تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 21 إلى الآية 25

 من الآية 21 الى الآية 25
 

الآيــات

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخرةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(21ـ25).

معاني المفردات

{حَبِطَتْ}: فسدت. قال الأزهري: إذا عمل الرجل عملاً ثم أفسده قيل: حبط عمله، وفي الحديث أحبط الله عمله، أبطله.

{نَصِيبًا}: النصيب الحظّ من الشيء، وهو القسم المجعول لمن أضيف إليه.

{يُدْعَوْنَ}: الدعاء الاستدعاء، ثم قد يكون بصيغة الأمر أو الدلالة.

{لِيَحْكُمَ}: الحكم الذي يفصل بين الحق والباطل، مأخوذ من الحكمة وهي المنع.

{وَغَرَّهُمْ}: خدعهم وأطمعهم بالباطل، والغرور الشيطان لأنه يغر الناس ويخدعهم، والغارّ الغافل، لأنه كالمغتر، والغرارة الدنيا تغر أهلها، والغرّ الغمْر الذي لم يجرب الأمور، ومصدره الغرارة، لأنه من شأنه أن يقبل الغرور، والغَرَر الخطر، أخذ منه.

{يَفْتَرُونَ}: الافتراء: الكذب.

{فَكَيْفَ}: موضوعة للسؤال عن الحال، ومعناها هنا التنبيه بصيغة السؤال عن حال من يشتاق إلى النار، وفيها بلاغة واختصار، لأن تقديرها أيّ حالٍ يكون حال من اغتر بالدعاوى الباطلة حتى أدّى به ذلك إلى الخلود في النار.

* * *

مناسبة النـزول

جاء في سبب النزول ـ في تفسير الدر المنثور ـ أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) بيت المدراس ـ وهو مدرسة اليهود لدراسة التوراة ـ على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له النعمان بن عمرو والحارث بن زيد: على أيّ دينٍ أنت يا محمد؟ قال: «على ملة إبراهيم ودينه» قالا: فإن إبراهيم كان يهودياً، فقال لهما رسول الله(ص): فهلما إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} إلى قوله {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}[1].

وجاء في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أن رجلاً وامرأةً من أهل خيبر زنيا وكانا ذوا شرفٍ فيهم، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول الله رخصة في أمرهما، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله(ص)، فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى وبحريّ بن عمرو: جرت عليهما يا محمد، ليس عليهما الرجم، فقال لهم رسول الله: بيني وبينكم التوراة، قالوا: قد أنصفتنا، قال: فمن أعلمكم بالتوراة، قالوا: رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فقدم المدينة وكان جبرائيل قد وصفه لرسول الله، فقال له رسول الله: أنت ابن صوريا، قال: نعم، قال: أنت أعلم اليهود، قال: كذلك يزعمون ، قال: فدعا رسول الله بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب، فقال له: اقرأ، فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها، فقال ابن سلام: يا رسول الله قد جاوزها، وقام إلى ابن صوريا ورفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول الله وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى انتظر بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله(ص) باليهوديين، فرجما، فغضب اليهود لذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية[2].

