من الآية 26 الى الآية 27
الآيتــان
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الليلِ وَتُخْرِجُ الْحَي مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(26ـ27).
* * *
معاني المفردات
{وَتَنزِعُ}: النزع قلع الشيء من الشيء.
{تُولِجُ}: الإيلاج، الإدخال، والوليجة، بطانة الرجل، لأنه يطلعه على دخلةِ أمره.
* * *
مناسبة النزول
ذكر صاحب مجمع البيان سببين لنزول هاتين الآيتين.
الأول: قيل: لما فتح رسول الله(ص) مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم، ألم يكفه المدينة ومكة حتى طمع في الروم وفارس؟ ونزلت هذه الآية، عن ابن عباس وأنس بن مالك.
الثاني: قيل إن النبي(ص) خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قويّاً، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال النبي(ص): سلمان منا أهل البيت.
قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة ونعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا بجبّ ذي ناب، أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقّت علينا، فقلنا: يا سلمان ارقَ إلى رسول الله(ص) وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه. قال: فرقي سلمان إلى رسول الله وهو ضارب عليه قبة ركية، فقال: يا رسول الله، خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقّت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله(ص) مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول الله(ص) المعول من يد سلمان فضربها به ضربةً صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى كان لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله تكبيرة فتح، وكبّر المسلمون، ثم ضربها رسول الله الثانية فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله1 تكبيرة فتح وكبّر المسلمون، ثم ضربها رسول الله(ص) الثالثة فكسرها، فبرق منها برق أضاء بها ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله تكبير فتح وكبّر المسلمون، وأخذ بيد سلمان ورقي، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيت منك قط، فالتفت رسول الله(ص) إلى القوم وقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون. ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَقَ ولا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل القرآن {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}[الأحزاب:12]، وأنزل الله في هذه القصة: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} الآية. رواه الثعلبي بإسناده عن عمرو بن عوف[1].
ونلاحظ أنّ هذه الروايات قد تكون واردةً على سبيل الاجتهاد من قِبَل أصحابها، ولذا اختلف هؤلاء في زمن نزولها بين من جعله بعد فتح مكة، ومن جعله في وقعة الخندق، لأن القضية التي تتضمنها الآيتان واردة في تأكيد قدرة الله وهيمنته على الأمر كله والخلق كله، باعتبار ذلك من أسس العقيدة الإسلامية التوحيدية مما لا يحتاج فيه إلى مناسبة معينة، تماماً كما هو التوحيد في مضمونه الفكري والروحي.
ولعل الآية الثانية الواردة في سياق الآية الأولى تؤكد ذلك، فإن الظاهر أنها نزلت في وقت واحد، ولكنها ـ في كل حال ـ يمكن أن توحي ببعض الأجواء التي كان يثيرها المنافقون في الساحة الإسلامية الداخلية من أجل إثارة الشك في الرسالة والرسول في استغلالٍ سيىء لبعض حالات الضعف الموجودة في الواقع الإسلامي مما يتصل بالخطاب الإسلامي المستقبلي الذي لا يجد المسلمون أيّة اشارة إليه في مجريات الواقع، كما توحي بأن النبي كان يربي المسلمين على الثقة بالله من خلال الإيمان بالغيب على أساس وعد الله في وحيه القرآني. وهناك ملاحظة مهمّة، وهي أن الرواية الأولى تحدثت عن اليهود والمنافقين في الوقت الذي لم يكن لليهود وجود بارز في المجتمع المدني، لأن النبي(ص) كان قد أجلاهم عن المدينة.
