تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 28 إلى الآية 30

من الآية 28 الى الآية 30

 

الآيــات

{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ* قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَـواتِ وَمَا فِي الأرضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ* يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ}(28ـ30).

* * *

معاني المفردات

{أَوْلِيَآء}: جمع ولي من الولاية، وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشيء، ثم استعمل في مورد الحب والنصرة والمعونة.

{مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}: من مكان دون مكان المؤمنين، فإنهم أعلى مكاناً، كما في قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] أي ممّن لم يبلغ منزلته منزلتكم في الدين. وفي الآية نهيٌ عن موالاة الكفار ومعاونتهم على المؤمنين.

{تَتَّقُواْ}: التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، وحفظها مما يضرّ.

{تُقَاةً}: مصدر اتقى تقيّة واتقاءً وتقوى، والتقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس. وعن الإمام الباقر(ع): التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له[1].

{وَيُحَذِّرْكُمُ}: الحذر: هو الاحتراز من أمر مخيف، وقد حذّر الله عباده بقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، وحذّر من المنافقين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]، كما وحذّرهم من نفسه، لأنه ـ تعالى ـ هو المخوف الواجب الاحتراز، فلا عاصم بين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وبين عذابه وعقابه، وهنا يبدو عظم المعصية وكبر الذنب، لأنه رفض لولاية الله سبحانه.

{أَمَدَا}: غاية، والأمد: مدة لها حدّ مجهول إذا أطلق، ويقال باعتبار الغاية. أما الزمان فهو عام في المبدأ والغاية، والأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود.

{تُحِبُّونَ}: المحبة هي الإرادة، إلا أنها تضاف إلى المراد تارةً وإلى متعلق المراد أخرى، تقول: أحب زيداً وأحب إكرام زيد، ولا تقول في الإرادة ذلك، لأنك تقول: أريد إكرام زيد، ولا تقول: أريد زيداً، وإنما كان ذلك لقوّة تصرف المحبة في موضع ميل الطباع الذي يجري مجرى الشهوة، فعوملت تلك المعاملة في الإضافة، ومحبة الله تعالى للعبد هي إرادة ثوابه، ومحبة العبد لله هي إرادته لطاعاته.

{أَطِيعُواْ}: الطاعة اتباع الداعي في ما دعاه إليه بأمره وإرادته، ولذلك قد يكون الإنسان مطيعاً للشيطان في ما يدعوه إليه وإن لم يقصد أن يطيعه، لأنه إذا مال مع ما يجده في نفسه من الدعاء إلى المعصية فقد أطاع الداعي إليها.

* * *

الإيمان في حركة العلاقات الإنسانية

في هذه الآيات دعوة الجماعة الإسلامية للارتباط العضوي بين أفرادها من موقع الإيمان الواحد، وللتأكيد على الفواصل التي تفصلهم عن الكافرين، في ميزان العلاقات الحميمة التي تعبّر عن الإخلاص والولاية، لأن العقيدة لا تُعتبر رباطاً فكرياً يجمع أتباعها، بل تمثل ـ إلى جانب ذلك ـ رباطاً روحيّاً شعورياً يجمع القلوب على المحبة، ويوجهها إلى الاندماج العاطفي في علاقة روحية حميمة، ولا بد لها ـ في هذا الجو ـ من أن تتحوّل إلى حاجزٍ يفصل الفكر والشعور عن الآخرين الذين يعيشون الفكر والشعور المضادّ، لأن اللامبالاة ـ في هذا المجال ـ توحي بأن الإنسان لا يعيش الاهتمامات الإيمانية بالمستوى المطلوب، ولا يجد للمواقف المضادة لفكره الإيماني، في كل ما يمثله الفكر من رموز الإيمان وقضاياه وتطلعاته، أيّ أثر سلبي في داخله.

إن الآيات ـ في ما نفهم ـ تريد أن تقرر للمؤمنين قضية ترتبط بحقيقة الإيمان، وهي أن الإيمان لا بد من أن يتحوّل إلى موقعٍ يحكم الفكر والعاطفة والسلوك، لئلا يبقى مجرّد فكرةٍ تعيش في زحام الأفكار الراقدة في ذهن الإنسان، من دون أن تمثّل أيّ حضور وجداني في حياته الشعورية والعاطفية.

