من الآية 67 الى الآية 76
الآيــات
{لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَـزِعُنَّكَ في الأمر وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ* وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ* اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السماء والأرض إِنَّ ذلِكَ في كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ* وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ* مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمور} (67ـ76).
* * *
معاني المفردات
{مَنسَكاً}: المراد بالمنسك هنا: الشريعة والمنهاج.
{نَاسِكُوهُ}: عاملون أو ملتزمون به.
{سُلْطَاناً}: برهاناً وحجة.
{يَسْطُونَ}: يبطشون. قال في المجمع: «السطوة: إظهار الحال الهائلة للإخافة، يقال: سطا عليه يسطو سطوة، سطا به، والإنسان مسطوّ به. والسطوة والبطشة بمعنى»[1].
{يَصْطَفِى}: الاصطفاء: أخذ صفوة الشيء وخالصته، قال الراغب: «والاصطفاء تناول صفو الشيء، كما أنّ الاختيار تناول خيره، والاجتباء تناول جبايته»[2].
* * *
لكلّ أمة جعلنا منسكاً
{لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} أي شريعة ومنهجاً في عبادة الله، {هُمْ نَاسِكُوهُ} سائرون عليه وملتزمون به، ذلك أن مصلحة البشر تفرض التغيير والتبديل على هذا المستوى نظراً لتطور التفكير وتغيّر الزمن. وبما أن الله ينزل الأحكام حسب ما تقتضيه مصلحة عباده، وفي ما ينسجم مع أوضاعهم العامة والخاصة، فلا غرابة في أن تختلف المناسك التي جاء بها النبي(ص) عن المناسك التي كانت مألوفةً في الرسالات السابقة، {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ في الأمر} أي ليس لهم أن ينازعوك ذلك، لأن اختلاف ما جاء به النبي عما جاء في الشرائع السابقة، لا يدل على أنه ليس من عند الله، لأن حكمة الله قد اقتضت أن يغيّر خصوصيات المناسك والشرائع من رسالةٍ إلى أخرى. وبما أن الأمر كذلك، فلا بد للنبي(ص) من الابتعاد عن ساحة التعقيد مما يثيره الكافرون من الضوضاء حوله، ومحاولتهم منهم التشكيك بصدق رسالته، بحجّة اختلافها عما يعرفونه من أحكام، لأن أيّ كلامٍ يفتقد الحجّة لا يملك ثباتاً على المدى الطويل، وبالتالي فإن تأثيره الجزئي الذي يمكن أن يتركه لا بد من أن يزول بطريقةٍ أو بأخرى أمام ظهور الحقيقة الواضحة.. ولهذا دعا الله رسوله لمواصلة طريقه دون الاكتراث بكل هذا الضجيج الذي يثيرونه أمامه..
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} ولا تتوقف ولا تتراجع، بل استمر في الطريق الذي بدأته ودعوت إليه، لأنك على هدى واضح يتحرك في خط الاستقامة، بحيث لا يستطيع أحد أن يسجل عليك نقطة في خط الانحراف.
* * *
الله أعلم بما تعملون
{وَإِن جَادَلُوكَ} وأرادوا أن يصرفوك عن خطّ الدعوة وخط العمل في سبيل الله، فلا تدخل في تفاصيل الجدل الذي يثيرونه، بعد أن أوضحت لهم المبدأ الأساس الذي يحكم ذلك كله، بل اختصر الموقف كله بكلمة واحدةٍ ترجع فيها الأمر إلى الله، فهو الذي يعلم السرَّ وأخفى، ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر، {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمهما حاولتم إثارة الجدال في محاولة منكم لتوظيف الموقف لصالحكم ولإظهار أنفسكم كأصحاب حقّ، فإن الله يعلم ما أنتم فيه، ولا تفيدكم أمامه محاولة الظهور بغير مظهركم الحقيقي، و {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} فهو الحكم الفصل في الأمور كلها، وسترون الجزاء الصعب الذي ستلقونه نتيجة ما كنتم تختلفون فيه وتخالفون الحق وأهله.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السماء والأرض إِنَّ ذلِكَ في كِتَابٍ} محفوظ لا يتغير ولا يتبدل ولا يسقط منه شيءٌ سهواً أو نسياناً، لأن الله فوق السهو والنسيان، ولذا فإن ما يقوم به الناس من أعمال تسيء إلى الله ورسله ورسالاته محفوظ عنده وسيحاسب مرتكبوها عليها، {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} لأن من خلق المخلوقات ودبّرها يسهل عليه حفظ كل ما يتعلق بها من أعمال.
