تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 1 الى الآية 6

 

مدنية وآياتها مئتان

مدخـل عـام

لعل قيمة هذه السورة في الجوّ القرآني، أنها تنطلق في اتجاه صنع الشخصية الإنسانية الإسلامية، وهي تواجه هذا الواقع من موقع التنوّع الذي يجمع جانب التطلع الإيماني نحو الله في صفاته وأسمائه الحسنى التي تحيط بالإنسان والكون بالقيوميّة والرعاية، وجانب حركة هذا الإيمان في أعماق النفس في ما يواجه الإنسان من تحديات الرغبة والرهبة، وبذلك لا يعود الإيمان مجرّد خلجات في المشاعر وخطرات في الأفكار، بل ينطلق ليكون موقفاً متحركاً في اتجاهين؛ اتجاهٍ يبني النفس على الأسس الروحية الأخلاقية الصحيحة، لتكون مثالاً للشخصية الإسلامية الصابرة على تحديات نوازعها الذاتية الغريزية في أوضاعها المنحرفة، واتجاهٍ يطلق الشخصية في مواجهة الشخصيات غير الإسلامية في أجواء الصراع الفكري الذي يثير الشبهات ويخلق الانحرافات، وفي مجالات التحديات العملية في حالة الحرب والسلم، لتكون قوية في حلبة الصراع، صابرة على مواطن الإثارة والتحدي التي تختلف أشكالها وأساليبها ونوازعها العامة والخاصة... وهذا ما يريده الإسلام في ما ينطلق فيه من تقرير الصبر كقيمة أخلاقية كبيرة، فهو يريد أن يؤكد دوره الفاعل المتحرك الذي يبني للشخصية روحيتها وللذات حركة مسيرتها، لتكون مصدر إغناء للتجربة الواقعية للحياة والإنسان...

وقد أثارت السورة في هذا الجو الكثير من الحديث عن أهل الكتاب في ما أثاروه أمام الإسلام والمسلمين من قضايا ومشاكل وتحديات، كما انطلقت في أجواء التاريخ الديني في نطاق الأديان السابقة في قصص آل عمران، لتواجه به النوازع السوداء لأهل الكتاب من اليهود، وتصور لهم كيف كان التاريخ الناصع المتمثل في هذه النماذج البشرية التي استطاعت أن تعيش الإخلاص لله كأعمق ما يكون الإخلاص، ليتمثلوا ذلك في واقعهم إذا كانوا صادقين في ارتباطهم بذلك التاريخ. وانطلقت السورة بعد ذلك، لتطرح على أهل الكتاب دعوة اللقاء والمباهلة ليتبين لهم الحقّ من الباطل.

وقد أوردت صوراً عن أجواء معارك الإسلام وفي طليعتها معركة أحد التي عاش المسلمون فيها زهو الانتصار في بدايتها كما عاشوا مرارة الهزيمة في نهايتها... وكان القرآن الكريم في هذه السورة يضع النقاط على الحروف ليأخذ من الهزيمة درساً عملياً من أجل المستقبل الذي لا يريد للمسلمين أن يعيشوا فيه ثقل الهزيمة، ليتحرروا من سلبيات الماضي بهذا الخصوص.

وأعتقد أن دراسة معركة أحد في هذا الجو القرآني يفوق أية دراسة أخرى تعتمد على تفاصيل القصة في السيرة، لأن قيمة القرآن في نقل القصة، أنه يحشد أمامنا الأجواء الروحية التي كان يعيشها المسلمون كما لو كنا نعيشها في ذلك العصر. إنه ينقل لنا التجربة حيّة وينقدها وهي تتحرك في مراحلها المتقدمة.

