تفسير القرآن
الحج / من الآية 58 إلى الآية 66

 من الآية 58 الى الآية 66

الآيــات

{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرازقين* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الليل في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الليل وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العلي الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السماء ماء فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَّهُ مَا في السَّمَـوَاتِ وَمَا في الأرض وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِي في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرؤوفٌ رَّحِيمٌ* وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} (58ـ66).

* * *

نعم إلهية وكفران بشري

{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ} وفارقوا ديارهم تحت ضغط التحديات القاسية التي واجهتهم، لأنهم آمنوا بالله واتبعوا رسوله وأصرّوا على السير في خطه، أو انطلقوا في عملية تكاملٍ مع غيرهم من المسلمين من أجل الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى دينه، {ثُمَّ قُتِلُواْ} في ساحة الجهاد {أَوْ مَاتُواْ} في ساحة الدعوة أو في حال الاستعداد للجهاد، {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} في ما يمنحهم من نعيم الآخرة في الجنة، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} لأنه الذي يملك الرزق كله، ويرزق عباده الصالحين بغير حساب، و {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} وهو الجنة بما تحتويه من كل ما يشتهيه الإنسان ويطمح إليه من ملذّات ومشتهيات، جزاءً لهم على ما عانوه وقاسوه جرّاء خروجهم من ديارهم التي أحبّوها وألِفوها، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} فهو العليم بما يرضي عباده المؤمنين المجاهدين ويصلحهم، وهو الحليم الذي لا يعاجل الظالمين بنقمته، بل يؤخرهم إلى أجل مسمى هم بالغوه.

{ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ}، فكانت مواجهته للعدوان حادة كهؤلاء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأهلهم، حيث تحدوا وقاتلوا العدوان عليهم لردّ الظلم ودحره {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} بالعدوان الذي لا شرعية له، {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} فيظهره على أعدائه، وينصره بنصره، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} فلا يؤاخذهم بقتلهم أو جرحهم الآخرين خلال جهادهم، لأنهم أصحاب حق في عملهم ذاك، لذا فإن العفو عنهم والمغفرة لهم لا يعبّر عن التجاوز عن ذنب اقترفوه أو عن خطيئة ارتكبوها، بل يعبر عن عدم مؤاخذتهم بذلك، لأنه إنما يؤاخذ الذين يقتلون بالعدوان، لا بردّ العدوان، والله العالم.

* * *

الله هو الحقّ.. وهو العليّ الكبير

{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الليل في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الليل} فيحلّ كل واحد منهما محلّ الآخر عبر اقتطاع الليل من زمن النهار، أو عبر هجوم ضوء الصباح على ظلمة الليل، كما لو كان شيئاً يلج في داخله.. ثم يتسع الضوء ويمتد وينتشر في الفضاء، فيملأ ما كان الليل يشغله من فراغٍ، أو عبر هجوم الظلام على النهار بالطريقة نفسها.

وقد يكون في ذلك إشارة إلى ما ذكره من نصرة المظلوم على ظالمه، حيث يظهر الله أحد المتضادّين على الآخر، كما يولج الليل في النهار أو يولج النهار في الليل فيغلب أحدهما على الآخر. وربما كان ذلك تأكيداً على قدرة الله المطلقة التي تتحكم بحركة الكون فتغيّره من حالٍ إلى حال ضمن السنن الكونية التي أودعها في نظامه، ما يوحي بعظمة القدرة الإلهية التي يعود المظلوم إليها طلباً للنصرة على ظالمه.

{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يسمع كل ما يدور بين عباده من أقوال، ويبصر كل ما يقومون به من أفعال، فيهيمن من خلال ذلك على الأمر كله، ولا يفوته منه شيء، قريباً كان أو بعيداً، {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} فهو الحقيقة الوحيدة المطلقة التي امتد الكون من قدرتها وعاش نظامه بحكمتها، وليس لأحد معه أيّة قدرةٍ أو سلطة، فهو صاحب الأمر كله، وكل موجود مخلوق له، وكل نعمةٍ منه، وكل حركةٍ بإرادته، هو مرجع الكون كله، وكل شيء هالك إلا وجهه.. وبذلك كان الحق منطلقاً من سرّ وجوده، فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}، لأنه لا يمثل وجوداً مستقلاً بذاته، بل وجوداً مستمداً من الله ليس له أيّة قدرةٍ ذاتية، لأن الله هو الذي أعطاه القوّة، ولا يملك أيّ أساس للسلطة والألوهية لعبادته، لأنه عبد فقير يعيش الحاجة إلى الله في كل شيء، لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله.. فكيف يمكن أن يكون موقع الألوهية الذي ادّعاه لنفسه أو ادعاه غيره له حقاً في المعنى، أو حقاً في الواقع، بل هو الباطل كله.