* * *

مع أهل الكتاب في بعض أعمالهم وأفكارهم

في أجواء هذه الآيات حديث عن تاريخ أهل الكتاب في إطار الحديث عن الحواجز التي تحول بين الإسلام وبين الانطلاق بعيداً في حياة الآخرين من خلال مؤامرات اليهود وانحرافهم وتعقيدهم ضد كل الرسالات التي لا تُحقق لهم ما يريدونه لأنفسهم من امتيازات وتمنيات وأطماع، بل تعمل على أن تحقق للحياة وللمستضعفين فيها، الفرص الطيّبة التي تهيىء لهم سبل الكرامة والنمو والرخاء، فهم لا يوافقون على ذلك، فقد تحوّل الكتاب عندهم إلى ما يشبه الميزة القومية، التي لا تعني لهم شيئاً إلاَّ بمقدار ما تضيف إلى رصيدهم من امتيازات ذاتية في مقابل الشعوب الأخرى. وبهذه النفسية المعقدة واجهوا الرسول محمد(ص) في رسالته كما واجهوا بقية الرسالات والرسل، فقد انطلقت كل الرسالات لتقودهم إلى كتاب الله، ولكنهم وقفوا جميعاً ليحتفظوا بالكتاب كتراثٍ وميزةٍ ومصدر تجارة واستغلال وابتزاز وتأكيد للشخصية المستعلية التي تعتبر نفسها من شعب الله المختار، وتلك هي قصة الصراع بينهم وبين النبيين والذين اتبعوهم ممن يأمر بالقسط، إنه الصراع بين التجارة والرسالة، وبين الشكل والمضمون، وهذا ما جمّد اليهودية عن الانطلاق في الحياة كدعوة ورسالة تدعو الآخرين إلى اعتناقها والدخول فيها، بل حاولت أن تغلق الباب على الذين يدخلون فيها، وتحوّلت إلى قومية تبحث عن اليهودية في نقاء الدم وفي صفاء النسب بعيداً عن الجانب الفكري والعملي.

وقد أنزل الله آياته على رسوله، ليعالج هذا الوضع المعقّد، بالحديث عن التاريخ الدموي الإجرامي لهؤلاء الذين يتظاهرون بالسلام والرحمة والقيم الروحية في الحياة من أجل الخداع والغش والحيلة والمكر، وبالتأكيد على خطأ المفاهيم المنحرفة التي يوحون بها إلى أنفسهم مما لا يرجع إلى أساس متين.

* * *

تبشير الكافرين بالعذاب الأليم

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} إن القضية تبدأ بالعناد والتعصب والتنكّر للرسل، وتتحرك بالكفر بآيات الله الذي ينطلق من الرفض النفسي للاقتناع مهما كانت وسائل الإقناع التي تقدم إليهم، وتتحول إلى عُقدةٍ إجرامية، فهم يواجهون آيات الله، ويحسون في أعماقهم بأنها الحق الذي لا جدال فيه، ولكنهم يرفضونه بألسنتهم ومواقفهم ركوناً إلى أطماعهم وشهواتهم وتعقيداتهم المرضيّة، ويخافون أن تنطلق الدعوة إلى الله في حياة الناس الذين يشعرون بالحاجة إلى الإيمان والعدل، ويعمدون إلى النبيين، فيطلبون منهم أن يسكتوا ويتنازلوا عما يدعون إليه على أساس الرغبة والرهبة. ويمتد الأنبياء في صبر الرسالة وهدوء الإيمان، ويستمرون في الدعوة وفي الموقف، ويتعاظم الخطر على المنحرفين، فهذه الأصوات المؤمنة قد بدأت ترتفع من هنا وهناك. فهذا صوتٌ يرتفع بالإيمان، وهذا صوتٌ ينطلق بالعدل، وذاك صوتٌ يهجم على الظلم والبغي والطغيان. وبدأت الأصوات تدق عليهم الأبواب التي يعيشون خلفها، وتقتحم عليهم حالة الأمن والطمأنينة والاسترخاء. وارتفعت الأصوات واشتدت حتى تحولت إلى ما يشبه الثورة، أو هكذا خيّل إليهم في استشرافهم للمستقبل.. فماذا يفعلون؟ لا سبيل إلاّ إلى إخماد الصوت الأول الذي فتح للإنسان كل هذه الآفاق، لتخمد الأصوات الآخرى، ولا طريق إلى ذلك إلا بقتل النبيّ الرسول.

