم والامتداد في حياة الناس الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ضرورياً برأينا، وكانت دراسة كل مرحلةٍ من مراحل العمل بدقةٍ وموضوعيةٍ، للتعرف على طبيعة تأثير الإسلام في الواقع، وتأثر الناس به، كقوّةٍ فاعلةٍ متحركةٍ في ساحة التحدي، أو ردّ التحدّي، لمعرفة ما يجب علينا أن نفعله أو لا نفعله في المرحلة اللاحقة، أمراً ضرورياً أيضاً، إلاّ أنّ الحديث عن المرحلية بهذه «الطريقة الهندسية» التي تضع حدوداً دقيقة لكل مرحلة، بحيث تمنع أية مرحلة لاحقة من التداخل مع المرحلة السابقة أو الاقتراب منها، قد لا يكون واقعياً بالمعنى الدقيق للكلمة لعدة أسباب:

أوّلاً: إن ساحة الدعوة إلى الإسلام كبيرة وتشمل بلداناً كثيرة من العالم، ما يفرض تنوّعاً في الأسلوب بين البلاد الإسلامية وغيرها، فالدعوة داخل البلاد الإسلامية تتعلق بالتفاصيل، أو بتشكيل مفاهيم جديدة يستخرجها الداعية من الأحكام الشرعية، ومقارنة تلك المفاهيم مع مفاهيم المبادئ الأخرى، بأسلوب معاصر، في سياق مواجهة التحديات الثقافية التي تفرض نفسها على الواقع الإسلامي من الخارج.. أما في البلاد غير الإسلامية، فقد تحتاج الدعوة إلى عرض مفاهيم الإسلام العامة، وتوضيح خطوطه العريضة، ولكن بطريقة تختلف عن الطريقة التي استخدمت في صدر الإسلام، وإن كانت تلتقي معها في بعض الأجواء..

ثانياً: إن حركة المبادئ تختزن في داخلها حركة سياسية، باعتبارها محاولةً لنسف القواعد الفكرية التي يرتكز عليها هذا الفكر السياسي أو ذاك، لأن التعقيدات المعاصرة جعلت السياسة جزءاً من الاتجاه الفكري بعد أن كانت شأناً ذاتياً، أو جزءاً من حركة الواقع على مستوى السطح، ما جعل ساحة الصراع السياسي متداخلة مع ساحة الصراع الثقافي، في الخطوط العامة والتفاصيل، وفي حركة الواقع، فلا يستطيع العاملون الابتعاد في حركتهم عن السياسة خلال المرحلة الثقافية، لأن الآخرين لا يسمحون لهم بذلك.

ثالثاً: إن التوعية الفكرية تحوي من التعقيدات ما قد يفرض استخدام أساليب متنوّعة في التثقيف والتعبئة الثقافية لدى الأمّة، ومنها أسلوبا الجهاد والممارسة السياسية، لتوعية الأمّة بالقضايا المصيرية وبالتحديات الكبيرة التي تواجهها، التي لا ينفع في الوصول إليها أي أسلوبٍ آخر، لأن هذين الأسلوبين يعطيان للثقافة حيويةً دافقة في تشكيل الوعي، بينما يمثل الأسلوب التقليدي أسلوباً جامداً تتنقل فيه الخطوات ببطء، وتنطلق معه المواقف ببرودةٍ وهدوء، الأمر الذي يفرض التداخل بين التحرك الثقافي والتحرك السياسي والجهادي.

رابعاً: إن واقع التحدّي قد يحمل للإسلام بعض الفرص التي تسنح بتحقيق انتصارات حاسمة على الساحة، إذا ما تمّ استغلال تلك الفرص في العمل السياسي أو الجهادي للضغط على مواقع الأعداء وإسقاطهم، ذلك أن ترك ذلك في وقته قد يتسبب في ضياع أكثر من فرصة للتحرير، أو للتثوير، أو في تحقيق مكاسب كبيرة على مستوى المستقبل. من هنا، لا بد من التفكير في استخدام أساليب تجمع المسألة الجهادية بالمسألة الثقافية، ليلتقيا بالمسألة السياسية التي تكون عبرهما أرضاً قوية صلبة وثابتة.