وفي ضوء ذلك، نتعلم أن الفكرة التي تتحول إلى إيمان، تعني انطلاق الشخصية الإنسانية في خطّ الفكر في إيجابياته وسلبيّاته، في مواقع اللقاء، وفي مواقع الافتراق، بحيث تتحرك النظرة إلى الأحداث والأشخاص والعلاقات، تبعاً لحركة الفكرة في مسارها الواقعي، فلا معنى ـ في هذا الجو ـ للشعور العميق الشخصي بالمودة والموالاة للأشخاص الذين يمثّل فكرهم وشعورهم وسلوكهم التحدي المضاد للفكرة، أو للحالة النفسيّة المعقّدة سلبياً إزاء الأشخاص الذين يعيشون في حياتهم الفكرية والعاطفية والعمليّة، الخط المستقيم مع الفكرة.

إن المدلول الطبيعي لهذا السلوك، هو اعتبار الصفات الذاتية التي يملكها هذا الشخص في الجانب الإيجابي أو السلبي، هي الأساس للتقييم والتفضيل والاندماج بعيداً عن الجوانب الإيمانية التي لا تمثل إلاّ شيئاً شخصياً يعيش في زاويةٍ ساذجةٍ من زوايا الشخصيّة، بحيث لا تترك أيّ تأثير على طبيعتها ونوعِيتها. وهذا ما يحاوله الكثيرون في هذا العصر ممن يعملون على أن عزل العلاقات الإنسانية عن الجوانب العقيدية للإنسان، فيقررون المبدأ الذي يقول: إن اختلاف الأفكار والمبادىء لا يمنع من إقامة أيّة علاقة طبيعية حميمة يسودها الودّ والإخلاص. وقد عبر أحد الشعراء عن هذا الاتجاه بقوله: «اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة».

ولكننا نحاول ـ في التعليق على هذا الرأي ـ التفريق بين الخلافات الفكرية التي لا تترجم خلافاً في المواقف العملية، بل تعبّر عن بعض القضايا العامة والخاصّة التي تمثّل نظرةً معيّنة في تفسير أو تحليل حقيقةٍ فلسفيةٍ أو اجتماعية أو سياسيةٍ أو نفسيةٍ، وبين الخلافات الفكريّة التي تتصل بالجانب الروحي والفكري والعملي للإنسان، حيث تتمثل في الصراع المتحرك في جميع الاتجاهات، بحيث يترك تأثيره على الفكر والشعور والممارسة، وفي التفاعل الشعوري بين الذات والفكرة، بحيث تتحول الفكرة إلى جزء حيّ من الذات يحمل معنى القداسة في ما توحي به من رموزٍ مقدسةٍ تحمل معنى الرفض الحاسم للرموز الآخرى، بحيث لا يمكن لها أن تلتقي في الموقع الواحد، بالإخلاص لكل الرموز، أو بالإخلاص لرمز معين مع التساهل في طبيعة الموقف من الرمز الآخر...

وذلك كما هي الحالة في قضية الإيمان والكفر، أو التوحيد والشرك، فإن الإيمان يمثل الارتباط بالله في حضورٍ فكري وروحي خاشعٍ عميق، بينما يمثّل الكفر النفي الحازم للفكرة، في استهانةٍ بكلّ ما تمثله من معانٍ وقيم، كما أن التوحيد يعني فكرة الإله الواحد الذي لا شريك له. ولا بد من أن تكون العبادة له وحده، كنتيجة طبيعيّة لكون الإيمان به وحده. أمّا الشرك، فهو الذي يمثّل الإخلاص لفكرة الصنميّة في العقيدة، أو في العبادة...

وهكذا في الأفكار الأخرى المشابهة في الحقول الآخرى، كفكرة العدل والظلم، أو الحريّة والعبودية، أو الاستقلال والاستعمار، فإن مثل هذه الخلافات تفرض التزاماً يحمل معنى التحدي للفكر أو للواقع الذي يمثّله، والتحرك الصارخ في هذا الاتجاه، ما يقتضي أن يعيش أصحابها مستوىً كبيراً من التوتر الروحي للفكرة ليتحقق لهم الارتفاع على الضغوط الكبيرة التي يواجهونها.

وفي مثل هذه الحال، لا يمكن أن تبقى العلاقات الحميمة بين الفرقاء المختلفين مع إخلاص كلّ منهم لموقعه ومواقفه والتزاماته... أمّا الخلافات الفكريّة المجرّدة التي تعيش في نطاق الحياة العلمية للإنسان، أو في نطاق الحياة العملية البعيدة عن القضايا الأساسية لديه، فإنها لا تترك أيّ تأثير على العلاقات، لأنها لا تعيش في عمقها، بل تظل بعيدة عنها في حركتها الفكرية أو في مسارها العملي.