وهكذا نجد في هذه السورة الكثير من الإيحاءات الروحية والعملية وطريقة التعامل مع الآخرين من أهل الكتاب، وذلك في ما ترصده من حركاتهم وأوضاعهم، من أجل أن تخلق في نفوس المؤمنين المزيد من الوعي العملي عندما يتحركون في ساحة العمل معهم ومع غيرهم، ثم توحي للمؤمنين بأن سبيل الانتصار والنجاح في الحياة، لا يحصل بالاسترخاء والتواكل والكسل والاستغراق في غيبوبة صوفية بعيدة عن الواقع، بل بالعمل الجاد المتحرك الذي يلاحق الحياة من خلال أسبابها الطبيعية التي أودعها الله فيها في ما أودعه من قوانين الحركة في هذه الحياة.

وتبقى للآية أجواؤها الروحية القرآنية التي تجعل الإنسان في حركة مع الروح وهو يفكر، كما تدفعه إلى مرافقتها وهو يعمل ويخطط ويتعاون ويؤيّد ويرفض، ليعرف أن الله يحيط به من جميع الجهات، وأن قيمة أيَّ عمل يعمله تتمثل بمقدار ما يكون قريباً من الله، فهو مع كل شيء وغاية كل شيء في الدنيا والآخرة وهو ولي الأمور.

ـــــــــ

الآيــات

{الم * اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1ـ6).

* * *

معاني المفردات

{اللَّهُ}: الإله المعبود بحق.

{الْقَيُّومُ}: القائم على كل شيء بحفظه ورعايته.

{نَزَّلَ}: النزول على سبيل التدرّج كما قيل، وقد ذكر أن القرآن نزل في نيّف وعشرين سنة.

{وَأَنزَلَ}: النزول دفعه واحدة، فإن التوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة.

{التَّوْرَاةَ}: كلمة عبرية ـ كما قيل ـ معناها الشريعة، وتشتمل على خمسة أسفار، هي «سفر التكوين»، و «سفر الخروج»، و «سفر اللاويين»، و «سفر العدد»، و «سفر تثنية الاشتراع»، وقد يطلق عليها اسم «العهد القديم» في كلمات النصارى، وتشتمل على حكاية قصص الأنبياء وتاريخ بني إسرائيل قبل المسيح.

{وَالإِنجِيلَ}: كلمة يونانية، معناها التعليم الجديد أو البشارة، ويسمى «العهد الجديد»، ويتضمن سيرة المسيح وبعض تعاليمه، موزعة على أربعة أناجيل هي متى ويوحنا ومرقس ولوقا، وعلى أعمال الرسل ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب، ورؤيا يوحنا، وقد كتبت بعد قرن أو قرنين من وفاة السيد المسيح، ولم يذكر لها سند متصل بكاتبها.

{الْفُرْقَانَ}: ما يفرق بين الحق والباطل مما يحتاج الناس إليه في عقائدهم وشرائعهم وأخلاقياتهم، وهو عنوان تشترك فيه كل الكتب الإلهية المنزّلة.

{الاَْرْحَامِ}: جمع رحم، وهو مستودع الجنين في المرأة.

* * *

مناسبة النزول

جاء في تفسير الدر المنثور للسيوطي، أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «قدم على النبي (صلى الله عليه وسلّم) وفد نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، فكلم رسولَ الله(صلى الله عليه وسلّم) منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب، وعبد المسيح، والأيهم السيّد، وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلافٍ من أمرهم. يقولون هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، كذلك قول النصرانية، فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى، ويبرىء الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بإذن الله ليجعله آية للناس.

ويحتجون في قولهم بأنه ولد الله بأنهم يقولون: لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد، شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، ويحتجّون في قولهم إنه ثالث ثلاثة بقول الله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحداً ما قال إلاّ فعلت، وأمرت، وقضيت، وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم، ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن، وذكر الله لنبيه فيه قولهم، فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): أسلما، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما، منعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد، فصمت، فلم يجبهما شيئاً، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فافتتح السورة بتنزيه نفسه مما قالوه، وتوحيده إياهم بالخلق والأمر، لا شريك له فيه، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الأنداد، واحتجاجاً عليهم بقوله في صاحبهم ليعرِّفهم بذلك ضلالتهم، فقال: {ألم*اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ} أي ليس معه غيره شريك في أمره، الحي الذي لا يموت، وقد مات عيسى في قولهم القيوم القائم على سلطان لا يزول وقد زال عيسى»[1].