من خلال هذا العرض الموجز، نريد التأكيد على أنّ حركة الدعوة إلى الإسلام على المستوى الثقافي والسياسي والجهادي، لا تتأطر في خطوط عامة ترسم بشكلٍ دقيق، بل تحتاج إلى مرونة تتداخل فيها المراحل، أو تبعاً لما يستدعيه الواقع، ما قد يفرض على الدعاة ملاحقة تطورات الواقع بشكل دائم ودراسة التأثيرات السلبية أو الإيجابية لأساليب العمل المستخدمة في الدعوة إلى الإسلام، للاستفادة من ذلك في الوصول إلى النتائج العملية الحاسمة على أكثر من صعيد، من أجل أن تكون الحركة الإسلامية قريبةً من الواقع، وبعيدةً عن المثالية في التصوّر والممارسة.

* * *

بدء مرحلة القتال

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} لقد انتهت المرحلة التي كان اللجوء إلى العنف والقتال في ساحتها أمراً سلبياً، لأن ذلك كان يشكل خطراً على التخطيط لانطلاقة الدعوة في الجزيرة العربية، وللتحضير للمجتمع الإسلامي الأوّل في يثرب، فقد شكّلت يثرب أرضاً صلبة جديدة للإسلام، حيث بدأ يتحرك في نطاق واسع يملك أكثر من عمقٍ في محيطه، الأمر الذي يحميه من حالة الاهتزاز والسقوط أمام ضغط المشركين، ويجعله قادراً على فرض التحدي عليهم، أو على مواجهة تحدياتهم الكبيرة.

وهكذا جاء الإذن للمؤمنين بالقتال، معلَّلاً بالحيثيّة الإنسانية التي تبرّره رسالياً كونه شرطاً لتحقيق التوازن الإنساني على مستوى حركة الواقع، فهم يقاتلون كردّ فعلٍ على قتال الآخرين لهم وظلمهم إياهم، ويخوضون القتال المفروض عليهم للخروج من الظلم الذي مارسه المشركون بالضغط عليهم وخنق حريتهم. ولا بدّ لأيّة شريعةٍ سماويّةٍ أو أرضية من أن تمنح المظلومين حق الدفاع عن أنفسهم، وتكفل لهم حرية ممارسة ذلك، إذا أرادت للحياة أن تسير في خط العدل، وأرادت للإنسان أن يؤكد معناه في حركة الواقع، وهي إن لم تفعل ذلك، تحوّلت الحياة إلى فرصةٍ للظالمين يصادرون فيها حرية المظلومين، وهو أمر تأباه قاعدة التشريع الإنسانية، ولا تقتضيه العدالة الإلهية. وهكذا لم تكتف الآية بتقرير الإذن الإلهي بالقتال، بل أضافت إليه الوعد بالنصر الحاسم وذلك في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فلينطلقوا إلى القتال من موقع الشرعية والوعد الإلهي بالنصر، وليعيشوا الثبات والقوّة القادرة، بكل اندفاع واتزان.

{الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} وهذا ما يضيف إلى الظلم ظلماً جديداً، فقد يظلمك الظالمون، فيخنقون حريتك في الكلمة والحركة ووسائل العيش ومواقع الحياة، ويضيّقون عليك الساحة الواسعة، ولكنهم مع ذلك يتركونك مع أهلك وولدك، في أرضك التي ولدت فيها وترعرعت، وعمّقت جذورك في جذورها، حتى أصبحت جزءاً منها، وأصبحت جزءاً منك، وهكذا فإن وجودك في أرضك مع أهلك وأحبائك، وما تلقاه من المباهج فيها، يشعرك ببعض التعويض عما تصادفه من الالام فيها.. ولكن الذين يفرضون عليك الغربة، ويخرجونك من أرضك، ويقتلعونك من جذورك، بعد أن يضغطوا على حريتك، ويمنعوك من اختيار النهج الذي تتخذه لنفسك في الحياة، والفكر الذي تتبناه، والحركة التي تختارها، هؤلاء الذين يشردونك ويبعدونك عن ملاعب صباك، لا لشيء إلا لأنك تؤمن بالله الواحد، وتعلن إيمانك هذا تقريراً للحقيقة الكونية التي ينطق بها الكون بأسره وتقول {رَبُّنَا اللَّهُ } في مواجهة كلّ شرك وثنيٍّ يشوّه الحقيقة، ويبعد الإنسان عن صفاء التصوّر للعقيدة وللعبادة وللحياة.. هؤلاء هم الظالمون البعيدون عن خط العدالة الإنسانية، لذا فإن قتالهم ما هو إلاّ لدفع ظلمهـم المزدوج، وماهو إلاّ عمل إنساني خدمة للإنسان في الحياة، وخدمة للحياة بتأكيد خط العدالة فيها.

* * *

فطرة التدافع.. توازن الحياة

{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً}.

