تفسير القرآن
الحج / من الآية 52 إلى الآية 57


من الآية 52 الى الآية 57

الآيــات

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبيًّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِلَى صِراَطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ* الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (52ـ57).

* * *

معاني المفردات

{فَيَنسَخُ}: يبطل، ويزيل، ويدحض.

{شِقَاقٍ}: الشقاق والمشاققة: المباينة والمخالفة.

{فَتُخْبِتَ}: تلين وتخشع له قلوبهم.

{مِرْيَةٍ}: شكّ.

{مُّهِينٌ}: مذلّ.

* * *

مناسبة النزول

جاء في تفسير الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: {أَفَرأَيْتُمُ اللآّتَ وَالْعُزَّى*وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} [النجم: 19 ـ 20] ألقى الشيطان على لسانه: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لترتجى». قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا.

ثم جاء جبريل بعد ذلك قال: اعرض عليَّ ما جئتك به، فلما بلغ: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، قال له جبريل: لم آتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ}[1]. الآية.

ويقول صاحب تفسير الميزان: «الرواية مرويّة بطرق عديدة عن ابن عباس وجمع من التابعين، وقد صحّحها جماعة منهم الحافظ ابن حجر»[2].

* * *

ملاحظات على مناسبة النزول

ولكننا نلاحظ على هذه الرواية:

أولاً: أنها لا تنسجم مع عصمة النبي في التبليغ التي أعلنها القرآن في قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْي يُوحَى} [النجم: 3 ـ 4] الذي يعني امتناع صدور أيّة كلمةٍ منه إلا من خلال الوحي الإلهي، وفي قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَْقَاوِيلِ* لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44ـ47] الذي يدل على امتناع صدور أيّة زيادةٍ من النبي عما أوحى الله به إليه.

ثانياً: إن جوّ سياق الآيات لا ينسجم مع الكلمتين اللتين أقحمتا في السورة ـ حسب الرواية ـ وكيف يتناسب هذا مع قوله سبحانه: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنفُسُ وَلَقَدْ جَآءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] فكيف صدر هذا الكلام عن النبي؛ هل كان عن غير وعي، بأن كان ذلك سبقاً من لسان بتصرف من الشيطان سهواً منه وغلطاً من غير تفطن، كما ذكر البعض في مقام توجيه الرواية؟!

ولكنّ ذلك يفرض عليه أن ينتبه إلى المسألة بنفسه بعد أن يرجع إلى أجواء السورة ويقرأها قراءةً ذاتيةً كما هو مفروض، كونه يعي القرآن النازل عليه من خلال القراءة والتأمل والتفكير، باعتباره القاعدة التي يرتكز عليها الفكر الذي يلقيه للناس.. وكيف يغفل عن المسألة حتى في الحال التي يعرض فيها القرآن على جبريل؟! إن معنى ذلك أنه لا يعي التنافي بين هاتين الكلمتين وبين تمام الآيات في هذا المجال.

أمّا إذا صدر منه ذلك عن وعي، بقصد تقريبهم منه، عبر ذكر آلهتهم بخير، فهل يمكن أن يتمّ ذلك في سياق الإساءة إلى الدعوة التي أراد أن يدفعهم إلى الإيمان بها؟ فإن السعي إلى استرضاء من تريد إقناعهم بفكرة ما، لا يكون بتأكيد موقفهم والإساءة إلى الفكر المراد الإقناع به. ثم كيف يصدر ذلك من الرسول وينسبه إلى الله، وكيف لم ينتبه إلى أن سجودهم معه كان سجوداً للأصنام لا لله، ما يفرض عليه أن يدرك طبيعة النتيجة السلبية التي انتهى إليها الأمر؟!

ثالثاً: إن هذه الرواية ـ لو صحّت ـ تجعل من صدور شيء من هذا القبيل من النبي(ص) في آيات أخرى أمراً محتملاً، باعتبار أن الشيطان ألقاها على لسانه(ص)، الأمر الذي يؤدي إلى عدم الثقة بكلام الله، فمن الممكن ـ كما يقول صاحب الميزان ـ «أن يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان ثم يلقي نفس هذه الآية: {وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبي} الآية، فيضعه في لسان النبي وذكره، فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبرائيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك، فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه وهو حديث الغرانيق ستراً على سائر ما ألقاه، أو يكون حديث الغرانيق من كلام الله، وآية: {وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبي} إلخ... جميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان، ويستر بما ألقاه من الآية وأبطل من حديث الغرانيق على كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، وبذلك يرتفع الاعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهةٍ»[3].