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع قال: «إن النصارى أتوا رسول الله(ص)، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان، فقال لهم النبي(ص) ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلاّ وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حيّ لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: أفلستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئاً إلاّ ما علم؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّي كما تغذي المرأة الصبي، ثم كان يأكل الطعام، ويشرب الشراب، ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلاّ جحوداً، فأنزل الله {ألم*اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ}[2].

ويرى صاحب تفسير الميزان أن ما تضمنته الروايتان من نزول أول السورة، «كأنه اجتهاد منهم»[3]، لأنه استظهر «أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة، فإن آياتها ـ وهي مائتا آية ـ ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها، متناسبة آياتها، مرتبطة أغراضها. ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله(ص) وقد استقر له الأمر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره، فإن فيها ذكر غزوة أحد، وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران، وذكراً من أمر اليهود، وحثاً على المشركين، ودعوةً إلى الصبر والمصابرة والمرابطة، وجميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم، فمن جانبٍ كانوا يقاومون الفشل والفتور اللذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنة اليهود والنصارى ويحاجونهم ويحاربونهم، ومن جانبٍ كانوا يقاتلون المشركين ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الأمن، فقد كان الإسلام في هذه الأيام قد انتشر صيته، فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب، ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم»[4].

ونلاحظ على ما ذكره المفسر الجليل، أن دراسة أغراض السورة وموضوعاتها المتنوعة، توحي بأن هناك أكثر من قضية كانت تواجه المسلمين في تلك المرحلة مما يؤدي إلى أن تتعدد حالات النزول لمعالجة كل قضية في وقتها، لأن الطريقة التي درج عليها الوحي كانت جارية على تربية المسلمين بالوحي، من خلال المشاكل الحيّة على صعيد الواقع، والتحديات الصارخة في ساحة الصراع مع الآخرين، لتنزل الآيات في ظروف المشكلة لتعالج قضاياها، ولتنطلق في مواقع التحدي لتردّ الهجمات الموجهة للإسلام والمسلمين، الأمر الذي لا يتناسب مع نزولها دفعة واحدة، ولا نجد في الاتساق والانتظام دليلاً على الدفعية في النزول، لإمكان تحقق ذلك حتى مع التدرّج فيها، بحيث تتكامل الآيات في تنظيم السورة بعد ذلك. والله العالم.

ونلاحظ في الروايتين اختلافهما في تصوير موقف النبي(ص) من بعض الأسئلة الموجهة إليه، كالسؤال عن أب عيسى، ففي الرواية الأولى أن النبي(ص) صمت، وفي الرواية الثانية أنه تابع الحديث معهم من حيث إرادته نفي الولدية لله عنه، فلم يصمت أمامهم، بل تابع الحجة على نفي عقيدتهم لأن ذلك هو المقصود، أما إثبات حقيقة عيسى، فإن ذلك يأتي بعد إبطال ما ذكروه، وهي أنه ولد ـ بقدرة الله ـ من أم دون أب.

وإذا صحت الروايتان، فإنهما تدلان على أنّ النبي(ص) كان يدخل في الحوار الفكري مع الآخرين ليقيم الحجة عليهم بذلك، وهذا ما يجب على الدعاة إلى الله أن يتحركوا فيه دائماً في ساحات الصراع الفكري مع الآخرين، فلا يبتعدوا عن خط المواجهة الفكرية بالحوار الموضوعي القوي، ولا ينعزلوا عن ساحات التحدي، لأن الله يريد للعلماء أن يدخلوا المعركة من أوسع أبوابها ليلاحقوا كل التيارات المضادة للإسلام بالحجة البالغة، لأن ذلك هو سبيل القوة للحق.