* * *
الآيتان تقرير لحقيقة كونية
في هاتين الآيتين تقريرٌ لحقيقةٍ كونيةٍ إلهيةٍ تدخل في صلب النظام الكوني للأشياء، للإيحاء للعاملين من أجل تغيير الواقع الفاسد بأن إرادة التغيير عندما تتحرك في اتجاه الواقع العملي، فإنها ستلتقي بالنتائج الحاسمة في نهاية المطاف إن عاجلاً أو آجلاً، لأن الله قد خلق الحياة في مظاهرها الكونية، سواءٌ في ذلك الظواهر الكونية، كما في الليل والنهار، أو الحياة والموت، أو الظواهر الإنسانية الاجتماعية، كالملك والعز والذل، أو الظواهر الحياتية في حركة الحياة، كالرزق، وجعلها خاضعةً لسنّة التغيير من خلال الأسباب الطبيعية التي زوّد بها الكون، فجعل بعضها خاضعاً لإرادة الإنسان في نطاق الظروف الموضوعية المحيطة به وبالأشياء، بينما ظل بعضها خاضعاً للأسباب الطبيعية المودعة في الكون الواسع. وإذا كانت القضية سائرة في هذا الاتجاه، فلا بد من التطلع إلى المستقبل من قاعدة خضوعه لهذه السنّة التي تجعله قابلاً للتغيير والتبديل، كما تدفع الإنسان إلى تحريك هذه السنَّة بتحريك إرادته نحو ذلك.
وهذا ما نستوحيه من هذه الآية في خطواتنا العملية نحو تغيير الحياة على أساس شريعة الله، وهذا ما استوحاه المفسرون في نزول هذه الآية في أجواء المعارك الإسلامية التي كانت تستشرف المستقبل الذي تنطلق فيه الدعوة الإسلامية قويّةً فاتحةً حاكمةً للأرض في ما يصل إليه الفاتحون الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في نطاق القوة الرحيمة الحكيمة العادلة الواعية.
* * *
لمن نسبة الفعل الإنساني؟
إنه ـ سبحانه ـ يملك الملك في كل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني القدرة والسلطان والقوّة، فهو الذي يملك ذلك كله، ولا يملكه غيره، وهو الذي يملك العطاء والمنع، وهو الذي يمنح العزّة للإنسان بمنحه أسبابها، وهو الذي يسلبها عن إنسان آخر، بإبعاد ظروفها عنه. ولكن كيف ذلك؟ هل يتم ذلك بشكل مباشر، فيكون الملك منحةً للحاكم الظالم ويكون العز عطيّةً للإنسان الكافر، بينما يعيش المؤمن الحرمان من هذا وذاك؟ هل الظالمون والطغاة والمستكبرون هم القضاء الذي لا يملك الإنسان معه أن يختار أو يتجه نحو التغيير؟ كيف نفهم القصة في ما نريد أن نعيه ونفهمه من مفاهيم العدالة في الإرادة الإلهية في الكون؟
ولنا أن نجيب على الفكرة من خلال فهمنا للأسلوب القرآني الذي يتحدث عن أفعال الله المتعلقة بحركة الإنسان في الأرض، فقد تعرضنا في هذا التفسير ـ أكثر من مرّة ـ للحديث حول هذا الموضوع، وقلنا إن نسبة أيّ فعلٍ من أفعال الإنسان إلى الله لا يمنع من نسبته إلى الإنسان، تماماً كما أن نسبة الظواهر الطبيعية من الحر والبرد واختلاف الليل والنهار إلى الله لا يمنع من نسبتها إلى أسبابها الطبيعية الخاضعة للقوانين المودعة في الكون، ففي كلا الموردين، لا يقتضي ذلك المباشرة للفعل، بل كل ما هناك هو تعلق إرادة الله بوجوده من خلال سببه الذي قد يكون اختيارياً كما في إرادة الإنسان التي هي إحدى الأسباب المباشرة لفعله، وقد يكون غير اختياري، كما في الظواهر الكونية أو الأحداث التي تعرض للإنسان من خلال أوضاع غير إراديّة. وفي هذا الإطار، تحدث الله عن الرزق والخلق والصحة والمرض وتغيير الواقع، فنسبه إلى نفسه كما نسبه إلى الإنسان، كما تحدث عن الأشياء الآخرى.
* * *
القوانين الإلهية تحكم المسيرة الإنسانية
وعلى ضوء ذلك، نفهم أن الله قد جعل للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قوانين تحكمه في مسيرته، وجعل لإرادة الإنسان الدور الكبير في حركة الواقع، وذلك في ما قاله الله سبحانه في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فإذا كان هناك حكمٌ عادلٌ، فإنه يكون منطلقاً من الظروف الموضوعية المتحركة في حياة الناس وإراداتهم، وإذا كان هناك حكم ظالم، فإنه يكون راجعاً إلى الأسلوب والاتجاه نفسيهما.
