من الآية 77 الى الآية 78
الآيتـان
{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (77ـ78).
* * *
معاني المفردات
{اجتباكم}: اختاركم واصطفاكم لدينه.
{حَرَجٍ}: ضيق.
{مِّلَّةَ}: دين.
* * *
عناصر حركة الإيمان
إنه النداء الأخير يوجهه الله ـ سبحانه ـ إلى المؤمنين في نهاية هذه السورة، ليؤكد عناصر حركة الإيمان الثابتة في حياتهم، وليثير في وعيهم التكريم الإلهيّ لهم في ما أنزله عليهم من رسالة، وفي ما أراده لهم من دور، وفي الطبيعة السمحة للمهمّات الموكولة إليهم في خط التشريع، في ما أمرهم به أو نهاهم عنه.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الذين يريد الله لهم أن يعيشوا الإيمان فكراً وممارسةً وموقف حياة، فلا يبقى إيمانهم مجرد خواطر تعيش في العقل، ومشاعر تتحرك في الإحساس، وتقاليد تنطلق في الممارسة.. {ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ} فإن الركوع والسجود يمثلان انحناء الإرادة الإنسانية بما توحي به من انحناء روحي أمام الله حتى الانسحاق، {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} فإن العبادة هي خط تتمثل فيه الطاعة الإنسانية لله عبر تنفيذ أوامره وترك نواهيه، ومن ذلك يتجسد سرّ العبودية أمام حقيقة الألوهية حركة في خط المسؤولية، {وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ} في كل مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، وفي مختلف النشاطات الإنسانية، فذلك يفتح قلب الإنسان وروحه على الجانب الحلو من الحياة، ويمنح الحياة تقدماً وعمقاً وحيويّةً، ويربط العنصر الإنسانيّ الطيب بحركة الواقع.. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، لأن طريق الفلاح هو خط الخير المنطلق من عبودية الله والمتحرك في خط المسؤولية في الحياة.
{وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} لأن الله يريد للناس أن يواجهوا التحديات بإرادة صلبة مستعدة لمجابهة كل الصعوبات، وتحمّل كل آلام الحرمان، من أجل تحقيق الصورة التي يحبّ الله للحياة أن تكون عليها ويريد للإنسان أن يبرز فيها، ابتداءً من جهاد النفس الذي يقتحم الأعماق ليحطم كل الحواجز التي تحول بينها وبين الانطلاق في طريق الخير، إلى جهاد العدو الذي يخوض المعارك انتصاراً للشيطان ليبعد الإنسان عن طريق الله.. إنه خط الجهاد المتحرك على أكثر من جهة يريد الله للناس بذل كل جهدهم لإعطائه حقه، لجهة توفير ما يحتاجه من شروط، وتحريك ما يستلزمه من مواقع، وإثارة ما يخدمه من أجواء، فلا يبقى أي شيءٍ من طاقاتهم إلا وقد بذلوه في هذا السبيل إخلاصاً لله.
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} واختاركم من بين خلقه لتكونوا الأمّة المرحومة الداعية المجاهدة التي تحمل من خلال الرسول محمد (ص) رسالة الإسلام للناس كافة، وحمّلكم مسؤولية ذلك، وتلك كرامة إلهية لا تفوقها كرامة، تفرض عليكم رعايتها وتحريكها في الاتجاه الذي يحبّه الله.
* * *
ما جعل عليكم في الدين من حرج
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فقد أتاكم النبي محمد (ص) بالشريعة السمحة السهلة، وبالدين الذي هو ـ في مجمله ـ يسرٌ لا عسر فيه، فهو يتناسب مع الطبيعة الإنسانية دون أن يحمل أي ضيق خارج عن استطاعة الإنسان وقدرته. وكل ما يحسبه الإنسان عسراً في هذه الشريعة السمحة، ما هو بعسرٍ أو ضيق إلاّ لمن يهرب من مواجهة التكليف بالالتزام الذي يرفضه البعض، تخفّفاً من قيود المسؤولية مهما كانت.
