تفسير القرآن
الحج / من الآية 42 إلى الآية 51

 من الآية 42 الى الآية 51

الآيــات

{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ* وَقَوْمُ إِبْراَهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ* فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهي ظَالِمَةٌ فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ* أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِي الصُّدُورِ* وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آياتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (42ـ51).

* * *

معاني المفردات

{نَكِيرِ}: النكير: الإنكار.

{خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}: خالية، أي: ساقطة جدرانها على سقوفها، فهي خربة.

{مَّشِيدٍ}: المشيد: قيل: المرتفع من الأبنية، وقيل: إن المشيد ما طلي به الحائط من جص.

{مُعَاجِزِينَ}: جمع معاجز، من عاجزه معاجزة، أي سابقه ليظهر عجزه.

* * *

تكذيب الأنبياء ظاهرة تاريخية

وهذا حديثٌ عن المسيرة الطويلة للنبوّات قديماً التي استخدمت في انطلاقتها الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وبالكلمة الطيبة التي تفتح عقول الناس وقلوبهم على الحق، فواجه المجتمع ذلك بالرفض والتعسف، أو اللامبالاة والاستهزاء، ولكنّ الأنبياء لم يتراجعوا ولم يسقطوا، بل أكملوا المسيرة حتى أتاهم أمر الله..

وهي قصة الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، التي تصدم تخلّف المجتمع، بما يحمله من أفكار، أو ما يعيشه من أوضاع، أو يلتزمه من مواقف، ما يجعل الناس يخافون أيّة فكرةٍ جديدةٍ تسعى إلى التغيير، لأنهم لا يريدون الخروج من أجواء التخلّف التي ألِفوها حتى تحوّلت إلى جزء من تكوينهم الشخصي، ولهذا فهم يهربون من الأنبياء والمصلحين بكل الوسائل، بالامتناع عن الاستماع إلى كلامهم، أو الرفض للحوار معهم، أو العمل على اضطهادهم، أو السخرية منهم، أو إخراجهم من بينهم، لأنهم يرون فيهم التحدي لواقعهم، والهزيمة لمفاهيمهم أو لعاداتهم وتقاليدهم الموروثة من الآباء والأجداد، وقد يموت الأنبياء والمصلحون بعد ذلك، ولكن الرسالات تبقى وتنفذ إلى الأعماق بطريقةٍ خفيّةٍ من حيث لا يشعر الناس، لأن الرفض للفكرة يختزن ـ غالباً ـ وعياً عميقاً لمفرداتها يؤمّن التفاعل معها بهدوء، لتتحول إلى قناعات فكرية بعد ذلك، وهذا ما يمنع الدعاة إلى الله من اليأس عندما يواجهون الرفض في الطريق، لأنهم يرصدون أملاً جديداً للدعوة في المستقبل عندما تسقط الأغشية عن عيون الرافضين تحت تأثير ما ينفذ من مفردات الدعوة إلى منطقة اللاشعور فيهم.

وقد يمتد بالكافرين الزمن، ولكن الله يتدخل لنصرة رسله، بوسائل العقاب الدنيويّ الذي ينزله عليهم بعد استكمال الحجّة، ليفسح المجال لجيل جديد، لا يحمل النفسية المعقّدة التي يحملها الجيل القديم..

والله في آياته هذه يتحدث مع رسوله محمد (ص) عن كل هذا التاريخ، ليعيش هذه التجربة الطويلة، وليعرف أن ما يحدث له الآن، قد حدث للأنبياء من قبله، وأن الله سينصره كما نصرهم، وأن الرسالة لا بد من أن تستمر حتى تفتح قلوب الناس على الله، وحياتهم على الحق.

* * *

إن يكذّبوك فقد كذبوا من قبلك

{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} يا محمد، في ما يواجهك به قومك من أساليب الرفض المتنوعة للرسالة، {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ *وَقَوْمُ إِبْراَهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى} ولم يتراجع كل أولئك الأنبياء، بل تابعوا الدعوة وأكملوا المسيرة حتى تمكّنوا من تأكيد رسالتهم وفرضها. {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} وتركت لهم مجال الامتداد في كفرهم ليستكملوا كل التجربة، وليأخذوا وقتهم بحيث تقوم الحجة عليهم، ولا يكون للناس على الله حجة على هذا المستوى، لجهة الفرصة التي يملكونها، أو المدة التي يأخذونها، ولكن الله يمهل ولا يهمل، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } بالعذاب بكل قوّةٍ، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} في ما يمثّله من الإنكار البالغ في شكله وطبيعته، ومن الأخذ الشديد.

