تفسير القرآن
المؤمنون / من الآية 78 إلى الآية 90

 من الآية 78 الى الآية 90
 

الآيــات

{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ في الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الذي يحيي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ الليل وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون * قَالُواْ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين * قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فيها إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ* بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (78ـ90).

* * *

معاني المفردات

{أَنْشَأَ}: خلق.

{أَساطِيرُ}: أباطيل وأحاديث خرافية.

{مَلَكُوتُ}: الملكوت: الملك، بمعنى السلطنة والحكم.

{تُسْحَرُونَ}: السحر: تخيّل الشيء على خلاف ما هو عليه.

* * *

الفطرة الصافية تقود إلى الإيمان

لماذا يؤكد القرآن على أن مشكلة الكفر، تتلخص في الغفلة من جهةٍ، واتّباع الهوى من جهةٍ أخرى؟

إنّ هذه الآيات هي الجواب عن ذلك، لأن ربوبية الله للعالم، ووحدانيته في ذلك، ليست من الأمور التي يحتاج الوصول إليها إلى الكثير من الجهد الفكري، بل كلّ ما تحتاجه وجدانٌ صافٍ، وفطرة نقية ينفتح بها الإنسان على وجوده من الداخل أو على الأشياء التي تحيط به من فوقه أو من تحته أو من حوله، فإن ذلك ـ وحده ـ كفيلٌ بأن يقود الإنسان إلى الإيمان بالله بطريقة فطريةٍ عفويّة لا تعقيد فيها، فهي لا تحوجه إلى البحث عن إجابات صعبة على إشكالات فكرية معقّدة.

* * *

السمع والأبصار والأفئدة من نعم الله

{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ} فكروا في أنفسكم، في الجسد الذي تتحركون به، ألا ترون أن لكم أسماعاً تلتقطون فيها أصوات الموجودات المحيطة بكم، وأن لكم أبصاراً تشاهدون فيها كل المناظر التي تحيط بكم، وأن لكم عقولاً تطوف بكل مفردات المعرفة التي تمتلئ بها حياتكم الباحثة أبداً عن الفكر والحق والإبداع؟ هل هناك معنى للحياة دون هذه الطاقات التي تتعاون في الوصول إلى هدى الوعي الذي يحرّك حياة الإنسان في الاتجاه السليم؟ فبالبصر والسمع يلتقط الكائن الحيّ كل المسموعات والمبصرات وكل ما يتحسسه الإنسان من خلال تجربته الذاتية، بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر ما ينقل إليه من تجارب الآخرين. وبالعقل ينظم كل التجارب الحسية التي يعيشها ويحولها إلى نظم عقلية وملاحظات، ما يفتح للإنسان كثيراً من أبواب الخير والهدى والنجاة.

فهل تتصورون الحياة دون سمعٍ؟ وكيف تستطيعون التعويض في المعرفة عمّا ينقله إليكم السمع؟ وكيف يكون الوجود الإنساني أعمى بحيث يفقد كل تجارب البصر التي تهديه إلى مواقع المعرفة ومنابع النور؟ وما قيمة السمع والبصر وكل الحواس الأخرى في جسد الإنسان، إذا لم يكن هناك عقل ينظّم لها كيف تواجه الحياة من موقع النور والقوّة والاستقامة؟

إنها النعم التي ترتفع بالإنسان، عندما تجتمع له، إلى الآفاق التي تربطه بالقضايا الكبرى، وكليات الحقائق، وقوانين الوجود، وقواعد المعرفة، وتقوده من خلال عمق العلم ورحابته إلى أن يكون القوّة التي تقود الحياة وتوجّهها في الاتجاه الصحيح، فهل تشكرونها، وهل تعرفون أن الشكر في هذا المجال ليس كلمةً تقولونها، وليس التفاتة عرفان بالجميل تتمثلونها أو تعبرون عنها بابتسامةٍ، أو انحناءةٍ، أو هديةٍ أو ما إلى ذلك، مما اعتاد الناس أن يعبروا به عن شكرهم للجميل؟! بل هو حالة وجدانية تهزّ الكيان اعترافاً بالخضوع العميق للخالق الذي أبدع وأعطى ودبّر، وموقف طاعة دقيقة شاملة لكل أوامره ونواهيه، تعبيراً عن خضوع المخلوق للخالق في وعيه لسرّ العبودية في ذاته للإِله الذي خلقه، إنه شكر الوجود الإنساني الحيّ المتحرك بالموقف لخالق الوجود.. ولكن ما تعيشونه خلاف ذلك.. فأنتم {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فليس هناك إلا القليل القليل من الشكر الذي لا يعبر عن الإحساس بالنعمة.