وقد استفاد الفقهاء من هذه الفقرة قاعدةً فقهيةً عامةً، تقضي بنفي الحرج في التكاليف التي تستلزم الحرج، وذلك برفع الحكم الذي يوقع المكلّف في ضيقٍ فوق العادة أو الذي يتعلق بفعل حرجيٍّ.. وقد تحدث الفقهاء بشكل تفصيلي عن هذه القاعدة من حيث طبيعتها ومواردها وتفريعاتها، في ما اتفقوا عليه من ذلك، أو في ما اختلفوا فيه، وقد رأى بعضهم أن الاضطرار الذي هو حدّ التكليف الذي ترتفع به المحرمات، أو تسقط به الواجبات، هو بنفسه الحرج الذي جاءت هذه الآية لرفعه، لأن الاضطرار المأخوذ حدّاً للتكليف ليس هو الاضطرار العقلي الذي تتوقف عليه الحياة، بل هو الاضطرار العرفي الذي تضيق به حركة الحياة في الواقع.. وتفصيل ذلك موكول إلى محلّه.
{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الذي انطلقت شرائع الأنبياء بعده، من القاعدة العامة التي وضعتها مبادئ شريعته العامة، بحيث كانت الرسالات اللاحقة بمثابة التفاصيل المتنوعة لتلك المبادئ.
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} لأنه أوّل من أسلم لله، بالإعلان الكلي الذي انطلق من عقله وروحه، وتحرّك في كل مواقفه، كما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وقد تحدث عن التزامه بهذا الخط في نفسه وولده في قوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم:35]، وفي قوله تعالى: {وَوَصَّى بها إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة:132] وفي قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النبي وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران:68].
{وَفِى هَذَا} أي: هذا الكتاب، وفي منّه عليهم بالإسلام الذي يؤكد القاعدة العامة التي ارتكزت عليها الحياة لمن يأتي من بعدهم، أو لمن عاش معهم.. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى النَّاسِ} وذلك عبر هذه الشريعة التي هي المقوّم لأعمال الناس ومشاريعهم، في ما يشهد به النبي على أمّته لجهة تطبيقها لهذه الشريعة والتزامها بها، في خط الدعوة والحركة، وفي ما تشهد به هذه الأمّة على سائر الأمم لجهة التزامها بالإسلام ورعايتها له، {فَأَقِيمُواْ الصّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} وفي ذلك التطبيق العملي للإسلام المنفتح على إرادة الله والخاضع لعبوديته له، لما تمثله الصلاة من عبادة في الروح وفي حركة الجسد، وفي ما تمثله الزكاة من انقياد روحي وعملي لله من خلال الإنفاق في سبيله.
{وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ} لأنه الحقيقة الوحيدة التي يرتبط بها كل ما في الحياة من عمقٍ وامتدادٍ والتزام وانتماء، لأن كل ما هو غيره، مخلوق له، ومنسوب إليه، ومحتاج إليه، فلا ثبات لأحد إلا من خلال الاعتصام به وبحبله، لأن كل من عداه مهتز بطبيعة الضعف الكامنة في ذاته التي تجعله يتأثر بغيره.
{هُوَ مَولاكُمْ} الذي تستمدون وجودكم منه، وتمتدّ حياتكم من خلال رعايته، ويستمر وجودكم من خلال نعمه التي تنظّم ذاك الوجود وتقوّيه وتثبته، ومن خلال نصرته لكم على كل ما يواجهكم في الحياة من مواقع وتحديات.
{فَنِعْمَ الْمَوْلَى} الذي تلتزمون عبادته، وتنتمون إلى دينه، وتعيشون في ظلال رحمته، {وَنِعْمَ النَّصِيرُ } الذي يمنحكم نصره بلطفه، وينصركم على من هو دونه، ولن يستطيع أحد أن ينصركم منه لأنه هو الذي يملك القوة التي لا يملكها غيره.
تفسير القرآن