رابعاً: إن دراستنا لشخصية النبي محمد(ص) تدلّ على أنه كان واعياً كل الوعي لعقيدة التوحيد التي تمثل جوهر رسالته بمستوى لا يسمح بوجود أيّة حالة التقاء بينه وبين المشركين لجهة ما يتعلّق بالأوثان وبعبادتها، لأنه كان يعمل على تعميق الفصل بين عقيدة الشرك وعقيدة التوحيد، كي لا يقترب الشرك من التوحيد، ونلاحظ ذلك في سورة «الكافرون» التي تعبر عن حساسية مفرطة ضد الشرك، فهو ينتبه إلى أيّة كلمةٍ تصدر من الآخرين في ذلك، فكيف يغفل عما يصدر منه؟!

لقد كان التوحيد كل فكره، وكان الوصول إليه كل همّ دعوته، والهدف الأساس الذي سعى إلى إيصال الناس إليه، فكيف يمكن أن يسيء إليه في كلامه؟! إن هذا لا يمكن أن يقول به إنسان يحترم العقل في تحليله للأمور.

وعلى ضوء هذا، فإننا لا نستطيع الوثوق بصدور هذه الرواية عن ابن عباس، أو سعيد بن جبير، أو غيرهم من التابعين، لأننا نحترم فكرهم ومعرفتهم بالنبي وبالإسلام وبالقرآن، فقد تكون هذه الرواية من الروايات الموضوعة على لسان كثير من الصحابة، يريد بها المنحرفون الإساءة إلى النبي وإلى الإسلام، لأنها تمثل مخالفة لكتاب الله الذي لا يجيز صدور مثل هذا عن النبي محمد(ص).

وقد فسّر المعترضون على هذه الرواية الآية بطريقة أخرى، فقد ذكر صاحب الميزان أن التمني في الأصل معناه: المني بالفتح فالسكون، بمعنى: التقدير، وعليه يكون معنى قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} أي «إلاّ إذا تمنى وقدّر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه وإقبال الناس عليه وإيمانهم به، ألقى الشيطان في أمنيته وداخل فيها بوسوسة الناس وتهييج الظالمين وإغراء المفسدين، فأفسد الأمر على ذلك الرسول أو النبي، وأبطل سعيه، فينسخ الله ويزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي وإظهار الحق والله عليم حكيم»[4]..

وقد نلاحظ على هذا التفسير أنه حاول أن ينظر إلى مسألة إلقاء الشيطان في الأمنية النبوية من خلال النظرة إلى الواقع الخارجي لحركة الأمنية في ساحة الصراع بين خط الله وبين خط الشيطان، ما يجعل الآية تطال أجواء إغراء الشيطان للآخرين لجهة إبطال الأمنية في الواقع، ولم يحاول أن ينظر إليها من الداخل، في ما تختزنه كلمة {أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّته} من معنى إدخال شيء فيها بحيث تكون ظرفاً له وموقعاً من مواقعه، لا حركةً خارجيةً من الآخرين في مواجهتها، ليكون النسخ ـ من خلال ذلك ـ نسخاً في حركة الواقع، لا نسخاً في طبيعة الأمنية.

* * *

الآية وخطرات النفس النبويّة

إن هذا المعنى الذي ذكره صحيح في الاعتبار، ولكنه لا ينسجم مع ظهور الآية في كلماتها، كما نفهمه، لأنها ظاهرة في وجود شيء ما من الشيطان يلقيه في الأمنية، وليس من الضروري أن يتجسد هذا الشيء فعلياً في ما يصدر عنه من قولٍ أو فعلٍ، أو أن يكون منافياً للمبادىء التي يبشر بها، بل قد يكون انفتاحاً عليهم بأن يُشعرهم أنه يُقبل إليهم ويستمع لهم دون أن يرفض ما يقولونه أو يترك ما آمن به، بل يوحي لهم بأنه يفكّر بما يقولونه، وذلك في سبيل الإيحاء لهم بأن موقفه قد أصبح أكثر مرونةً، دون أن يؤدي ذلك إلى اهتزاز الموقف في حركة الرسالة، أو إضعاف المؤمنين، بل قد تكون المرونة في الموقف لجهة علاقة النبي بالمشركين، موجباً لتخفيف حالة التوتر النفسي تجاههم واهتزاز إيمانهم بذلك.