* * *

تتابع حركة الرسالات وتكاملها

في بداية هذه السورة، يعيش الإنسان الشعور العميق بالحضور المهيمن لله على كل شيء، فهو الحيّ القائم على الحياة في كل حركاتها وسكناتها وحاضرها ومستقبلها، لا يغيب عنه شيء منها، لأنه مفتقرٌ إليه في وجوده حدوثاً وبَقَاءً، ولا يهرب منه شيء، لأنه يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله. وهو الله الذي تمثّلت رحمته وربوبيته التي يربي بها عبده، في إنزال الكتاب الحق على عبده ورسوله محمد(ص)، من أجل أن يظل الحق هو خط الحياة في فكرها وأسلوبها وخطواتها العمليّة، وأن ينطلق الإنسان من خلاله ليصوغ نفسه على صورته.

ولم تكن هذه الرسالة التي أنزلها الله على عبده منفصلةً عن حركة الرسالات وتواريخها، فلم تأتِ لتبطل صدقها ورساليَّتها، بل جاءت لتصدّقها، لأنها الحقّ الذي أوحى به الله إلى رسله السابقين، ولتكمّلها في ما اقتضت سنة الله في الحياة تغييره وتبديله إلى شريعةٍ أخرى تتناسب ومصلحة الإنسان المتجددة المتطوّرة آنذاك. ولم يترك الله القضية في طور الإبهام، فأوضحها بإعطاء هذه الكتب اسمها الذي نزلت به، فقد أنزل الله التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قَبْلِ محمد، ليكونا هدىً للناس في ما يشتملان عليه من مفاهيم وتشريعات. ولا يمنع الحكم بصدقها، أن تكون هناك بعض التحريفات التي طرأت عليهما في بعض الحقائق الدينية، كالبشارة بنبوّة محمد(ص) في ما حدثنا القرآن عنه. وأنزل الفرقان، وهو القرآن الذي يفرق بين الحق والباطل. وهكذا كانت حركة الهدى في الكتب السماوية متلاحقة الخطى في كل جيل ومع كل رسول، ليظل النور مشرقاً في قلب الإنسان في كل زمان ومكان.

وإذا كان الله قد أنزل هذه الكتب بالحق والصدق والهدى، فلا بد للناس من الإيمان بما فيها والسير على هداها، لأنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف يمكن أن يجحدها الجاحدون، ويكفر بها الكافرون... إنه العناد والتمرد من دون أساس، ما يجعل الكافرين مستحقين للعذاب الشديد على ما كفروا وجحدوا... {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} لا ينال أحدٌ من عزته بمعصية أو بغيرها، {ذُو انتِقَامٍ}، لا بمعنى الحالة النفسية التي يعيشها البشر أمام عصيان الآخرين، بل بمعنى العذاب الذي يكون مظهراً للانتقام، فإنه سبحانه أعلى من أن يضعف أمام حالات الضعف، تعالى وتقدس عن كل صفات المخلوقين... فلا بد للعباد من أن يراقبوه ويخضعوا له، فهو الذي يعلم سرّهم وعلانيتهم ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الذي يصوركم في الأرحام فيخلق لكم السمع والأبصار والأفئدة وأنتم في بطون أمهاتكم، ويجعل لكل واحد منكم لونه وخصائص شخصيته، فكيف تنكرونه وتعصونه وتشركون به ما ليس لكم به علم، وهو العزيز الحكيم الذي قدَّر كل شيء على أساس الحكمة التي تضع كل شيء في موضعه، وتقوده إلى هداه.

في هذه البداية التي تختصر للإنسان رحلة الرسالات في الكتب التي أنزلها الله على عباده، وتثير في ذاته التصور الشامل لقدرة الله وعظمته ونعمته، وتقوده إلى مواجهة المسؤولية تحت طائلة العذاب الشديد... في هذه البداية، نجد الجوّ النفسي الذي تتنوّع فيه المشاعر لتوجّه الإنسان إلى السورة التي تشتمل على حكايات الرسل وتفاصيل ما أنزل إليهم، وحركة الإنسان في طريق الهدى والضلال، وحركة العقيدة وما واجهها من صراع ضد المتمردين والكافرين والضالين.

