من الآية 18 الى الآية 20
الآيــات
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جاءهمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ* الْحِسَابِ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(18ـ20).
* * *
معاني المفردات
{شَهِدَ}: من الشهادة، وحقيقتها الإخبار بالشيء عن مشاهدةٍ أو ما يقوم مقام المشاهدة، وهي الحجة والبرهان.
{بِالْقِسْطِ}: العدل.
{الدِّينَ}: ها هنا ـ كما في مجمع البيان، الطاعة، وأصله الجزاء وسمّيت الطاعة ديناً لأنها للجزاء[1].
{الإِسْلام}: أصله السلم، وأصل السلم السلامة، لأنها انقياد على السلامة، ويصلح أن يكون أصله التسليم لأنه تسليم لأمر الله، والتسليم من السلامة، لأنه تأدية الشيء على السلامة من الفساد، فالإسلام هو تأدية الطاعة على السلامة من الإدغال.
{بَغْيًا}: البغي طلب الاستعلاء بالظلم، وأصله: بغيت الحاجة إذا طلبتها، والمراد به ـ هنا ـ الحسد ونحوه.
{حَآجُّوكَ}: جادلوك في الدين، والمحاجّة هي الوسيلة التي يحاول فيها صاحب الرأي ردّ الآخر عن رأيه من خلال الردّ على حجته.
* * *
التوحيد حقيقة الوجود
إن القرآن الكريم يواجه المنكرين الكافرين بالله بعدة أساليب في تقريره لحقيقة الوحدانية، فقد يتمثل ذلك في طريقة الاستدلال العقلي، وقد يتخذ أسلوب الدليل الاستقرائي الذي يدعو إلى السير في الأرض والتأمل في خلق الله، وقد يتمثل في الأسلوب الذي يوحي بها في مجال الإعلان بأنها الحقيقة الحاضرة التي تعبر عن نفسها من دون حاجةٍ إلى دليل، تماماً كما هي الأمور الحسيّة التي تثبت بالحسّ، كما في هذه الآية، التي تبدأ الموضوع بشهادة الله أنه الواحد الذي لا إله إلا هو في حضور الحقيقة في ذاته، وشهادة الملائكة في إدراكهم لعظمة الله من خلال منازل القرب إلى مواطن عظمته، وأولو العلم في ما يقودهم إليه العلم من الإحساس اليقيني بهذه الحقيقة.
وفي ذلك إيحاءٌ بأن المنكرين الذين لا يشهدون بهذه الحقيقة لا ينطلقون من علم، بل يتحركون في متاهات الجهل. والقيام بالقسط، وهو العدل، هو من لوازم الوحدانية التي توحي بالقوة المطلقة والغنى المطلق الذي يملك كل شيء، ولا يحتاج شيئاً، فكيف يمكن أن يظلم، والظلم هو عقدة الضعيف، كما ورد في دعاء عن الإمام الباقر(ع) عقيب صلاة الليل: «وقد علمت يا إلهي أنه ليس في نقمتك عجلة، ولا في حكمك ظلم، وإنما يعجل من يخاف الموت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً»[2]. وعلى هذا، فإن الشهادة بالوحدانية تستتبع الشهادة بأن الله هو القائم بالقسط. وقد كررت الآية كلمة التوحيد لتقرير العقيدة الواضحة من خلال هذه الشهادة العظيمة...
وهو العزيز الحكيم، فلا مجال للانتقاص من عزته من قِبَل أيّ أحد من خلقه في كل ما يفعله وما يقوله، ولا مجال للتشكيك في حكمته في ما خلق ودبّر وفي ما نظَّم للحياة من قوانين كونية في ظواهر الكون ومن قوانين شرعية في تشريع الحياة للإنسان.
* * *
الشاهد والشهود على وحدانية الله
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} فهو الشاهد الأعظم الذي خلق الوجود المتحرك في كل حقائقه وتنوعاته، وهو الذي أعطاه مضمونه ومعناه، وهو الشاهد في ذاته من خلال حضور الذات في الذات، وهو الخالق للكون كله، والمطلع عليه في علمه بالنفي المطلق للشرك، ولا يملك النفي المطلق غيره، فإن المحدود لا يمكن أن يدرك إلا الواقع المحدود، فلا يجد سبيلاً إلى الحقيقة في دائرة النفي إلا من خلال العقل، لأنه لا يملك الحس الذي يشمل الوجود كله، ليعرف ـ من خلاله ـ أين يكون النفي حقيقة، وأين يقع الإثبات في موقعه التوحيدي، وهو الذي تنطلق شهادته في دائرة غناه الذاتي، فلا يحتاج إلى أن يعرفه أحد من خلقه، لتكون الشهادة وسيلة من وسائله الحيّة في الوصول، ذلك لأن معرفة خلقه له حاجة حيوية للإحساس بمعنى وجودهم، والانفتاح على مصدر القوة الذي هو مصدر الوجود في حياتهم.