* * *

المؤمنون أولياء بعضهم بعضاً

وقد جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتعبّر عن هذه الحقيقة بأسلوب حاسم يضع القضية أمام علاقة الإنسان بالله بين أن تكون أو لا تكون، من دون أن يكون هناك حلّ وسط، ما يعطي القضية أهميتها الكبرى في حساب الإيمان. ثم تصاعد الأسلوب في الإيحاء للإنسان بأن عليه أن لا يسترخي فيشعر بالأمن والطمأنينة في إحسان الله إليه وترك عقوبته في الدنيا، لأنّ ذلك لا يمثل الرضا والتسامح في ما يتمرد فيه الإنسان على الله، بل يجب أن يحذر، فإن الله يحذر المنحرفين عن الخط المستقيم من نفسه، فقد يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون.

{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} الذين عاشوا الإيمان عقيدةً والتزموه عملاً، وانفتحوا عليه روحاً وعقلاً وحركة حياة، فكان الله أحب إليهم من أنفسهم ومن كل شيء آخر {الْكَـافِرِينَ} الذين جحدوا الله في وجوده وتوحيده ورسله ورسالاته واتبعوا الشيطان في خططه وحبائله ووساوسه، فكانت الحياة في وجدانهم الفرصة الأولى والأخيرة للّهو وللعبث والتمرّد على الله وعلى رسوله والانحراف عن القيم الأصيلة في الإنسان الواعي، وكانت دروبهم دروب المتاهات الصحراوية التي لا تأوي إلى ظل ولا تسكن إلى واحة، {أَوْلِيَآءَ} يلقون إليهم بالمودة ويمحضونهم الإخلاص، ويتبعونهم في أوامرهم ونواهيهم، ويتحركون معهم في خططهم وتعاليمهم، ويعادون من عادوا ويوالون من والوا، فيكونون طوع إرادتهم في السرّاء والضرّاء، حتى يذوبوا فيهم وفي كفرهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم، ويفضلونهم على المؤمنين، فلا ينفتحوا عليهم {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، بل لا بد لهم من تفضيل المؤمنين على غيرهم في كل الأمور، فإن ذلك هو علامة الإيمان الحق الذي يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله.

ذلك هو علامة الإيمان الحق الذي يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله.

{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي يوالي الكافرين من دون المؤمنين {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيء} فلا علاقة بينه وبين الله في دائرة ولاية الله تعالى، فإن الله بريء منه، فلا يعتبره من أوليائه ما دام ولياً لأعدائه وعدوّاً لأوليائه، وتلك هي قمة السقوط والشقاء، لأن ذلك يفصله عن الأساس الذي انطلقت منه حياته، وامتد به وجوده.

***

أسلوب التقية في الخط الإسلامي الحركي

{إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} وذلك بإظهار الانسجام معهم في الالتزام بما يريدونه ويفرضونه من أوامر ونواهي وتعليمات وأوضاع، والإيحاء لهم بأنهم معهم في خطهم الفكري والعملي، وذلك تحت ضغط التهديد الخفي أو المعلن، والتعسف السلطويّ الذي يمارسونه ضدّهم في أساليب الظلم والعدوان التي يوجهها المستكبرون ضد المستضعفين، فإن الله قد رخّص للمستضعفين الذين {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء: 98]، أن يدرسوا ظروفهم الموضوعية في عملية مقارنة بين واقعهم الضعيف وموقع الأقوياء الظالمين القوي، ليتعرفوا المواقف التي تفرض عليهم إظهار الالتزام بما يريده المستكبرون، مع الرفض لهم في العمق الخفي من شخصيتهم، حفاظاً على وجودهم وعلى حريتهم في الحركة في الجوانب الآخرى، وليتعرفوا المواقع التي يملكون فيها التخفف من الضغوط والابتعاد عن مجال التعسف، واكتشاف الثغرات التي تتيح لهم مجال الهرب، ليعيشوا التزاماتهم، ويهربوا من التزامات المستكبرين، فإن الله لا يريد أن يجعل الناس المستضعفين في حرج من أمرهم ولا يفرض عليهم أن يتحملوا عناء الضغوط التي لا يتحملونها جسدياً أو معنوياً، فإنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.