* * *
عبادة غير الله لا تستند إلى أساس
ويستمرّ الحديث في أجواء حركة الرسالة مع الذين تمرّدوا على الله، ولم يذعنوا للحقائق، وأصرّوا على جهلهم، ولم ينطلقوا إلى مواقع العلم ليأخذوا بها ليهتدوا سواء السبيل...
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} فهم لا يملكون أية حجّةٍ من عقلٍ أو وحي على ألوهية من يعبدونهم من دون الله، فهؤلاء لا يتميزون عن غيرهم من الموجودات المماثلة لهم في عناصرها وأشكالها بأية صفة خاصة، ولا علاقة لهم بالوجود في خلقه وحركته من قريب أو من بعيد، فليس هناك أساس علمي أو منطقي تستند إليه فكرة عبادتهم، وهم في عبادتهم تلك يلتزمون ما لا يملكون حجّة عليه، {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} لأنهم لو رجعوا إلى عقولهم لما وجدوا فيها من الحقيقة ما يقودهم إلى الالتزام بهذه العبادة، ولو التفتوا إلى خصائص هذه الأشياء لما وجدوا فيها ما يفرض عليهم الاعتقاد بألوهيتها، بل هو الجهل والتخلّف اللذان يصوّران لهم المسألة بصورة الحقيقة دون حجة أو أساس، فهم يظلمون أنفسهم بالتزام عبادة هذه الأشياء التي تقودهم إلى الهلاك في الآخرة، كما تقودهم إلى الانحراف عن خط الحق في الدنيا، ويظلمون الحياة والناس عندما يركزون خط السير في غير الاتجاه الذي يلتقي بوحدانية الله، ويظلمون ربّهم عندما يسيئون إليه، ويبتعدون عن شكره والالتزام بتوحيده، أداءً لحقه عليهم، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}، لأنهم سيواجهون الموقف وحدهم، بعيداً عمّن يعبدونهم وينتصرون بهم، لأن هؤلاء لن ينصروهم ولن ينصروا أنفسهم لعجزهم عن فعل ذلك، ولافتقادهم القوّة الذاتية، وسيقفون ـ وجهاً لوجه ـ أمام العذاب الذي حكم الله عليهم به، ولن ينصرهم أحد منه.
* * *
وعدُ الله للذين كفروا
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} دون لبس أو غموض، وبوضوح يطل على الحقيقة، فإذا بالكافرين، بدلاً من الانفتاح على تلك الآيات ونتيجة العقدة النفسية الخانقة التي تضغط عليهم، يقفون حيارى بين إشراق الحقيقة على الفكر والروح وبين ظلمات ماضيهم وواقعهم، فيحاولون الهرب من هذا الصراع الداخلي بمواجهة المؤمنين الذين أحرجوهم وحاصروهم بالحقّ القادم من وحي الله، فإذا كانت المواجهة، برزت في ملامحهم هذه الصورة، {تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ} الذي يستبطن الرغبة في العدوان والتدمير، ويعبّر عن الحقد والكراهية، ونحو ذلك من المعاني التي تختزنها كلمة المنكر في مضمونها وإيحاءاتها، {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتُنَا} ويهجمون عليهم في عملية استعراض للقوّة لإخافتهم وإلحاق الهزيمة النفسية بهم، ليتخلصوا منهم ومن مواقفهم الإيمانية ومن هذا الجوّ الداخلي الذي يثيرونه فيهم ويعتبرونه شراً، باعتبار أنه يبعدهم عن عقيدة الآباء.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ} الذي تحسبونه شرّاً، لتوازنوا بينه وبين ما يعدكم الله به يوم القيامة من عذاب، لتتخذوا الموقف على ضوء دراسة واعية تقارب بين موقفين: ترك عبادة ما تدعون من دون الله، أو النار، لتختاروا أهونهما على مستوى المصير، {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} جزاءً على كفرهم الذي لا يرجعون فيه إلى حجة ولا ينطلقون فيه من موقع علم، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } الذي اختاروه لأنفسهم اتباعاً للأهواء والشهوات، في ما تقودهم إليه من الانحراف عن خط الله.