{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} فتطلّعْ إلى ما حولك من بقايا البلاد التي كان يسكنها هؤلاء، فكم من قريةٍ من قراهم أهلكنا أهلها وأخذناهم بالعذاب، {وَهِىَ ظَالِمَةٌ} كونها واجهت الرسالة مواجهة شديدة ورفضت كل مفاهيمها وشرائعها، فظلمت نفسها، كما ظلمت الحياة من حولها، فاستحقّت بذلك العقاب الشديد، والهلاك المحتوم، {فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} سقطت جدرانها على سقوفها، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أي وكم من بئر معطلة باد أهلها وماتوا، فليس هناك من يستقي منها، أو ينزل عليها، {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} أي وكم من قصر مشيد لا ترى فيه أية حركةٍ، فقد هلك كل سكانه، فلا تبصر لهم شبحاً، ولا تسمع لهم حسيساً.. ولعل تنويع الحديث عن البئر والقصر، يعود إلى أن أصحاب الآبار هم البدو، وأن أصحاب القصور هم الحضر.

* * *

المعرفة وليدة الفكر والحسّ الواعي

{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} لأن العقل يتغذى من الملاحظات الدقيقة التي تكوّنها آثار التجارب التي عاشها الآخرون، وممّا يمكن أن يستخلصه منها من نتيجة حاسمة على صعيد حركة الإيمان بالله في الحياة، فإن الله خلق للإنسان العقل ليحركه في دراسة الأشياء واستنتاج الأفكار منها، لا ليجمّده في أجواء الغفلة، أو في ما يرضي الذات.. {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} في ما يستمعون إليه من آيات الله التي يتلوها عليهم الأنبياء، أو من المواعظ البليغة التي يقدّمها الوعّاظ مما ينفعهم ولا يضرّهم، أو من النصائح التي يقدمها إليهم الناصحون مما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة، فإن الله قد خلق للناس الاذان لتكون النوافذ التي تطل على القلوب، فتعطيها كل ما فكر به الآخرون أو أثاروه في حديثهم، لتكون بذلك انطلاقة في الوعي، وحركة في الفكر، ووضوحاً في الرؤية للأشياء...

ولكن مشكلة هؤلاء أنهم يعيشون العمى في حياتهم، فيتخبطون في أفكارهم ومواقفهم، ويفقدون الرؤية الواضحة للأشياء، وليس هذا العمى ناشئاً من فقدان النور في عيونهم، فهم يملكون عيوناً حادّة البصر، ولكنه عمى القلب الذي يغلق فيه الإنسان بجهله وعناده كل نوافذ المعرفة التي تطل به على الله.. وذلك هو العمى كل العمى، لأن عمى البصر لا يُسقط الإنسان تماماً، ولا يمنعه من التعرف على ما حوله من الأشياء، كونه يستطيع تحسسها بيده، أو بعصاه، أو بالاستعانة بالآخرين، أمَّا عمى القلب، فإنه يمنعه من تحديد الموقف أمام كل القضايا المطروحة التي تتصل بالمصير، ما يجعل من الإنسان لعبةً للرياح التي تعصف بالواقع، أو خشبةً تتقاذفها الأمواج، فلا يملك معها أن يحدد طريقه في اتجاه النجاة.. ولهذا جاءت الآية لتؤكد هذه الحقيقة: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَـارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.

وهذه اللفتة القرآنية التي تؤكد قيمة العقل الكبيرة ـ الذي يعبر عنه القرآن بالقلب ـ في حياة الإنسان التي تدفعه إلى أن يعقل ويهتدي به، فلا يجمّده ويستسلم إلى رواسبه المتخلفة ليشدّه ذلك إلى عمق الهاوية في المصير. إن هذه اللفتة توحي بأن للعقل مركزاً حيوياً في معرفة الإسلام، باعتباره القوّة الحقيقية التي تخطّط للحياة من موقع الثبات والتوازن والعمق والانفتاح.. وأن المجتمع العاقل هو المجتمع الذي ينفتح على الإيمان بالله من أقرب طريق، ويتحرك في الحياة من موقع المسؤولية. من هنا، كانت الفكرة التي تقول إن المجتمع الجاهل هو مجتمع الإيمان فكرة خاطئة لا أساس لها، وإن هذه اللفتة القرآنية في تأكيدها على دور العقل، تفرض على القائمين على شؤون الإسلام في الدعوة والواقع العمل على التخطيط لحركةٍ عقليةٍ نشيطةٍ داخل الشخصية الإسلامية، ليستطيع المجتمع الإسلامي أن ينمو ويتطوّر من مواقع العقل الذي يحقق له استقلال الإرادة في التفكير، وفي اتخاذ القرار المتوازن، كما يحقق له القوّة في مجالات الصراع الفكري بين الإسلام وخصومه الفكريين، وفي مواجهة التحديات القادمة من مواقع المستكبرين في الأرض، لأنهم إذا لم يتوفروا على ذلك، بالرغم من السلبيات الناتجة عنه، فسوف يسقط المجتمع في وحول التخلف، ولا يستطيع معه المحافظة على مواقعه، فضلاً عن التقدم إلى الأمام لاحتلال مواقع جديدة، لأن التخلف لا يمكن أن يثبِّت موقعاً، ولا يستطيع أن يربح أيّ موقع.