وتلك هي الشهادة التي تمنح الحقيقة لكل مخلوق حيّ، فيحس بها في ذاتياته، حتى لتتحول في داخله إلى ما يشبه إحساس الذات بالذات في معنى الفطرة، وقد تحدّث البعض عن النزاع في أن الشهادة هي بالقول أو بالفعل، ونحن لا نرى في هذا الحديث فائدةً يتحرك النفي أو الإثبات نحوها، لأن الله أعطى الكلمة في الشهادة بتوحيده من خلال وحيه، كما أعطى الواقع الشهادة الحسية المتجسدة في الكون كله الناطقة في مضمون وجودها بأنه الله الذي لا إله إلا هو في معنى الفطرة الوجودية للكون كله، ولن تحتاج الكلمة إلى دليل في صدورها عنه، لأن معناها في داخل ذاتها، من حيث إن التوحيد هو حقيقة الوجود، فهو الذي يشهد للكلمة على صدقها، وليست هي التي تؤكد صدقه في معنى الحقيقة في ذاته.
{وَالْمَلائِكَةُ} الذين عاشوا الفناء في الله والذوبان في عبادته، والخضوع لعظمته والخشوع أمام ربوبيته، فهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26ـ27]، وهم الذين {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75].
ومن خلال كل هذه الأجواء الغيبية التي عاشوها في رحاب الله في وظائفهم الكونية، وفي مسؤولياتهم السماوية، وفي شمولية التجربة في آفاق السماء والأرض، في الحدود التي أمكن لهم أن يصلوا إليها ويعرفوها، أدركوا التوحيد في حقيقته التي لا ترفض أية فكرة للربوبية بعيداً عن الله، فهم يعرفون حجم المخلوقات في دائرة تجربتهم، ويعرفون عظمة الله في كل مظاهر خلقه ومواقع قدرته، فلا يرون له مثيلاً ولا شريكاً، فيشهدون من عمق الإيمان في وعيهم للحقيقة التوحيدية أنه لا إله إلا هو.
{وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} هؤلاء الذين انفتحوا بعقولهم وتجاربهم على الوجود في تفاصيله وفي عناصره وفي مواقع العظمة فيه وأسرار الإبداع في حركته، وتطلعوا ـ في عملية مقارنة وتأمّل وتفكير ـ إلى كل مواقع القدرة في الكون مما تتحرك به المخلوقات الكبيرة العظيمة هنا وهناك، فرأوا أنها لا تملك شيئاً من معنى العظمة وسرّ القدرة إلا بالله، فآمنوا أنه لا إله إلا هو، ولعلّ من الواضح أن المراد بالعلماء هنا كل الذين يملكون العلم الذي ينفتح على توحيد الله من خلال الانفتاح على أسرار عظمته وحكمته وقدرته، ولا خصوصية لأحد في ذلك من حيث المبدأ، ولكن هناك ما يتميز به عالمٌ عن عالمٍ في درجة المعرفة، الأمر الذي يجعلهم في وعيٍ للتوحيد بطريقةٍ أعمق وأفقٍ أرحب.
{قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} حال من فاعل قوله: {شَهِدَ اللَّهُ} فقد شهد الله توحيد ذاته من خلال قيامه بالعدل الذي لا ينفصل عنه، لأن عدالته جزءٌ من معنى الألوهية، ومظهر لغناه عن عباده، فلا يظلمهم، لأن الظلم دليل فقر وضعف، وهكذا كان قيامه بالقسط في النظام الكوني بكل وجوداته، لأنه أعطى كل موجود حقه بما منحه إياه من حاجته، فكان الوجود كله في وعيه الذاتي الوجودي لربه مظهراً حيّاً للشهادة الكونية بتوحيده، ولعل التركيز على القيام بالعدل، في موقع انطلاقة الشهادة، يوحي بأن علاقة الله بالكون في وجوده الحي والجامد، ليست علاقة سيطرة في معنى الذات كما هي علاقة المخلوق القوي بالمخلوق الضعيف، بل هي علاقة العدالة المرتبطة بالخالقية من موقع الرحمة، ما جعل عدالته مظهر رحمته، كما هي ـ في العمق ـ مظهر قوته وغناه.