* * *

الله يسخّر ما في الأرض للإنسان

{وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ في الأرض} وأوجدكم فيها وسهّل لكم سبلها، وأخرج لكم ثروتها، وسخّر لكم كل طاقاتها لتخدم استمرار الحياة في وجودكم، ولم يهملكم ويترككم لتأخذوا حرية العبث بنظام الحياة، وبطاقاتكم التي أودعها فيكم، بل فرض لكم خطاً لا تتجاوزونه وحدّاً لا تتعدونه، وجعل لكم موعداً تلتقون فيه بنتائج المسؤولية في ساحة الحساب.. {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لتعرفوا أن انطلاقة وجودكم بدأت به، وستحشرون إليه في النهاية.. فكيف تواجهون الموقف، وكيف تتمثلون هذه النعمة؟

* * *

الله المحيي والمميت وبيده الملكوت

{وَهُوَ الذي يحيي وَيُمِيتُ} ويمسك بالوجود كله، فلا تبتعد الحياة بكل مظاهرها وأشكالها عن إرادته، ولا يتحرك الموت بعيداً عن مشيئته، فهو مالك الحياة والموت.. {وَلَهُ اخْتِلافُ الليل وَالنَّهَارِ} وهو الذي أبدع اختلاف الحركة وتنوّع أشكال الوجود، في تتابعه، في ما يحتوي النشاط الإنساني كله، وفي ما يثير الإحساس بالزمن الذي يمتد فيه الليل طويلاً تارةً وقصيراً أخرى، ليتبادل حركة الطول والقصر مع النهار، بحيث يلهث الإنسان مع الزمن ويستغرق فيه، ليطلّ من خلاله على حيويّة الحركة، وعلى نهاية الحياة في نهاية المطاف، ليؤمن بأن الحياة وإن اختلفت في أشكالها وأوضاعها، فإنها تبقى خاضعة لتدبير المبدع الذي خلق الوحدة في التنوّع، وأبدع من التنوّع سرّ النظام في الوجود كله..

{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} لتقعوا على عمق المعرفة بالله من خلال التفكير العميق بمظاهر الإبداع في خلقه، ولتؤمنوا بأن هذه الحياة التي خضعت للنظام الكوني، لا بد من أن يتحرك فيها الإنسان من مواقع النظام الذي وضع الله شرائعه، وأوحى إليه بآياته، ليتكامل نظام الإنسان مع نظام الكون، ولكنّ مشكلة كلّ هؤلاء أنهم لا يفكرون بعقل، بل بانفعال، ويعالجون القضايا الفكرية العميقة التي تحتاج إلى جهدٍ عقليّ دقيق بسطحية.

* * *

اتّباع المشركين مواقف الأوّلين

{بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} الذين واجهوا الرسالات بالانفعال نفسه، ولم يواجهوها بالفكر، فقلّدوا موقفهم ذاك، تقديساً للتراث التاريخي، وانسياقاً وراء العاطفة التي تربطهم بالآباء، فتدفع الموقف العقيدي في اتجاه الخط العاطفي، دون مناقشة للمضمون الفكري، ودون اعتبار للنتائج السلبية المترتبة على ذلك في قضية المصير.

{قَالُواْ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} فكيف يتحول التراب إلى عنصر حياة؟ وكيف تتحول العظام إلى جسد تضج الحياة في داخله وتتحرك فيه ليواجه الحساب هناك، فيسمع ويبصر ويفكر ويتكلم ويدافع عن نفسه، ويتذكر كل أعماله؟ {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} لجهة ما تحدث به الأنبياء، ولكننا لم نر شيئاً منه في ما عشناه من تجارب، فلم يبعث أحد من الأجداد في حياة آبائنا، ولم يبعث أحد من آبائنا في حياتنا، فكيف نستريح لمثل هذا الوعد، وكيف نؤمن به ونقتنع، وليس هناك ما يثبت عمق الحقيقة فيه؟ {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } الذين آمنوا بالخرافة، لأنهم لم يأخذوا بأسباب العلم والمعرفة، ولم يتحركوا لمناقشة الأمور.