* * *

استعجال الكافرين بالعذاب

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يا محمد {بِالْعَذَابِ} بطريقة لا تخلو من التحدي والاستفزاز، وربما تقترب من الاستهزاء، لأنهم لا يرونه قادراً على ذلك، وأن الوعيد الذي يخاطبهم به من خلال آيات القرآن ليس جدّياً، مما يدفعهم إلى الامتداد في الشرك والإصرار عليه، ولكن الله يواجههم بالحقيقة القرآنية الإلهية، وهي أنَّ هذه الأساليب الاستعجالية الاستفزازية لا تغيّر من الموقف شيئاً، فإن الله قد جعل لكل شيءٍ أجلاً لا يتجاوزه، على قاعدة الحكمة في تقدير الأشياء، فلا يُعجله عن ذلك شيء، لأن الذي يعجل هو الذي يخاف الفوت. ولما كان الله قد وعد المشركين بالعذاب، فسيتحقق ذلك حتماً، {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} لأنه قد يغفر أيّ شيء لأي شخص، ولكنه لن يغفر له الشرك العبادي الذي لا يرتكز على أساس، وليس هذا أسلوباً من أساليب التحدي التي تهدف إلى الإقناع والإيمان بالإسلام، ليكون الموقف هو الرد عليهم بتحقيق هذا الوعيد، بل هو مجرد تبيانٍ لحقيقةٍ إيمانية لإثارة الخوف الداخلي فيهم من النتائج السلبية للامتداد في خط الشرك، لدفعهم إلى اتخاذ موقف جدّي من موضوع الإيمان. أما الإيمان نفسه فله براهينه الخاصة التي تنطلق من مضمونه، ومن الأجواء المحيطة به.

{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وسيأتيكم هذا اليوم، حيث ستواجهون العذاب الذي هو أشد عليكم من عذاب ألف سنةٍ من أيامكم العادية لشدة الهول الذي يحيط بالموقف هناك. فكيف تستعجلون ذلك؟ وعلى أيّ أساس؟

{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ } فكم من قرية أمهلتها كما أمهلكم الآن، ظلمت نفسها كما ظلمتم أنفسكم بالشرك.. {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب في الدنيا، ما يوحي بالقدرة على تنفيذ الوعيد بالعذاب، فكيف تشكّون في ذلك {وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ}، حيث تدخلون نار جهنم جزاءً على أعمالكم..

* * *

النبيّ نذير للناس

{قُلْ} يا محمد، لكل هؤلاء الذين يستعجلونك بالعذاب ويقترحون عليك القيام بالمعجزات الخارقة، لا طلباً للإيمان بل تعجيزاً وتحدّياً، قل لهم، إن ذلك كله ليس داخلاً في قدرتي، ولا في مهمّتي، بل ذلك كله بيد الله، فإن شاء استجاب لكل ما تطلبونه، وإن شاء لم يستجب لأن الأمر إليه، {قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركم عذاب يوم القيامة إذا كفرتم، وأبشّركم بثواب الله في الجنة إذا آمنتم، ولست مسيطراً عليكم في مسألة الإيمان، بل لكم الحرية في اختيار المصير الذي تريدون الوصول إليه..

{فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} في ما يمثله ذلك من الالتزام الفكري والعملي بالإسلام الموحى به من الله {لَهُمْ مَّغْفِرَة} لما قاموا به من خطايا طارئة، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} مما أعده الله لهم من أسباب النعيم في الجنة.

{وَالَّذِينَ سَعَوا فِي آياتِنَا} واجتهدوا {مُعاجِزِينَ} أي محاولين تعجيز الرسل عن إبلاغ رسالات الله عبر استخدام أساليب القهر والتعسف والاضطهاد والسخرية، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، فهم أهل النار المقيمون الدائمون فيها، الخاضعون لعذابها، المحترقون بنارها، بكل ما يمثله ذلك من ذلٍّ وخزيٍ وعار وهوان.