وهكذا الحال في تغيّر الأمور في الجوانب العامة والخاصة في قضايا الفرد والمجتمع. وقد وردت الإشارة إلى ذلك في الحديث المعروف: «كما تكونون يولّى عليكم...» أو الحديث الآخر: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطن الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»[2] والحديث الآخر: «من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه، وإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»[3].
وهكذا نلتقي بالآيات الكريمة التي تقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، فإن الأحاديث المتقدمة لا تعني أن الله يولّي على الناس أمثالهم، أو يسلّط عليهم شرارهم، أو يسلّط على الإنسان من يظلمه بالمعنى المباشر للكلمة التي توحي بأن ذلك يمثل جانب الجزاء أو العقوبة، بل تعني أن كثيراً من النتائج تأتي تلقائياً عند حصول مقدماتها، فإذا كان المجتمع شريراً، فإنه ينتج الحاكم الشرير، لأن الحاكم نتاج مجتمعه في الغالب، كما أنّ ترك المنكر دون ردع سينتهي بالنتيجة إلى امتداد المنكر وقوة فاعليه الأشرار وضعف الخيّرين الذين يستريحون في حياتهم للدعة والطمأنينة وحب الراحة، من دون أن يعملوا على صنع القوّة الخيّرة وإضعاف القوة الشريرة. وبذلك يكون تسلّط الأشرار نتيجةً حتمية لذلك..
أمَّا هؤلاء الذين يعذرون الظالم بظلمه، فإنهم يسمحون للظلم بالامتداد من خلال إيجاد المبررات له. وهكذا يتحول الظلم إلى قوة ترتد على المشجعين لها، وهذا ما نستوحيه من الايتين اللتين تحدثتا عن الأوضاع القلقة للحياة في واقع الناس الفاسد من الخوف والجوع والفساد، كنتيجة طبيعية لأعمال الناس.
في هذا الجوّ، يمكننا أن نقول أن الأشياء كلها ترجع إلى الله، لأنه الذي خلق السبب وربط بينه وبين المسبّب، ولكنه ترك للإنسان فرصة المباشرة بإيجاد السبب، فلولا أنه خلق الإنسان وخلق معه الإرادة، لما كانت هناك معصية ولا طاعة، ولولا أنه خلق العلاقة بين الإرادة المحاطة بظروفها العادية وبين الفعل المراد، لما تحقق الفعل، ولكن ذلك كله لا يمنع من نسبة الفعل إلى الإنسان الذي يملك أن يريد أو لا يريد، فيصنع المأساة، أو يصنع الفرح، وبهذا الأسلوب يؤتي الله الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء، من خلال الظروف السلبية والإيجابية الاختيارية وغير الاختيارية من دون أن يعني ذلك موافقةً على نتائج هذا أو ذاك في ما إذا كانت النتائج بعيدةً عن خط الخير. وهكذا إذا تحدثنا عن العز والذل، فإن الله يذلّ من يذل نفسه ويعز من يعز نفسه بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.
ويظل الإنسان هو الذي يصنع مصيره من خلال حسن اختياره للأسباب وسوء اختياره لها، سواء في ذلك الإنسان ـ الفرد في القضايا المتصلة بالمصير الفردي، أو الإنسان ـ المجتمع في القضايا المرتبطة بالمصير الجماعي، وبعد ذلك، لا معنى للسؤال كيف يؤتي الله الظالم الملك، وكيف ينزع الملك من العادل، فإن القضية واقعة في نطاق إرادة الله من خلال طبيعة الربط بين النتائج والمقدمات، ولكنها تنطلق في خط إرادة الإنسان من خلال ممارسته للمقدمات التي توصل إلى تلك النتائج. وقد جاءت الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت(ع) في موضوع العز والذل في مدلولهما الروحي والمادي ورجوعهما إلى سوء اختيار الإنسان وحسن اختياره. فقد ورد في بعض الكلمات المأثورة. «من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذل معصية الله إلى عز طاعته...»[4].
وفي بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق(ع)، أن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذل نفسه، قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض لما لا يطيق، أو يدخل في ما يعتذر منه. وجاء في الكلمات القصار في نهج البلاغة: "الطامع في وثاق الذل"[5].