وفي ضوء هذا، نعرف أن التقية ليست سقوطاً تحت تأثير المستكبرين والتزاماً بأوضاعهم وانسجاماً مع انحرافاتهم، بحيث ينتقلون من الهدى إلى الضلال، بل هي عمليةٌ ظاهريةٌ شكليةٌ مرحليةٌ تنطلق من المرونة العملية في مواجهة التحديات الكبرى التي تطبق على الإنسان الضعيف بحيث تتحدى وجوده أو ما يمثل المصادرة لحريته الإنسانية في وجوده، ويبقى يعيش في نفسه الرفض للظلم وأهله، وللكفر ودعاته، وللاستكبار وقادته، رفضاً يثير في نفسه المواجهة النفسية العقلية التي تكبر في عقله لتعود حيّةً فاعلة في حركته عندما تتبدل الظروف وتتغير المواقف والمواقع.

إنها الأسلوب الواقعي العملي في حماية الموقف الكبير على مستوى الهدف على حساب الموقف الصغير في حركة الوسيلة، وهذا أسلوبٌ إنسانيٌ عقلائيٌ يرخص للإنسان الوقوع في المفسدة المهمّة إذا عارضتها المصلحة الأهم، على قاعدة التزاحم التي تقرر تقديم الأهم في الحسابات العملية وإسقاط المهم وتجميده في مرحلة معينة.

وفي هذا الجو، نعرف أن التقية تتحرك حيث يشتد الضغط ليصل إلى المستوى الأعلى، وحيث تكبر المصلحة في موقع الأهمية، وتتجمد حيث تكون الأمور في مستوى عاديٍّ لا يمثل أيّة مشكلةٍ كبيرةٍ أو أيَّة أهميّة عظمى، من دون فرق بين أن تكون التقيّة في العقيدة أو الشريعة أو في الموقف السياسي أو الاجتماعي أو نحو ذلك.

لكن الرخصة في التقية لا تعني فقدان الموقف الواضح الصريح المتحدي المنفتح على التضحية، للشرعية، فإن الله قد رخص للناس أن يأخذوا بها، كما جعل لهم الحرية في الأخذ بموقف القوة والتحدي في مواجهة الأعداء ووعدهم الثواب الكبير على ذلك، لدلالته على مدى الإخلاص لله ورسوله ولدينه في الالتزام بالقضايا الكبرى.

وقد تُمثِّل التقيّة الموقف المتنوع، فقد مارسها عمار بن ياسر حين نطق بكلمة الكفر، فأنزل الله فيه {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وفي موقف أبويه ياسر وسمية اللذين استشهدا تحت التعذيب وصبرا فكان النبي(ص) يمر عليهما ويقول: صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة. وهكذا نجد أن الإسلام يستجيب لرغبة الإنسان المسلم بالشهادة كما يستجيب لرغبته بالحياة.

ولا بد للإنسان المستضعف في هذا المجال من أن يدرس ـ دائماً ـ في موقفه العملي بين الأخذ بالرخصة أو الاندفاع في التحدي، مصلحة الأمة أو المجتمع أو الدين، لأن التحدي قد يؤدي إلى مشاكل كبيرة وسلبيات كثيرة على المصلحة العليا، وربما كانت التقية سبباً في ذلك عندما توحي بالسقوط الكبير للموقف الرسالي، وللأمة في مرحلتها الحساسة، ليراعي ذلك بشكل واعٍ، لأن التقية تمثل الموضوع المتحرك في ساحة المصالح والمفاسد، ولا تمثل الموضوع الثابت الذي يخضع لحكم واحد وخط واحد، بل إنه يتغير بتغير الظروف والأوضاع ومستوى تأثيره على المصلحة العليا في القضايا الكبرى سلباً أو إيجاباً، فإذا كان الإقدام على التحدي يؤدّي إلى إبادةٍ للأمة أو للمعارضة أو للخط، فإن التقية هي الخيار الذي يجب على الناس أن يلتزموه، وإذا لم تكن التقية تؤدّي إلى السقوط الكبير، فإن المواجهة هي الموقف الذي يجب عليهم أن يقفوه، وإذا لم تكن المسألة بهذا المستوى، فإنهم مخيرون بين التقية والتحدي حتى الشهادة، ولا بد لولي الأمر من أن يتخذ الموقف المناسب في وعيه للواقع وتحريكه الأمة باتجاه الحركة الواعية السليمة.

* * *

التقية في الخط الواقعي المشروع

وقد جاء استثناء التقيّة التي تعبّر عن حالة الاضطرار التي لا يكون الانسجام فيها مع الخط عملاً واقعياً، ليدلّل على أن الموالاة لا تعبّر عما في الداخل من العاطفة الحميمة، بل تتجسد في الموقف العملي الذي يتمثّل في الالتزام بالمودّة، ليكون الاستثناء، متصلاً أو منقطعاً، منسجماً مع جوّ المستثنى منه.