وبدأت المذبحة، مذبحة النبيين في كل صباح ومساء، واختفى النبيون من الساحة ولم تختفِ الأصوات، فقد تحوّل كل واحد منها إلى آلاف الأصوات التي تنطق بالكلمة الواحدة والفكرة الواحدة والهدف الواحد، وضجّت الساحة من جديد بالأمر بالعدل والإنكار على الظلم، وأي ظلم أفظع من ظلم الذين يأمرون بالقسط، وبدأت مذبحة المؤمنين في كل يوم، وما زال التاريخ الدامي يفرض نفسه على ساحة الرسالات، فالظلم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه بالحجة والبرهان، لأنه يفقد المبرّر لكل أفكاره وقناعاته، والرسالات لا تستخدم القوة بل الإقناع، لأنها تريد أن تفتح قلوب الناس على الله، وعيون الناس على النور، قبل أن تخضع الواقع لما تريد. وقد تجد في الشهادة روحاً جديدة تعطي الدم للرسالة، ويظل التاريخ الدامي للرسالات، يفتح لها آفاقاً جديدة قد لا يلمحها الذين يصنعونها، ولكنها تشرق على الذين لا يزالون يواصلون الخطى من بعيد. وبعد ذلك... ماذا استفاد هؤلاء المجرمون؟ إنها أيام يعيشونها في استرخاء، ويبدأ العذاب القاتل في الدنيا، في ضمائرهم، وفي الآخرة، عند الله.

{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ونلاحظ في التعبير بالبشارة بالعذاب أسلوباً من أساليب الاستهزاء بهم وبأفكارهم والتهديد لهم، وذلك لأن البشارة ـ في مفهومها ـ تعني الإخبار بالخبر السارّ الذي يُرتاح إليه ويسرّ به.

* * *

افتراء اليهود وغرورهم

{أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخرةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}. إن الجريمة بقتل النبيين وقتل الذين يأمرون بالقسط، لا ترقى إليها جريمةٌ أو معصيةٌ، فقد يغفر الله لعباده بعض ذنوبهم ومعاصيهم، ويحتفظ لهم بأعمالهم الصالحة التي عملوها ليجزيهم عليها في الدنيا والآخرة، ولكن هؤلاء هم الذين أحبط الله أعمالهم فلم يبق لهم منها شيءٌ، وليس لهم يوم القيامة شفيع أو ناصر. فما أشد الخسارة، وما أعظم العذاب.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.

وهذا نموذج من النماذج السلبية للتصرفات المنحرفة المتحدية التي يمارسها أهل الكتاب ضد الدعوات الإسلامية للموقف الواحد أمام القضايا المشتركة. فإذا كان هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في معلوماتهم عنه، يؤمنون به، فإن هذا الإيمان يفرض عليهم الالتزام بأحكامه، باعتباره المرجع الأول والأخير لهم، ولكنهم لا يلتزمون ولا يتعاطفون مع الدعوة المخلصة إلى أن يكون هو الأساس في الحكم بينهم عندما يكون هناك خلاف ونزاع يبحث عن أساسٍ للحل، فيعرضون عنه عصياناً وتمرّداً، ما يوحي بأن ارتباطهم به يمثل العصبية ولا يمثل الإخلاص للعقيدة، وبأنهم يستريحون إلى فكرة خاطئة، وهي أن النار لا تمس اليهودي إلا أياماً معدودات، فليس هناك زمن طويل للعذاب فضلاً عن الخلود فيه، فلا مشكلة صعبة من هذه الجهة، ولا موجب للانضباط في خط الطاعة في الدنيا على أساس التخلص من العذاب في الآخرة.

ولكن القرآن يقرر بأن هذا افتراءٌ وغرورٌ، افتروه على الله وغرّوا به أنفسهم، تماماً كمن يكذب ثم يقنع نفسه بصدق الكذبة على امتداد الزمن، فيتحمل نتائجها السيئة بدون شعور. إن الحقيقة تفرض نفسها على علاقة الخالق بالمخلوقين، فليس هناك أحدٌ أولى به من أحد، ليحصل شخصٌ ما على امتياز دون آخر، أو شعب دون شعب، إنما القضية مسؤولية وطاعة، فمن حمل المسؤولية بصدق وأطاع الله بيقين، كان قريباً لله، مهما كان حجمه صغيراً في الجسم والموقع، ومن لم يكن كذلك كان بعيداً عن الله، مهما كان كبيراً في حجمه وفي موقعه الاجتماعي في الحياة...