وقد تكون المسألة متحركةً في خطّ الإيحاء باستخدام أسلوب يوحي بغير ما يريده، في محاولة لاحتواء الساحة بالموقف المهادن للمشركين والمجامل لعقيدتهم، دون إعطاء أيّ اعتراف بعقيدتهم أو الانجذاب إليها، وذلك عبر باب السكوت عنهم، والاكتفاء بالإعلان عن وحدانية الله من ناحية إيجابية تعلن وتقرّ عبادته، دون الانطلاق في الناحية السلبية التي ترفض عبادة غيره، ليكون ذلك بمثابة الهدنة التي تخفّ فيها حدّة الصراع، من أجل خلق جوّ ملائم للحوار معهم.

قد تكون هذه الأفكار وأمثالها هي التي كانت تخطر في ذهن النبي محمد(ص) في بعض الحالات الصعبة، كما كانت تخطر في أذهان الأنبياء والرسل من قبله، عندما تشتد التحديات أمام الدعوة، ويتعرض المؤمنون للزلزال النفسي تحت تأثير الضغوط الهائلة التي تضغط عليهم بقسوة.

ولكن هذه الأفكار لا تترك أثراً في الواقع، ولا تنبع من موقع مستقر في عمق الذات، بل هي خطرات تطوف بالذهن، وتتحرك بسرعة في مظاهر السلوك، فيتأثر بها المجتمع المؤمن بطريقةٍ سلبيّة، وينجذب إليها المجتمع الكافر بطريقةٍ إيجابيّة، ولكنها سرعان ما تزول أمام الحاجة إلى الموقف الحاسم الذي يفصل بين الإيمان والشرك بفاصل واضح، لا مجال فيه لأيّة مهادنة أو لقاء، لأن المسألة تتصل بالأسس لا بالتفاصيل. ولعل هذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أوحينا إِلَيْكَ لِتفْتَريَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً* إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73 ـ 75].

إن هذه الآيات وأمثالها توحي بأن هناك شيئاً ما يخطر بالبال، ولكنه لا يثبت في النفس، بل يطفو على سطح بعض الممارسات، ثم ينتهي بشكل حاسم دون أن يسيء إلى فكرة العصمة في الذات، أو العصمة في التبليغ، لأن تأثر الإنسان بما حوله على مستوى الخطورات الذهنية السريعة، هو تماماً كتأثره بما حوله من الروائح الطيبة أو النتنة، أو بما تثيره الأطعمة اللذيذة القريبة منه، من إفرازات جسدية في حالة الجوع أو الاشتهاء، فإن العصمة لا تلغي العنصر الإنسانيّ الذاتي في شخصيته، بل تلغي الحركة المنحرفة في خط العقيدة التي يعتقدها، والفكرة التي يتبناها، والكلمة التي يقولها والحركة التي يتحرك فيها..

ربما يكون ما استوحيناه من معنى الآية تفسيراً لها، لأنه يتناسب مع طبيعة الأسلوب والكلمات المستخدمة فيها، فهو يؤكد على أن الشيء الآتي من الشيطان يدخل في عمق الأمنية داخل الذات، ولا يتحرك في دائرة الآخرين الذين يعيشون أجواء الرسالة، بحيث يكون الإلقاء حركة في خط الأمنية لا في خط الآخرين، كما أنه لا يتنافى مع الشخصية النبوية الرسالية لجهة التزامها بالتوحيد وإصرارها عليه، وابتعادها عن كل الإيحاءات والكلمات التي تتنافى معه، حتى بنحو الغفلة والسهو؛ والله العالم بحقائق آياته.