إن الألوهية تعني الحقيقة المطلقة المهيمنة على كل شيء، وبذلك كان الله في وحدانيته هو الحق، وكان غيره في حاجته هو الباطل. {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العلي الْكَبِيرُ} الذي يتوحّد بالعلوّ المطلق الذي لا يعلو عليه شيء، ويتوحد بالمنزلة الكبيرة فلا شيء أكبر منه، ولا يمكن أن يدانيه أحد ليشاركه في الألوهية.

* * *

الله الرازق اللطيف بعباده

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السماء ماء} على الأرض الميتة اليابسة التي لا أثر للحياة فيها، فيتفاعل الماء مع التراب وما يشتمل عليه من بذور الزرع، {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} فتمتلئ بما يأكله الناس والأنعام، ويغذي الروح والبصر، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} بعباده في ما يخلقه لهم من أسباب الرزق، بما يحتاجون إليه من عناصر القوّة لامتداد حياتهم، {لَّهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأرض} ، فهو مالك السماوات والأرض وكلّ شيء فيها، فهو الخالق والمدبر لها، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، فهو الغني عن خلقه، لأنه الغنيّ في ذاته، بينما كل شيء يحتاج إليه في وجوده وفي استمرار ذلك الوجود، وهو المحمود في صفاته وأفعاله وفي رعاية خلقه ولطفه بهم.

* * *

تسخير الله ما في الأرض للناس

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في الأرض} لجهة ما تحتويه من أسباب الرزق والاستقرار، {وَالْفُلْكَ تَجْرِي في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} فتنقلكم إلى الأماكن التي لا تملكون الوصول إليها إلا عن طريق البحر، وألهمكم كيفية التخلص من كل أخطار البحر والوصول إلى الشاطئ بسلام، {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} من خلال ما أودعه فيها من قوانين وأنظمة تمنحها التماسك والثبات بقدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم، فالسماء بكل أفلاكها وكواكبها لا تستند إلى أي شيء من الأشياء التي يستند إليها ما يضرب في الجوّ عادة، فمن أين هذا الثبات وكيف..؟ إن قدرة الله هي التفسير الوحيد لذلك، وكلّ سرّ يكتشفه الإنسان فيه هو سرّ ينطلق من عمق القدرة، لأنه هو الذي خلقه وخلق نتائجه، فهو مسبّب الأسباب وهو سبب كل شيء، وعلى الإنسان أن يفكر في ذلك كله، ليهتدي إلى سرّ عظمة الله في خلقه، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فمن مظاهر رأفته ورحمته بالناس تسخير موجودات الكون لهم وجعلها خاضعة لإرادتهم، لهم أن يستثمروا كل القوى الموجودة فيها، بما يكفل لهم الراحة والطمأنينة والقوّة والاستمرار.

{وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} بعد أن كنتم في غياهب العدم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بعد أن تأخذوا من الحياة كل ما تستطيعون أخذه والانتفاع به، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ليحاسبكم على كل ما قمتم به في حياتكم من أفعال الخير والشرّ، وما تحركتم به في خط الانحراف والاستقامة، على ضوء ما كلّفكم به من مسؤولية في بناء الحياة وتحريكها على الصورة التي جاءت في مضمون رسالاته، {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} بما يحيط به من نعم ينبغي أن يشكر الله عليها، بالإيمان به، والسير على نهجه، والعمل بما يرضيه، لكن مشكلة الإنسان أنه ينسى ربه وينسى نعمه عليه، فينسى نفسه، ويجحد الحق المتمثل بالله، ويخضع لشهواته وغرائزه، ويترك مسؤولياته.