* * *

القرآن.. الحقيقة بأصفى معانيها

{ألم} من الحروف المقطعة التي ورد الحديث عنها في أوائل سورة البقرة. {اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} الواحد الأحد المتفرد بالألوهية والربوبية المهيمن على كل شيء لأنه الخالق لكل شيء، فلا إله غيره ولا رب سواه، {الْحَي} في العمق العميق للحياة التي هي سر ذاته، فلم تحصل له من أية قوة أخرى ولا تتبدل إلى موت، بخلاف حياة الأحياء كلها المستمدة من إرادته، فتتحرك من خلال مشيئته وتموت إذا أراد لها الموت {الْقَيُّومُ} القائم على كل شيء بالحفظ والتدبير والرعاية، فله الأمر كله في الوجود كله في كل شيء من شؤونه، فهو القيّم على النظام الكوني في جميع مفرداته من حيث إنه الذي خلقه ودبّره ونظمه وأعطاه سرّ التجدد والبقاء من خلال علمه الذي يفيض على الأشياء بكل أسرارها ومن خلال قدرته التي تمنح الوجود كل إرادتها في معنى الحكمة والتدبير.

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} لأنه الوحي الذي يمثل الحقيقة بأصفى معانيها، وأعمق أسرارها، وصدق مضمونها، وامتداد إيحاءاتها، ولأن الله هو الحق وما يدعون من دونه هو الباطل، فلا يصدر عنه إلا الحق الذي يهدي إليه من يشاء من عباده لينفتحوا عليه وليهتدوا إليه وليتحركوا إلى الحياة في مسؤولياتهم من خلاله، لتقوم حركة الإنسان في علاقاته ومعاملاته وكل أوضاعه وشؤونه على أساس الحق، كما قامت السماوات والأرض، لأن الله خلقها به.

وقد قيل في توجيه التعبير بكلمة نزّل بدلاً من أنزل، لأن التنزيل يدلّ على التدريج، فأريد التنبيه على طريقة القرآن في النزول.

وذكر صاحب الميزان ـ الذي أورد هذه الملاحظة من النكتة التعبيرية ـ أنه «ربما ينقض ذلك بقوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، وبقوله تعالى: {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً} [المائدة: 112]، وقوله تعالى: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ} [الأنعام: 37] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ} [الأنعام: 37]، ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الأولى أن يقال: إن معنى {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}: أنزله إنزالاً بعد إنزال، دفعاً للنقض. والجواب: أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلّل زمان معتدّ به بين نزول كل جزء من أجزاء الشيء وبين جزئه الآخر، بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبةً إلى مجموع الأجزاء، وبذلك يصير الشيء أمراً واحداً غير منقسم، والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} [الرعد: 17]، وهو الغيث. ونسبته من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد، سواء تخلل بينهما زمان معتدّ به أو لم يتخلل وهو التدريج والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى: 28].

ومن هنا يظهر أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة، فإن المراد بقوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} الآية، أن ينزّل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتدّ به، كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة، وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة»[5].

وخلاصة الجواب، أن الشيء المركب من أجزاء متعددة، قد يلاحظ من حيث وحدته، باعتبار تكامل الأجزاء في تكوين الوحدة، فيعبّر بالإنزال، فإن الدفعية تلاحظ من حيث مجموع الشيء في مقابل مجموع شيء آخر، وقد تلاحظ من حيث تتابع الأجزاء، فيكون هناك تدرّج من حيث لحوق بعضها بالبعض الآخر، حتى لو لم يكن هناك زمان متخلل بينهما، وبهذا صح التعبير بالتنزيل في كلامهم في الاعتراض على عدم تنزيل القرآن جملةً واحدة، لأن الملحوظ فيها جانب الوحدة في القرآن، لا جانب التعدد في الأجزاء.