* * *

الله ينسخ ما يلقي الشيطان

{فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ} ويزيله من فكر النبي أو الرسول وقلبه، حتى لا يبقى منه أيّ أثر سلبي على حركة الرسالة فكرة وأسلوباً، لأن الله يتعهد رسله بالرعاية في مشاعرهم وأفكارهم، كما تعهدهم في حياتهم وحركتهم في خط الرسالة، رعايةً لرسالته من خلالهم، {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ويثبتها، فلا يدع أيّ مجالٍ للريب فيها، من أية جهةٍ كانت، وذلك بواسطة ألطافه التي يغدقها على رسوله، فيمنع أيَّ تحريف للكلمة، وأيّة زيادةٍ فيها، لأن ذلك هو السبيل لإِحكام الآيات على أساس الثقة الشاملة بموافقتها للوحي الإِلهي. وليست المسألة كما صوّرته الرواية المدّعاة، من أن هناك زيادةً سبقت إلى لسان النبي، ثم أزالها الله بعد ذلك، وأرجع الآية إلى الكلمات الموحى بها من الله.. وبذلك لا يكون التدرّج الذي تتحدث عنه الآية «بالفاء» التي تدل على التعقيب بلا فصل، وبـ«ثم» التي تدل عليه مع التراخي، تدرّجاً زمانياً، بل هو تدرّج بحسب الرتبة انطلاقاً من طبيعة الارتباط بين الأشياء المذكورة في الآية؛ والله العالم.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } يحيط بكل شيءٍ في الإنسان من الداخل والخارج، ويتعهده بحكمة في كل ما يحتاج إليه من عناصر وشروطٍ وأوضاع، ما يوجب اطمئنان الناس إلى سلامة خط الرسول في رسالته، وحفظ القرآن في آياته، واستقامة حركته بين هذا وذاك.

* * *

ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب

{لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} من الكفر أو النفاق، {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} الذين تحجّرت قلوبهم بالجهل والتخلف حتى لم تعد تنفتح على شيء من الفكر الحق، وتجمدت مشاعرها بالغلظة والقسوة، حتى لم تعد تنبض بالرحمة والخير، وذلك بسبب هذه الأجواء التي تثيرها الطبيعة الإيحائية لحركة النبي في الساحة، فهي أجواء تجعل العزّة بالإثم تأخذهم من جهةٍ، باعتبار أقوال النبي تلك مظهر قوّة لهم لما توحي به من تنازلات لحسابهم، أو تجعلهم يتحركون في طريق الفتنة لإضلال المؤمنين عن دينهم، باستغلال هيمنة الأجواء الهادئة على ساحة الصراع، لإثارة فكرة التصالح بين الشرك والتوحيد.

وقد نلاحظ أن أعداء الإسلام يستخدمون الكثير من هذه الأساليب التضليلية، مستغلين الروحية الطيّبة الوديعة التي يتحرك فيها الدعاة إلى الله والعاملون في سبيله، والأساليب الموضوعية التي يستخدمونها في الحوار، وما يبدونه من انفتاح على الآخرين هدفه التغلّب على الحقد والانغلاق، الأمر الذي يوحي لهؤلاء الآخرين، أن هناك تنازلاً في الفكرة، واهتزازاً في الموقف، وتراجعاً عن خط الثورة، وضعفاً في القوّة.. ولكن العاملين في ساحة الدعوة ينطلقون من خطة محكمة تعرف ما تريد وكيف تصل إليه، وتبقى في عملية نقد ذاتي متحرك لمواجهة الأخطاء الطارئة، قبل أن تتحوّل إلى انحرافات ثابتة..

{وَإِنَّ الظالمين لفي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وذلك في ما يثيرونه من الفوضى والخصومة والجدل، ليربكوا به الساحة، وليعطّلوا حركة المستضعفين في اتجاه الحق والعدل والفلاح، وبذلك تتحول أوضاعهم إلى مواقع للشحناء والبغضاء والتفرق والتمزق الذي يمتد إلى أبعد الحدود التي تسمح بها وسائلهم وأوضاعهم وظروفهم الفكرية والعملية.

* * *

ما يلقيه الشيطان تثبيت لإيمان المؤمنين

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} لأن انطلاقهم من مواقع العلم في نظرتهم للأشياء، يجعلهم في موقف الوعي والتفهم لشخصية الرسول وحركته الداخلية والخارجية، لمعرفتهم بالظروف المحيطة به، التي تفرض تنوّع أساليب العمل، وتقتضي الكثير من المشاعر الإيجابية لاحتواء الساحة، ما قد يدخل فيه بعض الخطور الذهني الذي لا ينسجم مع طبيعة الرسالة في جوّها العملي، ويعرفون كيف يرتفع الرسول عن كل ذلك سريعاً بوعيه المنفتح على الله، والمتصل بالعمق الرسالي في قاعدة الفكر الإسلامي وحركته، ويواجهون أي شك بالفكرة الواضحة التي تؤكد أن الرسول مؤيَّد من ربّه بألطافه، ومستقيم في سيره، وصادق في كلمته، وأمين على موقفه، مما لا يدع أيّ مجال لشبهة في أيّ مفهوم أو حكمٍ شرعي أو آية قرآنية، بل يرون أنه الحقّ من الله، في قناعةٍ ثابتةٍ مطمئنة، فيؤمنون به إيماناً فكرياً وروحياً، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} وتخضع له، لأن ذلك هو معنى الإيمان المنفتح الذي يتحرك في الذات من موقع العقل والفطرة، حيث يهيمن على الكيان كله، بكل قوّةٍ وخضوع وإذعان.