* * *
الحياة كلها لله
{لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} فهذه هي الحقيقة التي لا بد للإنسان من أن يؤكدها في نفسه لتملأ عقيدته كل وجوده، تماماً كما تؤكد نفسها في كل موقع من مواقع الكون {الْعَزِيزُ} الذي لا ينتقص أحد من قدرته وقوته {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويعطي لكل واحدٍ منها موقعها ودورها في حركة النظام الكوني كله. {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلامُ} ويتمثل في الإسلام لله في كل شيء، بحيث يفتح الإنسان قلبه لله، ليواجه الأشياء من هذا المنطلق، الذي يدعوه إلى أن يجعل حياته كلها لله في ما يأمره به أو ينهاه عنه أو يقوده إليه من أهداف كبيرة في الحياة، وبذلك لا بد له من أن ينفتح على كل الرسالات ويصدِّق كل رسالة، فلا يخضع لعصبية عمياء تحجب عنه إشراقة الحق فتؤدي به إلى العناد والاستكبار والبعد عن الطريق المستقيم، فينكر الحقائق الواضحة التي لا سبيل إلى إنكارها، ويتنكر للبيّنات التي لا مجال للشك فيها. وهذا هو الذي يشمل كل ما جاء به الرسل، فإن كل رسالة تمثل الخط الذي يريد الله للناس أن يسيروا عليه في مرحلتها، الأمر الذي يجعل الإسلام متمثلاً فيها، لأن السير عليها هو مصداق للاستسلام والخضوع لإرادة الله سبحانه، أمّا إذا انتهت المرحلة لتبدأ مرحلة جديدة من خلال رسالةٍ جديدةٍ، فإن الإسلام يتمثل في السير على خط هذه المرحلة الجديدة، ويكون البقاء في الخط الأول منافياً للإسلام في مدلوله الروحي والعملي. فالإسلام هو صفة كل الأديان، ولكن في نطاق المرحلة التي يتسع لها كل دين في ما حدد الله له من مراحل زمنية محدودة .
* * *
أطروحة الإسلام في الاعتقاد
وقد جاء في نهج البلاغة عن الإمام علي(ع) أنه قال: «لأنسُبَنَّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»[3].
وهذه هي الأطروحة التي تؤكد أن مسألة الإسلام ليست مسألة خضوعٍ واستسلام تلقائيٍّ شكليٍّ يتحرك بطريقة آليةٍ لا روح لها ولا عمق، بل هي انفعال النفس بالفكرة والخط، بحيث تنحني كل حالةٍ ذاتية أمامها، وذلك من خلال اليقين الذي يمثّل وضوح الرؤية للأشياء ووعي الفكر للعقيدة، فهو يتحرك من موقع القناعة التي تخضع الذات لكل معطياتها ومتطلباتها، ما يجعل المسألة مسألة استسلامٍ إراديّ واعٍ منفتحٍ يعرف ما يريد وما لا يريد، لا مسألة استسلامٍ أعمى خاضعٍ للإرث التقليدي والانفعال العاطفي. وإذا كان اليقين هو حالة العلم الذي يكتشف مفردات الحقائق، فلا بد من التصديق الذي يجعل العلم متجذراً في الذات من موقع الاعتقاد القلبي الذي يجعل العقيدة من خصوصيات الذات في الحس والشعور.
وإذا تحقق التصديق، فإنه يجتذب الإقرار الذي يعني الانتماء للفكرة من موقع الإقرار بها والإعلان عنها، لأن القناعة بالانتماء تؤدي إلى شجاعة الاعتراف بمقتضاه. وهكذا يتحول الإقرار الذي يمثل الالتزام الجدي الواضح الصريح إلى الالتزام بالمسؤولية وبالأداء الحركي الذي هو العمل في مظهره الحي، وهو الطاعة بامتثال أوامر الله ونواهيه. ومن خلال ذلك، نعرف أن الإسلام ليس كلمةً مجردةً، وليس عملاً جامداً، بل هو كلمةٌ تنطلق من عقيدة، وعقيدة تنطلق من قناعة، وموقف يتحرك في خط الالتزام بالمسؤولية وحركة العمل. إن مسألة الإسلام هي مسألة روحٍ في معنى الذات، والتزامٍ في خط العمل، وعلمٍ في آفاق الإيمان.