ونلاحظ على ذلك، أن القضية ـ في هذا الجواب ـ تعني اختلاف التعبير من جهة اختلاف اللحاظ، مع وحدة المضمون، فلا يكون هناك فرق حقيقي في النتيجة بين الإنزال والتنزيل، لأن ذلك قد يلاحظ في كل مركّب حتى في التوراة والإنجيل، وربما كان اختلاف التعبير ناشئاً من باب تنويع اللفظ الذي يتفق معناه ويختلف مبناه من ناحية تجديد الأسلوب.

{مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة والإنجيل، بقرينة قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48]، في إشارة بكلمة (الكتاب) إلى التوراة والإنجيل اللذين سبقت الإشارة إليهما في أوّل الآية.

فقد جاء القرآن مقرّراً للمفاهيم العقيدية والأخلاقية والشرعية التي جاء بها الكتابان المنزلان من الله، للتدليل على أن الرسالات ترتكز على قاعدة واحدة من العناوين الكبيرة المتصلة بالحركة العامة للإنسان والحياة، ليكون الاختلاف بينها في الخصوصيات الطارئة التي قد تتدخل في نسخ حكم أو تغيير مفهوم أو نحو ذلك مما له علاقة بامتداد الزمن في متغيراته، فلا مجال للحديث عن نفي أصالة القرآن من حيث اشتماله على بعض ما في التوراة والإنجيل، ليستدل بذلك ـ كما يتحدث البعض ـ على أنّ النبي(ص) قد أخذ هذه الآية من هذا الكتاب وتلك الآية من ذلك الكتاب، وقد لاحظنا أن القرآن قد صرّح عن وجود بعض الأحكام في التوراة، كما في القصاص، وهذا ما يجعل من الإسلام رسالة جامعة للرسالات مع بعض الاختلاف في الحاجات الطارئة التي تفرض إحداث اجتهاد جديد أو تبديل مفهومٍ قديم.

وربما نستفيد من الحديث عن القرآن بأنه مصدّق الذي بين يديه، أن هذا الحديث موجه إلى اليهود والنصارى الذين يحتفظون بالتوراة والإنجيل ليقارنوا بين القرآن وبين الكتابين، ليجدوا صدق هذه الدعوة. فإذا عرفنا أن الكتاب الذي بأيدينا من التوراة والإنجيل هو الكتاب الذي كان بأيديهم في زمن الدعوة، فإننا نخرج من ذلك بنتيجة واضحة، وهي أن الإنجيل أو التوراة لم يحرّفا بالدرجة التي لا يبقى فيها مفهوم صحيح من مفاهيم الرسالة أو آية سالمة من التحريف من آياتهما، بل إنهما يتضمنان الكثير من النصوص الصحيحة والمفاهيم الحقّة التي تصلح أن تكون أساساً للمقارنة بينها وبين القرآن لمعرفة صدقه من خلال اشتماله على ما في التوراة والإنجيل، ليكون التحريف مختصاً ببعض الجزئيات كالبشارة بالنبي محمد(ص) ونحو ذلك. ولولا ذلك، لما كان هناك مجال للاحتجاج بهما على صدق القرآن لاختلاف مفاهيمهما ـ بلحاظ التحريف ـ عن مفاهيم القرآن؛ والله العالم.

{وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ} إنزال القرآن {هُدًى لِّلنَّاسِ} الذين يريد الله لهم أن ينطلقوا في حياتهم في نور من الفكر الحق مما لا يملكون الوصول إليه بعقولهم لأنها تفقد الوسيلة إليه أو لأنها لا تستقيم ـ دائماً ـ في إدراكه بالدقة والعمق، فكانت الرسالات وسائل الهدى التي تعرّفهم حقائق الغيب وأسرار العقيدة ودقائق التشريع، لتكون حياتهم صورة لما أراد الله لهم أن ينهجوه ويفهموه ويعتقدوه كما أراد لهم أن يعملوه، فلا يضيعوا في متاهات الضلال التي يتخبطون فيها في دروب الضياع {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} الذي يمثل القاعدة الفكرية التي تبين الفواصل بين الحق والباطل والخير والشرّ من خلال الخطوط العامة والخطوط التفصيلية، وذلك هو شأن الكتب الإلهية المنزلة على الرسل التي أنزلها الله ليعرف الناس الحق من الباطل وليأخذوا بهذا عن بيّنة ويبتعدوا عن ذاك عن بيّنة، من دون لبس واشتباه. وهذا هو الخط العملي للمؤمنين بالله، المنفتحين على رسالاته، العاملين في سبيله، السائرين على خطه، المجاهدين من أجل الحصول على رضوانه والفوز بجنته.