وفي هذا الاستثناء نعرف شرعيّة التقيّة في ظروفها الموضوعية التي يخضع لها الإنسان من خلال الضغوط الصعبة التي تشل حياته فتعرّضها للخطر، من دون فرق بين أن يكون الجوّ هو جوّ الكفر أو جوّ الانحراف عن الإسلام ضمن الصيغة الإسلامية، لأن القضية هي قضية إعطاء المجال للإنسان لكي يحافظ على نفسه أو على قضيته بالأسلوب الذي يوحي للآخرين بأنّه معهم، خلافاً لما يعتقد من فكر أو سلوك.

وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن أئمة أهل البيت(ع) في الحثّ على التقيّة للمحافظة على خط المعارضة للانحراف، من وجهة النظر الإسلامية التي يرونها ممثّلة للخط الإسلامي المستقيم، وذلك من خلال الضغوط الشديدة التي كان يمارسها الحكم الأموي والعباسي ضدّهم، ليمنعهم من الامتداد في مسيرتهم، وقد شنّع بعض المسلمين على الشيعة الإماميّة في ذلك، حتى نسبوا إليهم ما لم يقولوه في هذا المجال، في سعة موارد التقية وطبيعتها، ولكنهم لو بحثوا عن ذلك في كتب الشيعة التي عرضت للتقيّة بإسهاب وتحقيق، لعرفوا أين تبدأ وأين تنتهي بعيداً عن أجواء الحقد والضوضاء.

{وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} من الانحراف عن صراطه المستقيم في رفض ولاية الكافرين والالتزام بولاية المؤمنين، فلا تستهينوا بعقابه، ولا تستسلموا لإمهاله لكم وعدم الأخذ بالعقاب الفعلي، لأنه قد يمهل ولكنه لا يهمل، فإذا كان هو الرحمن الرحيم، فإنه القوي العزيز الجبار.

{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} وهكذا ينطلق الإيحاء باليوم الآخر الذي يرجع فيه الناس إلى الله، ليكون إيحاءً بالحذر الذي يتحرك في خط الالتزام في طريق الحصول على رضا الله.

* * *

التقيّة ليست وسيلة لتجاوز حدود الله

ويمتد الأسلوب القرآني الذي يحشد أمام الإنسان الأجواء الروحيّة التي يشعر معها بأنّ عين الله تحدّق فيه وهو يخفي في نفسه الفكر السيّىء والشعور الشرير، وتنظر إليه، وهو يبديه، لأن الله يلاحق الإنسان في خلواته، فهو يعلم كل شيء يصدر من الإنسان، فكراً وعملاً ظاهراً أو خفياً، ولا يقف علمه عند حدود الإنسان، فإنه يعلم ما في السماوات والأرض، فكل شيء مكشوف لديه، وكل شيء حاضر عنده، فكيف يمكن للإنسان، الذي يعي هذه الحقيقة وعياً وجدانياً عميقاً، أن يستسلم للغفلة، وأن يلعب لعبة اللفّ والدوران والاستخفاء بعلاقاته المحرّمة وصداقاته المنحرفة التي يحاول أن يعطيها صفة الاستقامة والإخلاص، وهو يعلم أن الله محيط بكلّ شيء في علمه وقدرته، وأنّ المصير إليه، مهما امتدت الحياة به، ومهما استسلمت خطواته للانحراف.

وربما كان في هذا الحديث تذكيرٌ للذين يمارسون التقية، بأن عليهم أن لا يتخذوا من الرخصة فيها وسيلةً لتجاوز الحدود المرسومة في دائرتها، فقد تجتذب أوضاع المستكبرين والكافرين مطامعهم وأحلامهم فيندفعون في السير معهم بأكثر مما تفرضه القضية المرحلية، فيؤدي بهم ذلك إلى الانحراف. وهذا ما لا بد للإنسان من الانتباه إليه حتى لا يقع في أحابيلهم وأساليبهم الإغرائية، وذلك بأن يأخذ من تذكره لرقابة الله عليه وعلمه المطلق بالسرّ والعلن، وسيلةً لتقوية إرادته في موقف الحق.

وهذا ما نلاحظه في الكثير من الشخصيات والأحزاب والحركات السياسية، التي تحمل الكثير من الشعارات الكبيرة على مستوى قضايا الحرية والعدالة، فتنطلق ـ بفعل الظروف المعقدة ـ لتقديم التنازلات للمستكبرين من مواقفها والتزاماتها باسم المرونة الحركية والواقعية السياسية التي قد تلتقي مع مضمون التقية، فتستريح للنتائج الإيجابية في الحصول على المغريات، ويمتد بها ذلك إلى التحوّل نحو المواقع المنحرفة البعيدة عن الخط المستقيم.