* * *
اختلف أهل الكتاب فضلّوا
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فقد ابتعدوا عن روحية الإسلام واستسلموا للعوامل الذاتية التي تتحكم في تعاملهم مع خط العقيدة والعمل، فانطلقوا بروحية البغي والعدوان يثيرون الخلافات التي تفرق الناس عن الحق، من دون أن يكون لهم أساس من شبهة أو قاعدةٌ من علم، بل القضية على العكس من ذلك، فهم يعرفون الحق على أساس العلم الذي يملكونه في ما يعرفونه من كتاب الله الذي أنزله الله على موسى وعيسى(ع). وذلك هو أساس التفرق في ما يتفرق به أهل الأديان وأهل المذاهب في الدين الواحد، فهم لا يسلمون فكرهم وعقلهم لله عندما يتناقشون، ليجدوا الانفتاح الذي لا مجال معه للانغلاق على روح العصبية العمياء، ولو أسلموا أنفسهم لله، لانطلقوا إلى الحقيقة في روح التعاون على فهمها وإزالة الغموض عنها، بحيث يتسابقون إلى اللقاء عليها بدلاً من التسابق إلى الوقوف عند الحدود التي كانوا فيها من دون أية رغبة في التقدم إلى موقف الآخر أو إلى منتصف الطريق حيث تنتظرهم الحقيقة هناك. وبذلك، فإن المشكلة في الخلافات الدينية ـ في أغلب الحالات ـ روحية ونفسيّة أكثر منها فكرية وعلميّة. ونحن نعرف أن الوصول إلى القناعات المشتركة يفرض إزالة الحواجز التي تمنع من اللقاء، وتدفع إلى التعصب والعناد، ولن يكون ذلك إلا إذا فتح الإنسان قلبه لله، في روحية المؤمنين الذين يقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
{وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لأن الكفر لا ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ يعذر فيها الإنسان، بل ينطلق من الجهل والبغي والعناد الذي يدفعه إلى إنكار آيات الله في وحيه الذي أنزله على رسله، وشرائعه التي ألقاها إلى أنبيائه وألهمهم تفاصيلها، وربما كان من هذه الآيات ما ورد في الكتب السماوية السابقة من أوصاف النبي محمد(ص) وعلاماته الدالة على نبوّته، مما بقي في تراث اليهود والنصارى، فقد أنكرها هؤلاء بغياً وحسداً وحفاظاً على أوضاعهم وامتيازاتهم التي حصلوا عليها بفعل التراكمات التاريخية في حركة السلطة والرئاسة في مواقعهم المختلفة.
ولذلك، فإن الله سيحاسبه حساباً عسيراً ليعرِّفه فقدانه للحجة في أسرع وقت، وفي ذلك إيحاءٌ بأن على الإنسان أن يركز قناعاته على أساس متين من الحجة والبرهان ليستطيع الدفاع عنها أمام الله عندما يقف للحساب بين يديه {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }[النحل: 111].
* * *
الدين عند الله الإسلام
{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}. إن الدين هو الإسلام، هذا هو الذي ينبغي أن يعلنه النبي على الناس كافة، لأن ذلك هو سبيل الانفتاح الواعي على الحق الآتي من الله، في مواقع الجدال والنزاع، وهذا ما أراد الله لنبيه أن يعلنه لكل من يحاجه. فقد أسلم وجهه لله، من خلال إسلامه الروحي والعملي، كما أسلم أتباعه وجههم لله من خلال التزامهم بخط الرسالة والرسول، الذي هداهم إلى العقيدة الحقة والخط الصحيح.
وفي ضوء ذلك، تنطلق الدعوة إلى الحوار العلمي الموضوعي الذي يرتكز على الحجة والبرهان لكل الذين يختلفون مع المسلمين في الدين أو في الرأي في أيّ جانب من جوانب وعي الحقيقة المتحركة في الحياة من دون أية عقدةٍ ذاتيةٍ أو مشكلةٍ نفسيةٍ، لأن المسألة عندهم هو أنهم أسلموا وجوههم لله، فهو الذي يتوجهون إليه بعقولهم لتكتشف من خلال هدايته الحقيقة كل الحقيقة في قضايا العقيدة والحياة.