إن حركة الصراع والتجاذب بين الناس، تكفل للواقع التوازن الدائم بين قواه وتحفظ للحياة استقرارها وامتدادها وحيويتها، حيث لا تعود السيطرة على الناس وقهرهم مقتصرة على قوة واحدة دون غيرها، وبذلك يقي ميزان القوى الذي يرتفع في موقع، وينخفض في آخر من وقوع ذلك، أو يمنعه بأسلوب مباشر، إذ هو يشكّل عاملاً نفسياً يمنع البعض من الاعتداء على الآخرين تحت عنوان الخوف، أو يدفع البعض لتشكيل قوتهم لمواجهة القوى الأخرى. من هنا كانت إرادة الله سبحانه تقتضي عدم حصر القوّة في قطب واحدٍ في الحياة، بل وزعها سبحانه على الناس جميعاً، ليدفع بعضهم عن بعضهم الآخر، في ما يهيّئه من وسائل واقعية تخدم ذلك. ولذلك كان تشريع القتال منسجماً مع هذه السنّة التي فطر الله الطبيعة الإنسانية عليها، فقد أودع في الإنسان الكثير من الحوافز الغرائزية التي تتحفز لمواجهة أي خطر من الآخرين يهدد الذات، بتعطيل أو إرباك أي مرفق من مرافق حياتها، أو بالتأثير على أيّة مصلحةٍ من مصالحها، لتستمر الحياة الاجتماعية للناس في نظام دفاعي ذاتيّ متوازن..

بالتالي، فإن هذا الإذن الإلهيّ في القتال، انطلق من طبيعة الفطرة الإنسانية التي تستدعيه، وهي طبيعة قد تنحرف عن الاتجاه السليم، ولكن الله أراد أن يؤكد ضرورة القتال على أساس القيم الإنسانية الروحية التي تحركه في الاتجاه الصحيح، الذي يحمي الإنسان، ويمنعه من البغي والعدوان.

وهكذا، نرى في قوله تعالى: {ولولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إشارة إلى سنّة الاندفاع الفطري لمواجهة الأخطار التي تهدد مصالح الإنسان الخاصة والعامة، وقد لا تكون مختصة بالقتال فقط ـ كما يرى البعض ـ بل بكل الوسائل الفكرية والعملية التي يستخدمها الناس في ساحات الصراع، وقد لا تكون هذه السنّة مقتصرةً على الإنسان، بل تشمل بقية الموجودات الحية، من حيوانات وغيرها، إذ إن الله أودع فيها حافزاً فطرياً للدفاع عن نفسها بأكثر من وسيلةٍ، لتحقيق التوازن في مجتمعاتها من خلال توازن القوى وتكافؤ الفرص، وتساوي المواقع.

ولكن دلالة الآية على ذلك قد تكون بالإيحاء لا بالمدلول اللفظي للكلمة، فالظاهر أنها جارية في أجواء الدفع القتالي في حركة القوّة، لأنها أكّدت على منع تهديم المعابد التي هي مظهر حيويّ من مظاهر الحرية الإنسانية على مستوى الالتزام بالإيمان بالله على طريقةٍ خاصّة، وهي حرية ذات تأثير على وجود الإنسان ذاتاً وحركة في الحياة، فمسألة الحرية لا تقع على الهامش بالنسبة لتشكيل الذات، بل تقع في الصميم، لأن مَن لا حرّية له، لا إنسانية له، ذلك أن الضغط على الحرية يمثل إلغاءً للإنسانية، لا سيما إذا كان ضغطاً يطال حريته في الإيمان بالله، وهو إيمان يضع الإنسان على الخط المستقيم الذي يعبّر عن سرّ الوجود وفكرته وحركته، وطبيعة العلاقة بالله وبالإنسان والحياة، ما يوحي بأنّ الدفاع عن الإيمان أمرٌ حيويٌّ بالنسبة إلى وجود الإنسان، في سبيل القضايا الكبيرة في حياته، ما يجعل دفاعه دفاعاً عن القاعدة الروحية الثابتة في شخصيته، باعتبار أنّ إيمانه بالله هو مرجع سلوكه الفردي والاجتماعي النابع من داخله، المتحرك في حركته في الحياة مع الآخرين.. وهكذا كان دفع الناس بعضهم ببعض تأكيداً على حريتهم في العبادة في مواجهة التحديات، ليكون المسجد والصومعة والبيعة، الساحة التي يلتقي فيها الجميع ليعبدوا الله، وليكتشفوا في داخلهم سرّ العبودية لله الواحد، وليتمردوا ـ من خلال هذا الوعي ـ على كل مظاهر تأليه الإنسان، فتكون الحياة كلها لله، من خلال كون الدين كله له.

