تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 10 إلى الآية 13

 من الآية 10 الى الآية 13
 

الآيــات

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَولادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ* كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَـتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبصَارِ}(10ـ13).

* * *

معاني المفردات

{تُغْنِي}: النفع، والصرّف والكف.

{وَقُودُ}: الحطب: والوقود إيقاد النار.

{كَدَأْبِ}: الدأب: العادة، يقال: دأب يدأب دأباً: إذا اعتاد الشيء وتمرّن عليه، والدأب الاجتهاد، يقال: دأب في كذا دأباً ودؤوباً إذا اجتهد فيه وبالغ، ونقل من هذا إلى العادة لأنه بالغ فيه حتى صار عادةً له.

{بِذُنُوبِهِمْ}: جرائمهم، والذنب والجرم واحد.

{وَتُحْشَرُونَ}: الحشر الجمع مع سوق، ومنه يقال للنبي: الحاشر، لأنه يحشر الناس على قدميه كأنه يقدمهم وهم خلفه لأنه آخر الأنبياء، فيحشر الناس في زمانه وملَّته.

{جَهَنَّمَ}: اسم من أسماء النار.

{الْمِهَادُ}: القرار، وهي الموضع الذي يتمهّد فيه أي ينام فيه مثل الفراش.

{الْتَقَتَا}: الالتقاء والتلاقي والاجتماع واحد.

{يُؤَيِّدُ}: يقوّي، والأيد القوة ومنه قوله تعالى: {دَاوُدَ ذَا الأيد} [ص: 17]، يقال: إدْتُه أئيده أيداً أي قويته، وأيدته أؤيّده تأييداً بمعناه.

{لَعِبْرَةً}: العبرة: الآية، يقال: اعتبرت بالشيء اعتباراً وعبرةً، والعبور النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر، وسميت الآية عبرةً لأنه يعبر عنها من منزل العلم إلى منزل الجهل، والمعتبر بالشيء تاركٌ جهله وواصلٌ إلى علمه بما رأى، والعبارة الكلام يعبُر بالمعنى إلى المخاطب.

* * *

مناسبة النزول

جاء في تفسير الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: «أن رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً، فقالوا: يا محمد لا يغرّنّك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً ولا يعرفون القتال، إنك والله لوما قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {لأولي الأبْصَارِ}[1].

وقد لاحظ صاحب تفسير الميزان على هذه الرواية، أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملاءمة، وأن الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة أحد[2].

وقد نلاحظ على هذه الرواية، أن المألوف في خطاب الله لليهود هو النداء لهم بصفة أنهم (أهل الكتاب) لا بصفة «الذين كفروا»، مع نقطة أخرى، وهي أن النبي(ص) لا يستعمل مثل هذا الأسلوب في حديثه معهم، لاسيّما أن المرحلة كانت مرحلة العهد والميثاق مع اليهود في المدينة، مما يجعل مثل هذا الحديث نقضاً للعهد أو إيحاءً بمثل ذلك، في الوقت الذي لا مصلحة للمسلمين أن يدخلوا في حرب جديدةٍ يبتدئونها بهذا الشكل من الإثارة، كما أن اليهود آنذاك لا يتحدثون مع النبي بهذه الطريقة الفجّة وجهاً لوجه، لاسيما بعد أن عاد منتصراً من معركته في بدر.

ولا مانع من أن تكون الآية وما بعدها واردة في سياق الجدال مع المشركين بعد غزوة أحد التي انتصروا فيها بعض الشيء، أو في مناسبةٍ أخرى مماثلة بحيث كانت مثاراً للشماتة بالنبي(ص) وبالمسلمين، استضعافاً لهم، فكانت هذه الآيات منطلَقاً لتذكيرهم بأن القوة المادية قد تضغط بعض الشيء على الموقف في بعض المراحل، ولكنها لا تمثل القاعدة في مسألة النصر، لأن موقف المسلمين في بدر التي لم يكن لهم فيها أية قوةٍ مادية، وانتصارهم على المشركين الذين كانوا يملكون السلاح الأقوى والجماعة الأكثر والاستعداد الأكبر، يدل على أن الإيمان مع بعض القوة المادية قد يؤدي إلى الانتصار للمؤمنين في المستقبل، كما في الماضي.

وهكذا ظهر صدق النبوءة القرآنية في هزيمة المشركين وغيرهم بعد ذلك حتى فتح الله على نبيه مكة، بعد أن هزم المشركين واليهود في معركة الأحزاب وبني قريضة والنضير وقينقاع، وجاء نصر الله والفتح.