{قُلِ} يا محمد، أو يا كلّ من انفتح على التوحيد فكراً وروحاً وإيماناً في وعيه للذات الإلهية في المعنى المطلق لها، المهيمن على الوجود كله، لأنه خالق الوجود في ذاته وفي كل كلياته وجزئياته. قل، وأنت تبتهل إلى الله لتؤكد إيمانك في نفسك في عمليةٍ إيحائيةٍ داخليةٍ تنفذ الكلمة فيها إلى الداخل، بحيث يتعمق الإحساس بالفكرة كلما تكرر ذكرها في اللسان، وأعلنه للآخرين الذين يطلقون الشك من جهةٍ، ويحركون الحرب النفسية من جهة أخرى لإيجاد حالةٍ من الاهتزاز الروحي والفكري في إيمان المسلمين الطيبين الذين قد يعيش بعضهم بساطة العقيدة وسذاجة الفكر، بما لا يتيح لهم الدخول في متاهات الجدل الفكري الذي يثيره الآخرون، وذلك من أجل تعزيز الثقة بربهم في هذا الموقف الإيحائي القوي الصادر من النبي محمد(ص) أو من الشخص المسؤول أو من المجتمع، في ابتهال جماعي يوحي بالقوة وبإسقاط روحية المنافقين والمشككين الذين يطمعون في إثارة السلبيات داخل المجتمع المسلم، ـ ليفهموا من قوة الموقف ـ أن خطتهم لا تؤدّي إلى النتيجة التي يريدونها، لأن الواقع الإسلامي أقوى من مخططاتهم.
* * *
الله مالك الملك
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إنه نداء لله الذي تحيا عقولنا وقلوبنا معه وتستمد حياتنا امتدادها منه وتعيش حيويتها وحركيتها وإمكاناتها من امتداد رحمته ولطفه. أنت مالك الملك كله ومبدع الوجود الذي يستمد وجوده منك، فكل الملك منك ومرجعه إليك، سواء كان ملكاً حقيقياً في معنى الاحتواء أو ملكاً اعتبارياً كأنظمة وقوانين تحكم العلاقات بين الناس.
{تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ} من خلال إرادتك التي أخضعت النظام الكوني للقوانين الطبيعية والسنن الكونية وجعلت السببية أساس حركة الوجود كله في الإنسان والحيوان والنبات والجماد، فلا تتحقق النتائج إلا من خلال مقدماتها، ولا تحصل المسببات إلا بأسبابها، وهذا ما يجعل الأمور تتحرك من خلال طبيعتها الذاتية، فقد تكون النتائج سلبية في موقع، كما قد تكون إيجابيةً في موقعٍ آخر، ولكنها في الخط العام تمثل الإيجابية النظامية التي تتمثل في انتظام الوجود في خط واحد لا بد له من أن يلتقي ببعض الحدود التي تمثل حاجزاً أمام الخير والصلاح في جزئياته، لأن المحدود لا يمكن أن ينتج المطلق أو يتحرك من خلاله، وتلك هي حكمتك ـ يا رب ـ التي يلتقي في حركتها الملك الصالح والملك الفاسد، وينطلق معها الخيّرون والشريرون، ليكون الصراع هو سنّة الحياة التي تتمثل في داخلها مسيرة التجربة الإنسانية التي يكبر فيها الإنسان وينمو ويتطور وينطلق في اتجاه النتائج الإيجابية في نهاية المطاف، من حيث إن السلب في حركيته الصراعية قد ينتج في عناصر الضغط معنى الإيجاب.
{وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} في إرادتك التي تتصل بالشيء مباشرة أو بواسطة السنن الكونية، لأن حكمة الله اقتضت أن لا يدوم الملك لأحد، وأن لا تستمر الحياة على وتيرةٍ واحدةٍ، لأن مسألة التغيير هي التي تمنح الحياة حيويتها وتساعدها في نموّها وتطوّرها، وبذلك يحدث زوال الملك عن شخص، كما يحدث زوال الحياة عن شخص آخر، لأن قانون الحياة والموت يحكم الموجودات في وجودها الذاتي وفي عوارض هذا الوجود ومتعلقاته.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بقدرتك الغيبية التي تعطي إنساناً كل العناصر التي تجمع له ظروف العزة في الذات وفي الموقع والموقف، كما تمنع إنساناً آخر ذلك، فيعيش الذل من خلال عدم توفر عناصر العز، أو من خلال الظروف الموضوعية التي تفرض عليه الذل من خلال اختياره الذاتي الذي قد يحسن وقد يسوء تبعاً لإرادته ولحركة علاقته بالحياة وبالظروف وبالأشياء، أو من خلال الأجواء المحيطة به، وهذا ما يجعل عبادك يتوجهون إليك في ابتهالاتهم الخاشعة ودعواتهم الخاضعة لتفيض عليهم رحمتك، فتمنحهم الملك الذي يحتاجونه والعز الذي يتطلعون إليه، وتمنع عنهم سطوة المستكبرين وإذلال الظالمين.
{بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} فهو المهيمن على كل ما يكفل للحياة امتدادها من خيرات ونعم، فهي بيده لا بيد غيره، وهو القادر على كل شيء منها في جانب المنع والعطاء.
* * *
سنن الله في الكون والحياة
{تُولِجُ الَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَي مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} إن عملية إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل، تشير إلى نقصان كل منهما لحساب زيادة الآخر، وبالعكس، حسب اختلاف الفصول، فكأنّ أحدهما داخل في الآخر باعتبار أنه أخذ المساحة التي كان يحتلها هذا الآخر، وهو من دلائل قدرته المطلقة التي تتصرف في خط الزمن من دون اختلال في التوازن، بل هو التغيير الخاضع لنظام الكون القائم على أساس الحكمة والتدبير. وأمّا إخراج الحي من الميت، فإنه يتمثل في الوضع الطبيعي في إخراج الأحياء من النبات والحيوان من الأرض الميتة العديمة الشعور. وقد ورد في هذه الآية تفسير آخر، بأن يكون المراد من الميت الكافر والحي المؤمن، باعتبار أن الله تعالى سمّى الإيمان حياة ونوراً والكفر ظلمة، كما قال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122]، ولكن الظاهر أن التفسير وارد مورد الاستيحاء لا مورد بيان المعنى من اللفظ، فإن سياق الآية وارد في ما هو من مظهر القدرة من خلال ما يشتمل عليه من عجائب الخلق مما يناسب أن يكون متعرضاً للظاهرة في حركتها الكونية.
{وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فالله هو مصدر الرزق للناس وللموجودات كلها، فهو الذي يعطيها حاجاتها التي يتوقف عليها وجودها وامتدادها، من خلال ما أودعه في الأرض من أنواع العناصر الساكنة والمتحركة، التي تهيّىء الفرص لإنتاج الحاجات وتوفير الشروط اللازمة لذلك، من غير فرق بين الإنسان المؤمن والكافر، بل إن ذلك يمتد إلى كل الموجودات التي تكفّل الله برزقها ـ في حاجاتها الوجودية ـ منذ خلقها.
وهذه هي سنته الكونية التي أودعها في الكون ليكون منتجاً لكل الحاجات الوجودية من موقع المعنى الوجودي التكويني الذي تتحرك فيه الأشياء من خلال قوانينها الطبيعية التي فرضتها الإرادة الإلهية الغيبية، من دون أن يعني ذلك ـ في سلبياته وإيجابياته ـ ثواباً أو عقاباً، أو تحليلاً أو تحريماً، لأن القضية مرتبطة بذاتيات الحركة الوجودية في النظام الكوني.
* * *
الله يملك رزق العباد
وإذا كان الإنسان يحوّل عناصر الرزق المنفتحة على الخير في إمكاناتها الطبيعية إلى شرّ، أو الحلال إلى حرام، فإن ذلك لا يعني أن الله يرضى بالشر أو بالحرام في فعل الإنسان، بل إنه يرفضه من خلال تشريعه الذي يحدد فيه للإنسان ما يفعله أو يتركه تبعاً للمصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء، فنحن لا يمكن أن ننسب إلى الله الرزق الحرام من ناحية تشريعية، لأن الله لم يخلق الرزق حراماً، بل خلقه في نطاق قابليته للخير وللشر من الناحية التكوينية، وأعطى الإنسان حريته في إدارة ذلك من موقعه الوجودي ليواجه مسؤولياته أمام الله في تحريكه الأمور في الاتجاه المرسوم.