* * *

مشروعية التقية في مواجهة الاستكبار

إننا نجد في التوجه القرآني لتشريع التقية في المواقف الصعبة حركةً في الواقعية الإسلامية في السلوك العملي في مواجهة التحديات على مستوى التعامل مع خط الاستكبار العالمي الذي قد يطبق بالضغوط الهائلة على مواقع التحرك الإسلامي للإجهاز عليها وعلى قيادتها، ولإسقاط جمهورها ومحاصرة مواقعها، بما يملكه من وسائل الضغط السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري والثقافي، مما قد لا يسمح بالتوازن في المواقف الاعتيادية، أو لا يتيح الفرصة للمواجهة المباشرة، بحيث لا تكون الشهادة حلاً عملياً للوصول إلى النتائج الحاسمة، الأمر الذي قد يبرر للقيادات الواعية أن يأخذوا بالرخصة لإبداء بعض المرونة السياسية العملية في خط التقية، للتخفف من الضغط الهائل من أجل الاستعداد للمواجهة المستقبلية على أساس المتغيرات الجزئية أو الكلية للظروف الموضوعية التي تؤذن بالتحرك الجديد في الخطة الجديدة للمواجهة الحاسمة في طريق تحقيق الأهداف.

وهذا ما يوحي لنا بالفكرة التي تؤكد واقعية الإسلام في حركة الإنسان أمام التحديات، بحيث تكفل له الاستمرار في أسلوب المرونة، والثبات في خط المبدأ، لأن القضية في شرعية الأسلوب، مرتبطةٌ بعلاقة القضية بالهدف، فهي التي تمنحه السلب في المورد السلبي للنتائج، والإيجاب في المورد الإيجابي لها، وليست جامدةً في الموقف الواحد الذي قد يحصر الإنسان في زاوية مغلقة، أو يدخله في دوّامةٍ لا يعرف كيف يخرج منها في قضاياه الكبيرة أو الصغيرة.

وهذا هو وحي التقية في عطائها الإيجابي في حياة الإنسان وتحركاته في ضرورات الحفاظ على الحياة للذات وللخط وللدين وللمذهب وللواقع.

* * *

المسؤولية أمام قدرة الله

{قُلْ} يا محمد، لكل هؤلاء الذين لا يعيشون وعي الإيمان بالله بالدرجة التي يتحسسون فيها الشعور بالرقابة الدائمة الخفية عليهم في كل أوضاعهم السرّية والعلنية، فيتصورون الله في حالة الغفلة وموقع اللاشعور، كما يتصورون أيَّ إنسانٍ مثلهم يعلنون له ما يريدون إعلانه، ويخفون عنه ما يريدون إخفاءه، اعتماداً على ما يملكون من عناصر الشخصية في إخفاء السرّ عن الآخرين، فيتصرفون في السرّ بحريةٍ في معصيتهم لله وانحرافهم عن خطه، في إحساس منهم بالأمن بأن أحداً لا يراهم، باعتبار أن عوامل الإخفاء عن الأنظار والأسماع تحيط بهم، قل لهؤلاء {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} من أسرار الفكر والشرّ والجريمة، فلا تتحدثون به لأحد {أَوْ تُبْدُوهُ} للناس {يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } الذي {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59]، {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَـواتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ألا يعلم من خلق وهو اللطيف القدير {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} فعلى الناس أن يتحسسوا معنى قدرته في مسؤولياتهم أمامه، لأنهم لا يملكون ـ في كل مواقع قدرته ـ لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، إلا من خلاله، ليأخذوا بأسباب رضاه، ويبتعدوا عن مواقع غضبه.

* * *

الحذر من عذاب الله

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} وتأتي الآية الثانية لتجسّد لحظة المصير في كلمات تختصر النتائج وتصوّر الحالة النفسيّة للعاملين والمنحرفين في ذلك اليوم الذي يواجه فيه الإنسان العامل للخير كل أعماله الخيّرة أمامه محضرة جاهزةً بما يقدم إليه من رحمةٍ ولطفٍ ورضوان ونعيم، فكأن القضايا قد أعدّت له قبل أن يقف في موقفه هذا ما يشبه حالة الانتظار التي ينتظر فيها الإنسان الذي يستحق الكرامة، مظاهر الإكرام والإنعام. ولعل هذا هو الوجه في العدول عن التعبير بكلمة «حاضراً» بدل الكلمة التي جاءت في القرآن لتوحي بالاستعداد، وهي كلمة {مُّحْضَراً}... {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيداً} أمّا الإنسان الذي عمل السوء وامتد فيه، فإن الموقف يختلف لديه كلياً، فهو يعيش حالة الرغبة في الهروب منه، تماماً كمن يودّ لو أن الزمان الطويل يقف فاصلاً بين هذا العمل السيىء في ما يجسده من عواقبٍ سيّئةٍ، وبينه، لما يعانيه أمامه من حالة الضياع والتمزق والفرار.