وتبقى القضية أن على الآخرين الاستجابة لهذه الدعوة الإنسانية الحضارية الحوارية من أجل الانطلاق نحو الموقف الواحد على أساس العقل الواعي والفكر الصحيح، وهذا هو المنطق الذي أراد الله لنبيِّه وللمسلمين من أتباعه أن يخاطبوا به أهل الكتاب ليقودوهم إلى إسلام وجوههم لله، كما أسلم النبي ومن اتبعه وجوههم له، ليلتقي الجميع على الإسلام الذي يمثل روحية البحث عن الحقيقة من خلال الفكر والحوار.
{وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ} هم المشركون، لأنهم لم يملكوا كتاباً سماوياً حتى يكون حافزاً لهم على تعلم القراءة والكتابة ـ كما قيل ـ. قل لهم، ممّا تثيره أمامهم من البينات والحجج على أحقيّة الرسالة: {ءَأَسْلَمْتُمْ}؟ فإذا استجابوا لك في طريقة الحوار الخالي من التعقيد والتعصب، وفي مواجهتهم للحقائق بروح منفتحة خاشعة لله ولآياته، فقد اهتدوا إلى الجوّ الطاهر الذي يهديهم إلى الحق في اتباع سبيلك في ما بُلِّغت وفي ما هديت، {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا وانطلقوا يكيدون لك في خط العناد والاستكبار، فلا تحزن ولا تتعقد {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبلاغُ} وتلك هي مسؤوليتك التي قمت بها خير قيام، وعلينا الحساب، فليست مسؤوليتك أن تحاسبهم أو تعاقبهم، فقد أديت ما عليك من واجب الإبلاغ والإنذار وانتهت مهمتك عند هذا الحدّ من خلال صفتك كرسول يبلغ رسالة الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ويبقى لله أن يواجههم بنتائج أعمالهم، فإنه بصير بعباده في كل شيء.
وقد نستوحي من ذلك كيف نواجه بعض الفئات التي ندخل معها في قضايا الحوار، فإن من الضروري لنا أن نواجه الموقف ـ في داخل وجداننا ـ من موقع الإسلام لله، الذي يجعل الإنسان يتقدم إلى الحوار من خلال الروح الطيبة النظيفة التي أسلمت فكرها لله، لا من خلال الأفق الضيق الذي يقوده التعصب الأعمى، فإننا نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن الدعاة إلى الله، قد يتحركون من موقع العقدة الذاتية ضد خصومهم، فيمارسون بعض الأساليب التي لا تتفق مع خط الإيمان وأسلوبه العملي في الحوار، فيسيئون إلى الفكرة من حيث يخيّل إليهم أنهم يحسنون صنعاً، ولذلك، فلا بد لهم من أن يرتفعوا إلى مستوى هذا الأسلوب الذي يعلن فيه الرسول إسلامه لله، من موقع الحاجة إلى تأكيد هذا الإسلام في العقيدة والموقف والحوار. ثم يبدأ الحوار من هذه القاعدة، ليثير السؤال أمامهم عن وصولهم إلى القناعة التي تقودهم إلى إسلام الوجه والقلب واللسان والعمل لله، ويحاول أن يقدم لهم كل الوسائل التي تقودهم إلى ذلك، فإن لم يهتدوا بعد استنفاد كل الأساليب، فلا مجال للتعقيد والانفعال واللجوء إلى السباب وغيره من الأشياء التي تعبّر عما في الذات من الحالات الانفعالية، بل على الإنسان أن ينسحب بكل هدوء ويترك الآخرين لضلالهم بعد أن أقام عليهم الحجة، فقد أدّى واجبه، لأن خطّ الدعوة إلى الله يتمثل في إقناع الآخرين بالحق، أو في إقامة الحجة عليهم، فإذا بلغ إلى أحدهما، فقد انتهت مهمته، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
ــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:1، ص:539.
(2) البحار، م:30، ج:84، ص:372، باب:81، رواية:63.
(3) نهج البلاغة، ص:491، قصار الحكم:125.
تفسير القرآن