وفي ضوء هذا، نعرف أن الرزق خيرٌ كله، ولكنه ككل وجود محدودٍ، يحمل في داخله التنوع الذي يجعله متحركاً في أكثر من بُعدٍ من أبعاد الواقع في الإرادة الإنسانية.
ولعل من الواضح ـ من خلال ما ألمحنا إليه ـ أن الرزق لا يختص بأي جانب من جوانب الحاجات الإنسانية، بل يشمل الحاجات المادية والمعنوية معاً مما يتصل بحياة الإنسان الجسدية أو الروحية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غير ذلك. أما كلمة {بِغَيْرِ حِسَابٍ } فقد فسرها الزجاج بأن المعنى «بغير تقتير، كما يقال: ينفق بغير حساب، لأن من عادة المقتر أن لا ينفق إلا بحساب. وقيل: معناه بغير مخافة نقصان لما عنده، فإنه لا نهاية لمقدوراته، فما يؤخذ منها لا ينقصها ولا هو على حساب جزء من كذا كما يعطي الواحد منا العشرة من المائة والمائة من الألف»[6]. وقيل ـ كما اختاره صاحب تفسير الميزان ـ إن توصيف الرزق بكونه بغير حساب، إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق، لكون ما عندهم من استدعاء وطلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً، فلا يقابل عطيته منهم شيء، فلا حساب لرزقه تعالى. وأما كون نفي الحساب راجعاً إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدّر، فيدفعه آيات القدر، كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْراً} [الطلاق: 2 ـ 3]، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض، لكنه مقدر على ما يريده تعالى»[7].
ولعل الأقرب إلى جوّ الآية أن تكون الكلمة كناية عن عدم محدودية رزقه من حيث عدم محدودية ملكه، فإنه يعطي كل موجود حاجاته مهما كثرت واتسعت، فكلما تطورت حاجاته ازداد رزقه، فلا حاجة به إلى الحساب، لأنه شأن المحدود الذي قد تختل موارده باتساع الأمور والحاجات في عطائه، أمّا الله ـ سبحانه ـ فهو المطلق في ذاته والمطلق في غناه، فلا ينفد ما عنده بالإنفاق والعطاء، لأنه لا حدّ له في ملكه.
وفي ضوء ذلك، قد تكون إيحاءات هذه الفقرة أن على العباد أن يلجأوا إلى الله في حاجاتهم، فلا يتحرجوا من طلب أيّ شيء مهما ازدادت حاجاتهم، لأن عطاءه لا حد له ولا حساب، وربما يلتقي هذا المعنى بالمعنى الثاني وببعض إيحاءات المعنى الأول. ولا ينافي ذلك تقدير الله للأمور ـ ومنها الرزق ـ، فإن تقدير كل شيء بحسبه من خلال طبيعة الحاجات في تطوراتها تبعاً لتطور الحياة والإنسان، فهو الذي يقدّر رزقه بحسب الحاجات المتطورة والمتغيرة، ليلاحق ذلك بحكمته ورحمته. أما ما ذكره العلامة الطباطبائي، فإننا لا نجد له وجهاً، لأن مسألة العوضية ليست مطروحةً في الجانب العقيدي، ولا في المدلول السياقي، إذ لا معنى للحديث عن أن الله يعطي الإنسان بدون عوض ولا استحقاق، لأنها من بديهيات الأمور، من حيث إن الله هو الخالق والرازق وإن الإنسان لا يملك شيئاً ذاتياً أمام الله، ولكن الحديث هو عن سعة عطاء الله وشمولية كرمه وعدم نفاد رزقه.
وربما نستوحي هذا المعنى من الآية الكريمة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، حيث إن المقصود منها بلا حصر، لأن الله يعطيهم ما لا يعطي أحداً من ثوابه في مقابل الطاعات التي جعل الله لها ثواباً معيناً؛ والله العالم.