* * *

ماذا ينتظر اليهود يوم القيامة؟

ثم يوحي القرآن لهم بالصورة المرعبة الهائلة التي تنتظرهم في يوم الجمع الذي يجمع الله فيه الخلائق ليحاسب كل نفس على ما عملت، بعيداً عن أيّة صفة أو امتياز، إنه العمل، ثم توفّى كل نفس ما عملت من خير أو شر وهم لا يظلمون، فقد جعل الله شعار ذلك الموقف لا ظلم اليوم، وهو سبحانه أعظم من أن يظلم عباده في قليل أو كثير.

ونلاحظ أن الله عبر عن هؤلاء بقوله: {أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} ولم يقل: أوتوا الكتاب، وربما كان ذلك إشارةً إلى أنهم لا يملكون المعرفة الشاملة للكتاب كله، لأنهم أخذوا ما ينفعهم ويحقق لهم السيطرة على الناس من خلال بعض النصوص المتشابهة التي يمكن لهم أن يؤولّوها كما شاؤوا أو يحرفوها كما أرادوا، وتركوا النصوص الواضحة الصريحة التي لا مجال فيها للالتباس والاشتباه والتحريف والتأويل لئلا يطّلع الناس عليها فتكون حجةً عليهم، وهكذا أضاعوا بعض أجزائه من خلال ذلك فلم يبق منه إلا القليل.

* * *

دروس من وحي الآيات

ماذا نستوحي من ذلك كله فيما نواجه من واقع الحياة في حركة الدعوة إلى الله؟

1 ـ إن هناك نماذج متعددة من الفئات التي تمارس الأعمال التي كان يمارسها اليهود، ومنهم اليهود الذين اغتصبوا أرض المسلمين وشردوا أهلها وعاثوا في الأرض فساداً وما زالوا يقتلون الذي يأمر بالعدل وينهى عن الظلم… ومنهم الحاكمون الذين ينتسبون إلى الإسلام بالاسم ولكنهم يحملون مبادىء وشعارات غير إسلامية، فيحكمون الناس بغير ما أنزله الله طغياناً وظلماً، ويقتلون الدعاة إلى الله من دون أيّ أساس للعدل، وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم. ومنهم الفئات التي تملك بعض وسائل القوة التي تمكّنها من فرض السيطرة على منطقة معينة، وتتحرك من موقع شعارات كافرة لا تتصل بالإسلام من قريب أو من بعيد، فتحاول أن تعتدي على العاملين للإسلام...

وهكذا ينبغي للمؤمن أن يتلمّس في النماذج الواقعية الموجودة على الساحة السياسية والاجتماعية والدينية، الأفق الواسع للآية في حركة الحياة، فلا تبقى مجرد حدث يعيش في التاريخ، بل تكون، كما هو القرآن في آياته، حدثاً متجدداً يمتد مع الحياة في المستقبل كما عاش في الماضي. وبذلك يظل الوحي مشيراً بيده إلى الإنسان في عملية تجدد وانطلاق، ويبقى لنا أن نحتفظ بمشاعرنا المضادة لهؤلاء الذين يصنعون مأساة الناس الذين يأمرون بالقسط في الحاضر والمستقبل، لنستطيع من خلال ذلك أن نمنع وقوع المأساة بالمزيد من الضغوط التي نملك إمكاناتها العاطفية والواقعية.