* * *
آلهة الكفار: مثال العجز والضعف
ويستمر القرآن في حثّ الإنسان على المقارنة بين عظمة القدرة في ذات الله، وبين ضعف وحقارة ما يدعونه من دونه من شركاء، لتتجلى أمام الإنسان تفاهة ما يعتقده، وانحرافه الروحي، واهتزاز خطواته، وليشاهد آلهته على حقيقتها، فهي ليست إلاّ مجرد مخلوقاتٍ ضعيفةٍ لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً، إلا في حدود ما وضعه الله فيها من قدرته.. وفي ذلك يتمثل ضعف تلك الآلهة المزعومة أمام أضعف مخلوقات الله تعالى.
{ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} بكل عمق الفكر في عقولكم، وبكل صفاء الوعي في وجدانكم، لأنه أمر يتصل بالمصير الإنساني وحركة العقيدة، لأن التفكير بالمثل المضروب هنا مسؤولية هامة يتحدد على أساسها الموقف من الحقائق التي يكشفها، فاللاّمبالاة في مثل هذه الأمور قد تؤدي بالإنسان إلى الهلاك الدائم على مستوى العقيدة وخط السير.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}. تجسد هذه الآية الكريمة، عجز آلهة الكافرين المطلق أمام أصغر مخلوقات الله وأحقرها، في صورةٍ رائعة، تسخر من فكرة ألوهية هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله.
وأيّ صورةٍ أبلغ من تلك التي تضع الآلهة ـ بكل ما توحيه صفة الألوهية من قوّةٍ ـ في مشهدين، أحدهما: اجتماعها على خلق ذبابةٍ واحدةٍ وعجزها عن ذلك، بالرغم مما تبذله من جهد في هذا السبيل، وثانيهما: مشهد الذباب، في كل ما يجسّده هذا المخلوق الصغير من معاني الضعف والصغر والحقارة، من حيث الحجم والقدرة الجسمية، وقد اندفع إلى هؤلاء الآلهة الكبار، ليسلبهم شيئاً، أي شيء، فإذا بالآلهة يركضون خلفه، ويلهثون لاسترجاع ما أخذه ولاستنقاذ ما سلبهم إياه، فلا يسترجعونه منه، ولا يستنقذونه من براثنه ـ إن كان للذباب براثن ـ؟! إنه أسلوب يجرّد هؤلاء من صفات الألوهية من جهةٍ، ويعرّضهم للسخرية والاستهزاء من جهةٍ أخرى، ويؤثر على موقف هؤلاء الذين اعتقدوا بهم وعبدوهم من دون الله، عندما يجدون أنفسهم في حالةٍ لا يحسدون عليها، لأنها لا ترتكز على أساسٍ، ولا توحي بالاحترام إن لم توحِ بخلافه.
إنه الضعف المتبادل بين الطالب والمطلوب، إذ يعيش كل واحد منهما نقطة ضعف تختلف في طبيعتها عن نقطة ضعف الآخر، فإذا كان أحدهما قوياً في جسده، فقد يكون ضعيفاً في حركته، وإذا كان الآخر ضعيفاً في جسمه، فإنه يملك القوّة في سرعة حركته.
إنه مثلٌ يريد الله للإنسان أن يدرك من خلاله سرّ الضعف في الإنسان المتألّه، أو المؤلَّه، ليعي ـ بعمق المعرفة ـ أن هؤلاء لا يملكون في ذاتهم أيّ شرطٍ من شروط الألوهية، بل يعيشون ضعف المخلوقين في وجودهم.. ولكن الناس لا يرتفعون إلى الآفاق الفكرية التي تمكّنهم من الإطلالة على عظمة الله من أوسع المجالات، بل ينكمشون في تصوّراتهم، ويبتعدون عن وعي الحقائق في عقولهم.
{مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} عندما يقارنون به غيره، ويشركون بعبادته ما هو مخلوق له، أو يقصّرون في طاعته، أو ينحرفون عن هداه، ولا يستغرقون في عظمته لتمتلئ قلوبهم بالخشوع له، بعيداً عن كل من هو دونه، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} لا يصل أحد إلى مستوى قوّته، لأن قوّته مطلقة لا تقف عند حدّ، وليس لأحدٍ قوّة إلاّ به، فالوجود كله يستمد قوته منه، وهو المهيمن على الأمر كله، لا ينتقص أحد من عزته، وهو العزيز الذي شملت عزته الوجود كله، لأنه يملكه بكل مواقعه ومظاهره، مما يجعل كل شيء ذليلاً أمامه، لأنّ العزة لله جميعاً..
* * *
اصطفاء الله رسلاً من الملائكة والناس
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً} يوجّههم في مهمّات يريد أن تتحقق في ساحة الدنيا، ويحمّلهم وحيه إلى رسله، {وَمِنَ النَّاسِ} الذين يختارهم ليحملوا رسالاته إلى خلقه، ويبلغوها إليهم، من موقع لطفه بعباده، فهو يريد أن يهديهم إلى طاعته التي بها صلاحهم، ويبعدهم عن معصيته التي هي سرّ فسادهم {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يسمع كل ما يقولون، ويبصر كل ما يعملون، فلا يغيب عنه من أمرهم شيء ممّا يقومون به في السرّ والعلانية، لأنه يعلم السرّ وأخفى، ويعلم وساوس الصدور، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} لأنه المحيط بكل خلقه وكل مواقعهم، فلا يمتنع عليه معرفة شيء من ذلك كله، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمور}، فهو الذي بيده الحساب، وإليه المآب، في ما يتنازعون فيه، وفي ما يختلفون عليه، وفي ما يقومون به من أعمال خيّرة أو شريرة. ويحتمل أن تكون عبارة {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم} راجعة إلى من يصطفيهم الله رسلاً من الملائكة والناس، وذلك في ما استظهره صاحب الميزان في تفسيره، قال: «والآية ـ كما ترى ـ تنادي بأن ذكر علمه بما بين أيديهم وما خلفهم للدلالة على أنه تعالى مراقبٌ للطريق الذي يسلكه الوحي فيما بينه وبين الناس، حافظ له أن يختل في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشيءٍ من مكائد الشياطين وتسويلاتهم، كل ذلك لأن حملة الوحي من الرسل بعينه وبمشهد منه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وهو بالمرصاد. ومن هنا يظهر أن المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم وبين من يؤدون إليه، فما بين أيدي الرسول الملكي، هو ما بينه وبين الرسول الإنساني، وما بين يدي الرسول الإنساني هو ما بينه وبين الناس، والمراد بما خلفهم هو ما بينهم وبين الله سبحانه، والجميع سائرون من جانب الله إلى الناس. فالوحي في مأمنٍ إلهيّ منذ يصدر من ساحة العظمة والكبرياء إلى أن يبلغ الناس، ولازمه أن الرسل معصومون في تلقّي الوحي، ومعصومون في حفظه، ومعصومون في إبلاغه للناس»[3].
وهذا الاحتمال وجيه في نفسه، وقريبٌ إلى واقع المسألة، ولكن استظهاره من الآية غير واضح، لأن الظاهر أنها واردة لتأكيد إحاطة الله بالأشياء، على غرار ما جرى عليه الأسلوب القرآني من تأكيد صفات الله في الجوّ العام للقضايا التي تثيرها الآيات؛ والله العالم.
وتلك هي الصورة التي يريد الله لعباده أن يتمثلوها في وعيهم العقيدي لموقع ذات الإله العظيم، ليتفرّد في عقولهم وقلوبهم، كما هو متفردٌ في ذاته، عندما يقارنون بوعي بين سرّ العظمة في ذاته وسرّ الحقارة في خلقه.
ــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:7، ص:151.
(2) مفردات الراغب، ص:291.
(3) تفسير الميزان، ج:14، ص:413.
تفسير القرآن