وهناك نقطةٌ تفسيريةٌ لا بد من إيضاحها، وهي أن الآية تحدثت عن كل هذه الظواهر بأسلوب يدعو إلى أن يتمثل الإنسان ذلك في دعاءٍ خاشع يتوجه فيه إلى الله، في توجّه المؤمن الذي يناجي ربّه بالتأكيد على إيمانه بعظمة القدرة من خلال عظمة الحق. فكيف نفهم ذلك؟
* * *
الدعاء في خط التربية الإسلامية الرسالية
إن هذه الآية ـ في عقيدتنا ـ تمثل نموذجاً من نماذج الخط الإسلامي في الدعاء الذي يستهدف تعميق الفكر العقيدي والرسالي في النفس بتقرير تفاصيل العقيدة والأخلاق والمسؤوليات بأسلوب الدعاء، فهو يتحدث عن صفات الله وعن البرامج العملية الأخلاقية ليختزنها الإنسان في مشاعره كما يختزنها في فكره، فإن للدعاء الإسلامي جانباً يتصل بالشعور من جهة وبالفكر من جهة أخرى. وبهذا لا ينعزل الإنسان عن فكره العملي وحياته المتحركة، بل يدخل في عمقها بأسلوب روحي فريد...
وهذه الآية هي نموذج حيّ لهذا الأسلوب، فإن انطلاق هذه الصفات بأسلوب الدعاء، يوحي للإنسان بالانفتاح على هذه الحقيقة كما لو كانت ماثلة أمامه في جوّ شعوري رائع ينطلق من موقع الاعتراف الإنساني الذي يشعر الإنسان معه بشعورين مختلفين، ولكنهما يكمّلان بعضهما بعضاً، فهناك الشعور بالانسحاق أمام الألوهية المطلقة التي تملك الملك كله وتتصرف فيه بالإعطاء والمنع، وتملك الكون فتغيّره على حسب الحكمة، وتملك حاجة الإنسان فترزقه بغير حساب من دون أن تكون لأيّة قوة هناك أيّ دخل في ذلك كله، وهناك الشعور بالأمن والطمأنينة والقوة عندما يعيش الإنسان في ظلال هذه الألوهية منسجماً مع ينبوع العطاء المتدفق منها بدون حدود في آفاق الرحمة الألوهية المطلقة.
وقد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب في التربية والتوجيه، وذلك بالتأكيد على المؤمنين أن يتمثلوا تفاصيل العقيدة في صفات الله التي ترتبط بها حياتهم باختيار الأدعية المناسبة التي تثير في داخلهم الشعور بالامتلاء الروحي والفكري إلى جانب الإحساس بالأمان في ظل الإيمان بالله من خلال ذلك. وبذلك يمتزج جانب الروح بالفكر والممارسة في حركة العقيدة داخل النفس الإنسانية.
الاستخدام السيىء للآية من الظالمين
وهناك نقطة أخرى لا بد من التأكيد عليها، وهي أن هناك فهماً خاطئاً للآية قد يستخدمه الحكام الظالمون الذين ملكوا السلطة بأساليبهم ووسائلهم المنحرفة، للإيحاء بأنهم يمثلون القيمة الخيّرة عند الله، لأن الله آتاهم الملك، فهو حق شرعي لهم، باعتبار أن الله هو الذي يمنح الشرعية لمواقع عباده، وذلك من خلال هذه الآية. وقد روي أن يزيد بن معاوية استشهد بهذه الآية في الردّ على الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في حواره معه، فقد جاء في الإرشاد للمفيد نقلاً عن كلام يزيد: «وأما قوله، أي علي بن الحسين ـ إنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية[8] وقد جاء في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ(ع) قال: قلت له: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} أليس قد أتى الله بني أمية الملك؟ قال: ليس حيث تذهب، إن الله عز وجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر، فليس هو للذي أخذه..»[9].