2 ـ أن موقف هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، في امتناعهم عن الخضوع لحكم الكتاب، يشبه كثيراً موقف بعض المسلمين في رفضهم للتحاكم على أساس حكم القرآن، لأنه لا يتفق مع مصالحهم الخاصة، ويتعلّلون لذلك بالمزيد من الأسباب الواهية التي لا تثبت أمام النقد. وقد نجد بعض النماذج التي ترفض الخط الذي يعمل من أجل الدعوة إلى أن تحكم الحياة شريعة الله، فيثيرون أمامه المشاكل والعقبات التي تعطل فاعليته وتشل حركته، لأن ذلك قد يحرمهم بعض الامتيازات، أو يدفعهم لبعض التضحيات، أو يسبّب لهم بعض المتاعب الذاتية. وقد يفكر مثل هؤلاء بأن المسلمين لا يخلدون في النار من جهة بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، وبذلك يعطون لأنفسهم الحرية في ممارسة المعاصي التي سوف لا تكلفهم خسارة الجنة في نهاية المطاف. إن الله يتحدث مع هؤلاء المسلمين، كما تحدث مع اليهود، لأن منطقهم واحد، والردّ عليه هو نفسه؛ والله العالم.

3 ـ إذا صحت الروايتان اللتان تقدّمتا في «أسباب النزول»، كانتا دليلاً على أن الله ينزل آياته في المفاصل التاريخية التي تمثل الخلل الذي يصيب المجتمع اليهودي في انحرافه عن التوراة التي هي كتاب الله في عقيدتهم، فلا يلتزمون أحكامها إذا كانت المطالبة بذلك من قِبل غيرهم، فإذا ألزمهم ببعض ما فيها من الشرائع التي تفرض عليهم الحكم القاسي الذي لا يريدونه لأشرافهم الذين يملكون بعض الامتيازات الاجتماعية التي تنأى بهم عن الخضوع للقانون الإلهي في التوراة، وقفوا في حالة الإحراج الديني لإخفاء الآيات التي تتحدث عن ذلك.

ونجد في الرواية الأولى، أن النبي(ص) كان يزور مدراس اليهود ليدخل في حوار معهم،باعتبار أنها مركز الفكر اليهودي الذي يفرض على طلابه والقائمين عليه أن يؤكدوا التزامهم بالتوراة، ليكون الحوار من خلالها باعتبار أنها ملزمة لهم في مضمونها الشرعي، ولكنهم ـ بدلاً من ذلك ـ رفضوا الاحتكام إليها للتدليل على دعواهم أن إبراهيم كان يهودياً، عندما أراد رسول الله منهم أن يخرجوا التوراة ليقرأوها، لأنه واثق من زيف هذه الدعوى عندهم.

وهكذا نلاحظ أن النبي(ص) كان يؤكد الانتماء إلى ملة إبراهيم ودينه ليجرّهم إلى الاقتراب منه، لأنهم كانوا يؤمنون بإبراهيم كنبي ويزعمون أنه يهودي، كأسلوب نبويّ في الوقوف مع الآخرين عند مواقف اللقاء في العنوان العام للدين، كما في القضايا الآخرى المشتركة بين الأديان، ولكنهم كانوا يرفضون الدخول في الحوار معه ويتهربون من ذلك.

ونلاحظ ـ في الرواية الثانية ـ أن النبي(ص) كان في حكمه على المجرمين من اليهود، يحاول أن يؤكد لهم أن حكمه الشرعي في الزنا، لا يختلف عما لديهم من أحكام الزاني المحصن، تدليلاً على مواقع الوفاق بين الشريعتين، باعتبار أن الإسلام جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ولكن عنادهم كان يحول بين النبي(ص) وأسلوبه في تحقيق الانفراج الفكري والشرعي في علاقته بهم، لتقريبهم إلى الإيمان بالإسلام.

ــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:2، ص:170.

(2) مجمع البيان، ج:1، ص:545 ـ 546.
    
كتب متعلقة بالحج
كتاب صحيح الدعوات
شرح أدعية الصحيفة السجادية
شرح دعاء كميل