* * *

الكافرون لهم عذاب شديد

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بآيَاتِ اللَّهِ} الدالة على توحيده وعلى الحجج القائمة على صدق رسله واستقامة شرائعه وعلى اليوم الآخر {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدنيا والآخرة، فقد يعذبهم الله بأموالهم وأولادهم وأوضاعهم العامة والخاصة وعلاقاتهم بالناس والحياة، فيعيشون الحياة حزناً وألماً وتعباً وكآبة ويأساً ومرضاً يمنعهم من الأخذ بطيبات الحياة ـ وهي بين أيديهم ـ ومن الحصول على مواقعهم الكبرى ـ وهي في متناولهم ـ كما قال تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85]، وهناك في الآخرة العذاب الأكبر في نار جهنم التي يصلاها الأشقى الذي لا يموت فيها ولا يحيى {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} بقدرته على كل شيء والتي لا يمتنع منها شيء ولا يبلغ مداها شيء، ولا يغلبها شيء، ولذلك كانت العزة لله جميعاً، فهو الذي يعطيها لمن يشاء من عباده ويمنعها من يشاء {ذُو انتِقَامٍ} من غير انفعال في الذات أو عقدة في القلب أو تشفًّ لاستحالة ذلك منه، لعلوّه عن كل الحوادث وعن كل صفات المخلوقين.

إن هذا الإحساس السلبي ينطلق بنا من رد الفعل عن الضرر الواقع من المعتدي، ولكن انتقامه يتمثل ـ في الجانب العملي ـ في مجازاة المسيء بإساءته من خلال الحكمة في ذلك، لأن ساحته أعز وأعلى من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده.

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ فِي الأرضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ} فهو المطّلع على كل عباده في سرّهم وعلانيتهم، في كفرهم وإيمانهم، في طاعتهم ومعصيتهم، كما هو مطّلع على كل شيء في الكون في الأرض وفي السماء، فلا بد للناس من أن يراقبوه في كل ما يعملون، وفي ما يسرون وما يعلنون، وأن يحسبوا حساب عذابه في ذلك كله. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} فهو الذي يبدع وجودكم بكل خصائصه ويمنحكم الصورة التي يشاءها بحكمته، وأنتم أجنّة في بطون أمهاتكم، من ذكورية وأنوثية، وجمال وقبح، وطول أو قصر، أو ذكاء وبلادة، أو حدّةٍ أو برودة، في صورة مادية أو معنوية {لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} الخالق الباري المبدع المصور، فلا يشاركه في خلقه أحد، ولا يساعده في إبداع الصورة غيره {الْعَزِيزُ} في سلطانه {الْحَكِيمُ} في أفعاله، فلا يصدر منه إلا ما كان في عمق الحكمة التي تضع الأمور في مواضعها وتبدع الأشياء بأسرارها.

وهكذا تنطلق الوحدانية الإلهية في وعي وجدان الإنسان لينفتح على الله وحده في كل أموره، وليراقبه في كل حركاته وسكناته، وليشكره على جميع نعمه في وجوده، فليست هناك نعمة إلا منه، فهو الأول والآخر في كل وجود الإنسان أولاً وأخيراً.

ـــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:2، ص:142.

(2) م.س، ج:2، ص:4 ـ 5.

(3) تفسير الميزان، ج:3، ص:18.

(4) م.س، ج:3، ص:5 ـ 6.

(5) تفسير الميزان، ج:3، ص:7 ـ 8.