{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ} إلى دينه عندما يتحركون نحوه بجدية في الفكر ومسؤولية في الحركة، فيشملهم الله بعنايته، ويمنحهم لطفاً من لطفه، فتشرق الهداية في قلوبهم، فلا يجد الضلال إليها سبيلاً، من خلال وضوح الرؤية الذي يعيش الإنسان فيه الصفاء والإشراق في أرحب الآفاق، ليقودهم {إِلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا عوج فيه ولا التواء..

* * *

الكافرون في مرية من الحق

{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي في شك من الحق الذي يمثله القرآن المنزل من الله على رسله، ولكن هذا الشك الذي يبعدهم عن الإيمان ليس مرتكزاً على أساس فكريٍّ يشكل علامات استفهام متعددة تبحث عن جواب حول الكثير من قضايا التوحيد والرسالة والرسول، بل يرتكز على أجواء اللامبالاة التي يواجهون بها المسائل، وعلى رغبة التمرّد على خط الالتزام في الحياة، كونه يحرّك الخطوات في الخط المستقيم الذي قد يُثقل أوضاعهم، ويرهق حياتهم.. ولهذا، فإن هذا الشك السطحيّ الغارق في السلبية لا ينتهي إلى إيمان، كما هي حال الشك المنهجي الذي يبحث دائماً عن الحقيقة من خلال ملاحقة الأفكار الإيمانية ومناقشتها طلباً لتكوين قناعات قاعدتها البحث والتأمل، ولذا فإن هذا الشك قد يصل في نهاية المطاف إلى الإيمان من أقرب طريق..

أمّا الكافرون، فيستمرون على كفرهم رغبةً في البقاء على عقيدة الآباء حتى تأتيهم الساعة الموعودة وهي يوم القيامة، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} يواجهون فيه نتائج كفرهم وتمردهم، وهو يوم لا يليه آخر يمكن أن يأملوا فيه الخروج من قساوة العذاب وضغطه، لأن ما بعده هو الهلاك، وهذا هو معنى عقم اليوم.. وهكذا يواجهون الموقف الصعب حيث تتكشَّف الأشياء، فيقرّون بالحقائق الإيمانية ولكن بعد فوات الأوان.

* * *

الملك لله.. وللكافرين عذاب مهين

{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ} فلا يملك أحد لنفسه ـ هناك ـ شيئاً، فالله هو المهيمن على الأمر كله، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } في ما اختلفوا فيه، وفي ما قاموا به من أعمال، فهو الحاكم ولا حاكم غيره، لذا لا بد للناس من الاستعداد لذلك الموقف، في ما يحتجّون به لأنفسهم مما يخلّصهم من العذاب من خلال أعمالهم في الدنيا، لأن الحكم هو حكم العدل الذي لا يظلم أحداً مثقال ذرّة، فلكلٍّ نصيب من عمله، إن خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشر، {فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاَتِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} هي مأواهم ومستقرهم لأنها هي الجزاء الأوفى للمؤمنين العاملين في خط الصلاح والإصلاح، في ما يأمرهم الله به أو ينهاهم عنه، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ولم يرجعوا إلى عقولهم ليفكروا بالإيمان ومقدماته وبالقرآن وآياته، بل انطلقوا بالكفر من موقع التمرّد، وبالتكذيب من موقع الجهل، {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لأنهم كفروا بعد قيام الحجة عليهم، فحقت عليهم كلمة الله بالعذاب المهين.

ــــــــــــــــــ

(1) السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993م، 1414هـ، ج:6، ص:65ـ66.

(2) تفسير الميزان، ج:14، ص:398.

(3) تفسير الميزان، ج:14، صك399.

(4) تفسير الميزان، ج:14، ص:393.