وقد أشرنا في ما قدمناه من حديث التفسير إلى أن الآية تتجه إلى تأكيد الفكرة التي تربط الواقع الخارجي في حياة الإنسان في الماضي والحاضر، بالله في الدائرة التكوينية التي تتحرك فيها الأشياء من حيث ارتباطها بأسبابها الطبيعية في وجودها العيني والحركي، فقد تكون النتيجة خيراً عندما تكون الأسباب الموجودة منتجةً للخير، وقد تكون شرّاً عندما تلتقي بأسباب الشر، وليست واردة في مجال الحديث عن اعتبار الواقع صورةً للإرادة الإلهية التشريعية التي تعبّر عن شرعية الواقع من حيث كونه مظهراً لرضا الله، فقد أطلق الله للناس أن يأخذوا بالعدل، وأن يكونوا مع العادلين، وأن يكونوا مع الساعين نحو إقامة العدل وإسقاط الظلم في الأرض، وجعل المسألة تابعةً لاختيارهم في حركة المسؤولية، لأن حكمته اقتضت أن يمارس الإنسان القضايا باختياره وإرادته {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 ـ 8]، وهذا هو ميزان الشرعية في تقويم الواقع.
ولكن الناس تركوا هذا الخط الإلهي، واندفعوا نحو الاختيار السيىء الذي يتناسب مع أطماعهم وشهواتهم، فخذلوا الحق، ونصروا الباطل، وأخذوا بالأسباب الواقعية التي جعلها الله بين أيديهم ـ في ساحة الواقع ـ، فاستعملوها للشر بدلاً من الخير، فكانت النتائج أن الظالمين وصلوا إلى الملك من خلال الوسائل الإلهية التكوينية للنجاح، بقطع النظر عن المضمون، فكان أن حصلوا على الملك من إيتاء الله لهم من خلال الأسباب الطبيعية، لأن الله أجرى الأمور في الكون على أساس حصول المسبب عند إيجاد السبب، ولكنه لا يمثل إرادة الله في المعنى الشرعي الذي يحبه ويرضاه، بل هو مناف لها ومنحرف عنها، ولا يعني هذا عجزاً في الخالق وقدرةً لدى المخلوق، ولكنه القانون الطبيعي الذي صنعه الله للوجود، وجعل للإنسان أن يوجِّهه للخير باختياره، فوجَّهه للشر بسوء اختياره عصياناً وانحرافاً، وسيجزيه الله العقاب على ذلك كله.
وقد روى السيد ابن طاوس، كما في تفسير الميزان ـ أن السيدة زينب بنت علي(ع) ردّت على يزيد منطقه، فقالت في خطابها له: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلاً مهلاً، أنسيت قول الله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178][10].
فإن استشهادها بهذه الآية يمثل الفكرة بأن الله لا يترك للكافرين حريتهم في العبث بالقيم الخيّرة، من خلال الرضا بذلك، تقويماً لهم في ميزان القيمة الإيجابية للذات في أفعالها، بل إن حكمته اقتضت أن يتركهم لاختياراتهم السيّئة لإقامة الحجة عليهم، فيزدادوا إثماً بإفاضة النعم عليهم مع استمرارهم في هذا الاختيار.
وفي ضوء ذلك، كان هذا الخط التكويني الذي يربط الأشياء بأسبابها، يجعلنا نفكر ـ كعاملين في حقل التغيير على أساس الدعوة إلى الإسلام ـ بأن نهيّىء الظروف الموضوعية للانتصار في ساحة الصراع، لنحقق ـ بذلك ـ النتائج الكبيرة، حتى تلتقي لدينا الإرادة التكوينية في سنن الله بالإرادة التشريعية في تعاليمه.
إن الله قد فتح لنا النافذة التي نطل بها على النصر، فعلينا أن نعمل على أن نطل منها على الساحة التي تحقق لنا الوصول إلى أهدافنا الكبرى.
ـــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:1، ص:548 ـ 549.
(2) البحار، م:32، ج:90، ص:465، باب:25، رواية:465.
(3) م.ن، م:26، ج:72، ص:471، باب:79، رواية:68.
(4) البحار، م:24، ج:68، ص:345، باب:64، رواية:26.
(5) نهج البلاغة، ص:508، قصار الحكم:226.
(6) مجمع البيان، ج:1، ص:550.
(7) تفسير الميزان، ج:3، ص:163 ـ 164.
(8) تفسير الميزان، ج:3، ص:165.
(9) م.ن، ج:3، ص:164.
(10) تفسير الميزان، ج:3، ص:165.
تفسير القرآن