* * *

القرآن يدعو المشركين إلى التفكير وإعمال العقل

ولكنّ القرآن أراد إثارة القضية التي اعتبروها بمثابة الأسطورة من جانب آخر، ليفكروا بها في اتجاهٍ مختلف، ينفذ إلى النتائج بشكل غير مباشر، وذلك بأن يثير أمامهم بعض علامات الاستفهام التي تحرّك تفكيرهم: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فيها إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}؟ هل يملكها أحد ممن تعتبرونهم شركاء لله؟ وهل تملكونها أنتم؟ ومن الطبيعي أن السؤال يطال الملك الحقيقي الذي يتأتى عن الخلق والتصرف والتدبير، لا الملك الاعتباري الذي يتصل بالجانب القانوني..

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وهو الجواب الذي يفرض نفسه عليهم لقناعاتهم الحقيقية بأن الله هو خالق كل شيء، فهم ليسوا منكرين للخالق، بل جلّ ما لديهم أنهم يجعلون له شركاء في المرتبة الثانية أو الثالثة، من حيث العبادة، لا من حيث الألوهية.

{قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} لتفتحوا قلوبكم على الحقائق، التي تطلّ بكم على حقائق أخرى، قد تختلف عنها بالشكل ولكنها تتفق معها بالعمق، لأنها تستند كلها إلى القدرة المطلقة التي لا يعجزها شيء، ما يجعل الذاكر لهذه الحقيقة منفتحاً بقناعاته على مفرداتها المتنوعة.

{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ويعود السؤال من جديد، إلى الحديث عن السماوات السبع التي يملك الناس في ذهنهم تصوراً كبيراً عنها في حجمها وارتفاعها وما فيها من مخلوقات ملائكية ونحوها، ويعتقدون أنها الأقرب إلى الله في ملكوته الأعلى.. وعن العرش العظيم الذي يمثل في وعيهم الشعوري واللاشعوري، المنطقة العليا الرفيعة التي يتمثل فيها مركز السلطة الإلهية الذي يشرف على الكون كله في موقع الإيجاد والتدبير، وربما كانت له صورة ضخمة غامضة توحي بالكثير من ألوان العظمة، مما يسمعونه عنه، أو يتخيلونه.. ويختزنون في أعماقهم الهيمنة الإلهية عليه..

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} لأنهم لا يمكن أن يتخيلوا سيطرة غيره على العرش، وملك غيره له، لأنه إذا كان لمن يعبدونهم من الأوثان والبشر أيّة ميزةٍ، كما يتصوّرون، فإنما هي ميزة القرب من الله التي تجعلهم في محلّ الوسائط التي تقضي الحوائج بإذنه، وتقرّب الناس إليه من خلالهم..

ولعل التعبير بكلمة {لِلَّهِ} بدلاً من كلمة «الله» التي قد تتناسب مع السؤال عن ربّ هذه العوالم، يعود إلى ما تتضمنه من إيحاء بأن السؤال هو عن المالك لها، بسبب ما تحويه كلمة الرب من معنى الملك..

{قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} غضبه إذا انحرفتم عن خط الإيمان، وتحركتم في مواقع الكفر، وسخرتم برسله وبرسالاته، وبوعده ووعيده، وتمردتم على أوامره ونواهيه.. فمن ينصركم منه في يوم الحساب؟ ثم ألا تتقون التقوى الفكرية التي تدفعكم إلى الإحساس بمسؤولية الفكر في حركته لاكتشاف حقائق الكون والعقيدة، لتفهموا من عمق النظرة، أن الذي يملك الأرض ومن فيها، والسموات السبع والعرش العظيم، لا يعجزه أن يعيد الميت إلى الحياة، وأن يحوّل التراب والعظام إلى كائناتٍ حيّةٍ من جديد كما بدأها أول مرّة عندما أعطاها الحياة؟!

{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء} الملكوت هو التعبير الآخر عن الملك، وهو السلطنة على الأشياء من موقع الخلق والإبداع.. والسؤال الذي تطرحه الآية على هؤلاء يستهدف توجيه نظرهم إلى كل ما حولهم ومن حولهم، من مخلوقات حية أو جامدة، وثابتة أو متحركة، وكبيرة أو صغيرة، ليدرسوا نشوءها ونموّها وخصائصها الذاتية، وليكتشفوا القوّة الكامنة فيها، هل هي قوّة ذاتية تنطلق من الداخل، أم هي قوة مستعارة أو مستمدة من قوّة أخرى تملكها وتملك كل مواقع القوّة فيها؟ إن السؤال يطرح نفسه على الإنسان عندما يفكر، ويطرح نفسه على كل من يدعوهم إلى التفكير، ليصل إلى معرفة القوّة التي تمنح الوجود كله، بمفرداته الصغيرة والكبيرة، سرّ القوّة والحركة والوجود والحياة، هذه القوة التي يجسدها الله تعالى، والتي هي القوة الوحيدة المستغنية عمّا عداها.

{وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} تلك هي خصوصية الملك المطلق الذاتي الذي لا يستمد قوّته ومعناه من غيره، فهناك من المالكين من قد يحمون غيرهم ويمنعون عنهم سيطرة القوى الأخرى وعدوانها عليهم، ولكن القوى العليا المسيطرة على هؤلاء المالكين الأقوياء تستطيع حماية الناس منهم لو فكروا في العدوان عليهم، فهؤلاء المالكون لا يملكون القوّة إلا من جانب واحد، بينما يعيشون الضعف من الجانب الآخر، فهم قد يمنحون الناس الحماية من غيرهم، ولكنهم لا يستطيعون منع القوى الكبرى من حماية الناس منهم..

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ـ في هذه الآية ـ: من هو المالك الذي يملك كل شيء، ويستطيع أن يجير كل أحد من كل سوء يعرض عليه، من أي سبب في الأرض أو في السماء، ولا يملك أحد أن يجير عليه إذا أراد أن يوقع السوء بأيّ شخص؟ هو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، كتعبيرٍ عن القوّة المطلقة التي تملك غيرها بكل وجوده وحركته، ولا يملك غيرها شيئاً لديها في جميع الأمور.

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، فهو الذي بيده ـ بالمطلق ـ ملكوت كل شيء، فكل شيء مملوك له خاضع له ومحتاج إليه، {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي تتخيلون الأشياء في سلوككم العملي على خلاف ما هي عليه، فإذا كنتم تقرون بالله الذي يملككم ويملك ما تملكون، ويحميكم من الآخرين ولا يملك أحد أن يحميكم منه، فلماذا تبتعدون عن ساحة رضوانه، ومواقع الإيمان به، والإذعان لقدرته على بعثكم من جديد؟ فكيف يتوهم عجز من بيده القدرة على كل شيء عن ذلك؟ والظاهر أن التعبير بالسحر عن حالة التخييل التي تقود إلى الضلال وارد على نحو الاستعارة والكناية، باعتبار أن كلمة السحر تتضمن ذلك.

* * *

الأسلوب القرآني في إثارة الوجدان الشعبي

وهذا الأسلوب الذي يستخدمه القرآن لإثبات العقيدة من خلال مستلزماتها، يرتكز على إثارة التفاصيل الدقيقة التي تلتقي بالقاعدة وتوضحها من خلال تحريك الجزئيات التفصيلية التي تثيرها في النفس شيئاً فشيئاً، حتى يتعاظم الشعور بها، فتتضح الصورة للنفس، بعد أن كانت تبدو ضبابية تحت تأثير الأجواء الانفعالية وهيمنتها.

وقد يكون هذا الأسلوب ضروريّاً لإثارة الوجدان الشعبي الذي يتأثر بالأفكار المضادّة التي تشغله عن كثير من الدقائق التي تنطلق منها العقيدة، وذلك من خلال تقديم الجانب المألوف من تجارب حياته كمقدمة لإثبات غير المألوف الذي يتصل بالغيب تارة، وبالحسّ البعيد عن تجربته أخرى، فنحتاج إلى الدخول معه بتفاصيل حركة المعرفة، ليمكن توزيع إيحاءات الفكرة ـ الأساس، على أفكاره ومشاعره بطريقةٍ متدرجة تربطه بالمبدأ بشكل مدروس، لأن الوجدان الشعبي، كما نلاحظ، لا يرتبط بالفكرة من خلال الخطوط الكلية، بل من خلال الخطوط الجزئية.

* * *

إن المشركين لكاذبون

{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} الذي لا يبتعد عن مستوى عقولهم، في ما يريدون أن يفهموه منه، ولا يتجاوز قواعد الدليل الفطري، أو البرهان العقلي، الذي يثبت للآخرين مواقعه في خط العقيدة، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ما يظهرونه من عدم اقتناعهم بفكرة البعث، واعتبارهم إياها في دائرة الأساطير، لأن من يؤمن بأن الله على هذا المستوى من العظمة المهيمنة على الكون كله، لا يكون صادقاً في دعواه بأن عقيدة اليوم الآخر لا تملك من موازين الحقيقة أيّ شيء. وبذلك، فإن أجوبتهم عن علامات الاستفهام التي أثارتها الآيات السابقة، تدل على اعترافهم بما يدعون إنكاره، وعلى كذبهم في هذا الادّعاء..