* * *

القرآن والأسلوب الحاسم

ربما كانت هذه الآيات واردة في نطاق الخطة التربوية للمسلمين الذين كانوا واقعين تحت ضغط الحالة النفسية الصعبة في ما يرونه من مظاهر القوّة المادية لدى الكافرين، الأمر الذي قد يوحي لهم بمشاعر الضعف، كما يوحي للكافرين بمشاعر القوّة والكبرياء والاستعلاء... فأراد الله أن يكشف الواقع الذي يختفي خلف مظاهر القوّة، وهو واقع الضعف في طاقاتهم، فهم لا يملكون قوّة تدفع عنهم العذاب، كما أن هذه المظاهر لا تستطيع لهم شيئاً، فهي خاويةٌ لا تحوي قيمةً نافعةٌ، ليعرف المؤمنون من خلال ذلك أن القوّة لهم، بإيمانهم الذي يملأ حياتهم بالقوّة من خلال الله، ليواجهوا الكافرين بهذه الروح من خلال هذا الموقع.

وهكذا يريد الله لهم أن يفكروا ويتعمقوا ليرتبطوا بالأشياء من خلال نتائجها وعواقبها، لا من خلال ظواهرها وأشكالها، ليحفظوا نظرتهم للواقع من السطحية، ويصونوا خطواتهم وأفكارهم من الاهتزاز.

* * *

قوة الكافرين عرض زائل

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَولادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} فما هي قيمة هذه القوّة التي يحاولون أن يستندوا إليها، إنها مجرد عرض زائل قد يتفاخرون به أمام أمثالهم من الناس، وقد يرتكزون عليه في مجالات الصراع الإنساني، حيث يستعين كل إنسان بماله وولده في مواجهة خصومه، ولكن ماذا يمثّل كل هذا أمام الله الذي خلقهم وخلق أولادهم وأموالهم؟ إنه لا شيء، فكيف يكفرون ويستكبرون ويسخرون من عباد الله المؤمنين؟!

{وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} إنها صورةٌ مليئةٌ بالسخرية بهؤلاء الذين يتظاهرون بالعظمة والكبرياء. إن كل هذه المظاهر ستتحول إلى حطب، كأيّة خشبة، كأيّ شيء توقد به النار. فما قيمة هذا الحطب؟ إنه سيتحول إلى رماد تذروه الريح في يوم عاصف، فينتهي إلى لا شيء.

{كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهذه صورة حيّة من صور التاريخ التي يحفظها هؤلاء الكافرون، في ما يحفظونه من تاريخ عظماء الكفر والكبرياء والضلال، ليكون ذلك لهم مصدر زهو وخيلاء، ولكن الله يريد أن يربط تصورهم لبدايات الأشياء بنهاياتها، فيحدثهم عن مسيرة آل فرعون ومن سبقهم من الطغاة الكافرين بالله المكذبين بآياته، كيف كانوا، وكيف أخذهم الله بذنوبهم فلم يغنِ عنهم ملكهم شيئاً وذاقوا أشد العقاب، فهل يتعظ اللاحقون بالسابقين؟

{قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} إن الدائرة ستدور عليهم، فالمستقبل ينتظر عباد الله المؤمنين ليكون الحكم لله في دينه وشريعته، وستكون الغلبة لهم على الكافرين، فليراجع الكافرون حساباتهم على هذا الأساس، وليعلموا أن سنن الله في الحياة لا تتبدل ولا تتحوّل مهما كاد الكائدون وتمرّد المتمرّدون، وليرجعوا إلى صوابهم فيؤمنوا بالله وبكتبه ورسله، قبل أن يحشروا إلى جهنم، وبئس المهاد.

{قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَـتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولي الأبْصار}، إن على الإنسان الذي يسمع ويبصر ويعقل أن يأخذ العبرة من الواقع، فإن فيه دروساً كثيرة تستطيع أن تكشف له خطوات المستقبل من خلال الماضي والحاضر، والله يشير إلى معركة سابقة من معارك الإسلام التي انتصر فيها الإسلام على الشرك، قد تكون معركة «بدر» وقد تكون غيرها، فقد وقف المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته والدفاع عن شريعته، ووقف الكافرون الذين يقاتلون في سبيل الشيطان ويرون المسلمين الذين هم قلة، ضِعف عددهم... وانتصر المسلمون بإيمانهم بالله وبما هيّأه الله لهم من أسباب النصر من دون تكافؤٍ في العدد أو في العدّة، ما يجعل القضية بعيدةً عن المنطق العادي للمعارك ويوحي للمعتبرين بالعبرة التي يعلمون ـ من خلالها ـ كيف ينصر الله عباده المؤمنين عندما يأخذون بأسباب النصر ويتوكلون عليه في ما يريدونه من قوّة وانتصار.

ـــــ

(1) الدر المنثور، ج:3، ص:158.

(2) تفسير الميزان، ج:3، ص:136.