ولعل التعبير بالدفع الذي يعني حركة التحدي بطريقةٍ دفاعيةٍ أو وقائية، يوحي بالمعنى الإنساني الذي يبتعد عن العدوان في خط الهجوم ويتحرك في خط حماية الحياة والحرية في دائرة ردّ العدوان..

إنها سنّة الحياة وفطرة الله التي ينطلق منها الإنسان بشكلٍ طبيعيّ عفويٍّ لا يحتاج تشكيلها إلى تعقيدات التربية، بل إلى نوعٍ من التخطيط والتنظيم الذي يعرّفه كيفية المحافظة على الخطوط التفصيلية في أوضاعه وعلاقاته وخطواته، ليحفظ حركته ـ في هذا الاتجاه ـ من الاهتزاز أو الانحراف أو السقوط، بفعل العوامل الذاتية أو الخارجية التي قد توحي له بالشرّ في طريق الخير، وبالانحراف في خط الاستقامة، ليعرف هل هو سائر في الاتجاه الصحيح أو الخاطىء.

* * *

الله ينصر من ينصره

{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} من خلال ما يهيِّئه له من وسائل النصر من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، وما يثيره في داخل نفسه من عوامل القوّة الروحية، مما قد يحقق كثيراً من شروط النصر، على المستوى المادي والمعنوي.. وربما تتدخل القوّة الإلهية ـ في بعض الحالات ـ بطريقةٍ غيبيّةٍ تمهد بعض الأجواء التي قد لا تتحقق بدونها. وعلى كل حال، فإن النصر الإلهي مهما اختلفت وسائله، فإنه لا يبتعد عن السنن الإلهية المودعة في الكون بالطريقة المألوفة، أو غير المألوفة، في ما يأخذ به الإنسان من أسباب النصر، التي هي ـ في عمقها الكوني والإنساني ـ من الله الذي خلق الأسباب والمسبّبات، سواء كانت بطريقةٍ مباشرةٍ، أو غير مباشرةٍ.

{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} فلا يستطيع أحد منعه من تحقيق ما يريد، لأن قوته هي القوّة المطلقة التي لا تقف عند حد، ولا يملك أحد أن يقف أمام إرادته، في ما يحكم به أو يقدّره، لأنه العزيز الذي لا يستطيع أحد أن ينتقص من عزّته شيئاً.

{الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ} لأن محاولتهم الحصول على القوّة تنطلق من موقع الإيمان المسؤول، الذي يتحرك من خطّةٍ دقيقة قوامها الإخلاص لله في العبادة، والمسؤولية تجاه الإنسان في روحية العطاء، ومواجهة الواقع بإقامة الحقّ وإزهاق الباطل، لما يمثله الأمر بالمعروف من الأمر بالحق في حركة الفكر، على مستوى النظرية والتطبيق، ولما يمثله النهي عن المنكر من رفض للمنكر، على مستوى الخط والممارسة.. في المجالات العامة والخاصة..

هؤلاء الذين يعيشون المسؤولية في مواقع العطاء، ويتحركون به في آفاق الإخلاص لله، ويعتبرون ما يملكونه من القوّة فرصةً للوصول إلى أهدافهم الكبيرة، وهي إقامة الحياة على أساس الحق المنطلق من الله، لا امتيازاً ذاتياً غايته الحصول على مكاسب ذاتية لجهة تحقيق الأطماع المادية والشهوات الحسية.. هؤلاء هم الذين ينصرهم الله بنصره، لأن في انتصارهم انتصاراً للرسالات، وحمايةً للإنسان من كل القوى الشريرة التي تدمّر إنسانيته، وتنحرف به عن الاتجاه الصحيح.

{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاُْمُورِ} فهو مالك الأمور كلها، وهو المبدىء والمعيد، منه البداية وبيده النهاية، وإليه المرجع في كل شيء.. ومهما امتدّ الإنسان في طغيانه، أو تعاظم في قوته، أو تمرّد في حركته، فلن يستطيع أن يملك أمر نفسه، فكيف يملك أمر غيره؟! فالله هو المهيمن عليه وعلى حركته، وله عاقبة الأمور كلها في جميع المشاريع الخاصة والعامة.

ــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:294.

(2) تفسير الميزان، ج:14، ص:387.

(3) مفردات الراغب، ص:293.

(4) (م.ن)، ص:229.