وقد يوحي هذا التأكيد على الفاصل الزمني الذي يحول بينهم وبين عملهم السيّىء، في نتائجه السيئة، بدلاً من الفاصل المكاني، بأن الزمن لا يتأتى معه الحضور واللقاء، بينما يمكن ذلك في الفاصل المكاني، وهذا أبلغ تعبير عن الإحساس بالقلق والخوف والضياع، لأن الإنسان يريد للزمن أن يتباعد عنه حتى لا يلتقي به في كل حياته، فلا يعيش الكابوس الجاثم على صدره الذي يريد أن يطبق على كل وجوده ومصيره بعذاب الله.

* * *

ويحذركم الله نفسه

وتنتهي الآية بالحقيقة الإلهية التي يجب أن ينتبه إليها العباد، وهي عدم الاستسلام لحالة الاسترخاء التي يعيشها الإنسان في ظلّ العافية من البلاء في الدنيا، فيظنون أنّ الله سيتركهم بدون عقاب، وأنّ التمرّد على الله لا يستتبع مسؤولية، بل ليس هناك إلا العفو والمغفرة.

إن الآية، هنا، كالآية الأولى، تدعو الإنسان إلى الحذر من عذاب الله، بأسلوب ينطلق فيه التحذير من الله {وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} لأن الله يرحم حيث تكون الرحمة حكمة ومصلحة في موضع العفو والرحمة، ويعاقب بالاستحقاق حيث يكون العقاب حكمةً ومصلحة، في موضع النكال والنقمة. فما الذي يؤمن الإنسان من عذاب الله عند المعصية، إذا كانت القضية خاضعة لإرادة الله وحكمته التي لا يعلمها إلا هو...

ثم تختم الآية بإثارة المشاعر المشبعة بالرأفة والرحمة في علاقة الله بعباده، {وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ } فإنه يعاملهم بالرأفة والرحمة، حتى في الحالات التي يحذّرهم ويتوعّدهم فيها، لأنه يريد بذلك إصلاحهم وإيصالهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ليظل الإنسان مشدوداً إلى رحمة الله، حتى وهو ينتظر العذاب، فيقوده تفكيره إلى أن يتصور العذاب رأفةً، لو أمكنه أن يمتد بعيداً في هذا التصور والتفكير.

* * *

هل في الآية دلالة على تجسيد الأعمال؟

حاول بعض المفسرين أن يجد في هذه الآية وأمثالها من الآيات دليلاً على نظرية تجسّد الأعمال وحضورها في صورة معينة حسيّةٍ في يوم القيامة، بحيث يواجه الإنسان واقع عمله الصالح في الدنيا صورةً جميلةً مشرقةً أو نوراً يضيء له ذاته، كما يضيء له الطريق أمامه، بينما يواجه في عمله السيّىء، صورةً قبيحة منفّرةً أو ظلمةً تظهر على وجهه وتحيط به من كل جوانبه، فلا يرى أمامه أية علامة على الطريق.

وقد ارتكز في ذلك على أن الآية ظاهرة في أن الإنسان يجد عمله الحسن أو القبيح يوم القيامة ماثلاً بطريقة حسية، فإذا حدّق بعمله السيّىء ورأى صورته المشوّهة التي تبعث على النفور وتدعو إلى التقزّر، تمنّى لو أنَّ الزمن كله يكون فاصلاً بينه وبينه، ويلاحظ أنه لم يتمنّ زواله وغيابه، لأنه لا مجال لذلك باعتبار وجوده الحسّي الماثل أمامه.

وتلتقي هذه الآية ـ في هذه الدلالة ـ بقوله تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـ 8].

فإن هذه الآيات تنسب الحضور للعمل نفسه، كما تدل على أن فاعل الخير أو الشر يرى عمله الخيّر أو الشرير ماثلاً أمامه بنفسه.

فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] فإننا نستوحي منها أن الإنسان ـ في عمله ـ ينثر البذر في الأرض فينمو ويتكاثر كأية حبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبّة، فيكون حصاده في الآخرة مضاعفاً من خلال حرثه في الدنيا، وكما يجد الإنسان الحب الكثير من خلال زراعة الحبة الواحدة في الدنيا، كذلك يحصد الإنسان في الآخرة ما زرعه في الدنيا، ولكن مع بعض التبدل والتغيير الذي يتناسب مع الجو هناك. وقد يؤكد هذا الجوّ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8]. وقوله تعالى في حديث المنافقين مع المؤمنين: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13]، فيقال لهم: {ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} [الحديد: 13].

وهكذا تلتقي هذه الآيات في الظهور بأن العمل المتجسد هو الذي يبدو للإنسان بشكل حسّي، وربما يتحدث بعضهم عن الأفاعي والعقارب كنموذج لصورة الأعمال السيئة ونحو ذلك.

* * *

مناقشة الاستدلال على التجسيم

ونلاحظ على هذا الاستدلال أنه ناشىءٌ من الجمود على حرفية اللفظ في دلالته على المعنى الموضوع له، الذي هو المعنى الحقيقي للفظ، باعتبار أن إرادة غيره ـ على نحو التقدير أو المجاز ـ يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، وبذلك تتأكد النظرية المطروحة في المقام من خلال هذا النهج الحرفي لفهم القرآن وغيره.

ولكننا نلاحظ في هذه الاستعمالات المذكورة في التصور المطروح، أن الكلام واردٌ على سبيل الاستعارة التي تعبّر عن جزاء الأعمال برؤيتها، باعتبار أن الإنسان يتحسس عمله في حياته على مستوى النتائج السلبية أو الإيجابية، فيرى عمل الشرّ في النتائج الشريرة، كما يرى عمل الخير في النتائج الخيّرة، لأن العمل يختزن في داخله آثاره التي إذا شاهدها على صعيد الواقع فكأنه شاهد العمل نفسه. وليس المراد رؤية صورة العمل التي يتجسد فيها في النهاية بطريقة حسيّة، ولعلّ هذا التعبير واردٌ على نحو الجزاء في الدنيا، مع أنه لا معنى للتجسد في الدنيا ولا واقع له، ولا التزام به من قبل أحد، فقد يمكن لنا أن نطلق آيتي الزلزلة على واقع الأعمال في نتائجها على صعيد الواقع الدنيوي كما نطلقها على صعيد الواقع الآخروي.

وهكذا نفهم أنّ حضور العمل وتحضيره واردٌ بأسلوب الكناية، للإيحاء بعدم نسيانه وعدم الغفلة عنه بمرور الزمن، بل يجده الإنسان حاضراً أمامه في عملية الإحصاء الدقيقة التي يتضمنها الكتاب، وربما نستفيد هذا المعنى في قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَـذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، فإن الظاهر أن المراد حضوره في الوعي من خلال تذكره، وفي الحساب عندما يقف المرء ليحاسب عليه.

وهكذا نلاحظ الاتجاه الاستعمالي نفسه في الحديث عن حرث الآخرة في الدنيا، فإن المقصود به حصاد النتائج المترتبة على الأعمال الخيّرة، على هدى القول المأثور: «إنما يحصد ابن آدم ما يزرع»[2] والمثل المشهور: «من يزرع الريح يحصد العاصفة». وأمّا النور الذي يتمثل في وجوه المؤمنين والمؤمنات، فقد يكون ثواباً على أعمالهم، باعتبار أن الله يمنحهم إشراق الوجه والطريق من خلال ما قدموه من عمل، كما يمنحهم النعيم في الجنة، بل هو نوع من ألوان النعيم الجمالي التي يتحسس الإنسان لذتها الروحية والمادية في إحساسه بذاته كما يتحسس الجميل في الدنيا لذة جماله، وليس من الضروري أن يكون ذلك صورة العمل المتجسدة في الواقع. ولعلنا نستوحي ذلك من قولهم ـ في ما حكاه الله عن حديثهم معه ـ {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8]، فكأنهم يستزيدون ثواب العمل بزيادة النور الذي هو مظهر ذلك، ولو كانت المسألة مسألة صورة العمل، لكان هذا النقصان طبيعياً ناشئاً من الواقع المادي للعمل الذي يستتبع صورته العادية بشكل طبيعي.

وخلاصة الكلام، أن فكرة تجسيد العمل لا تتناسب مع طريقة التعبير البلاغي للأسلوب القرآني، كما أنها من الأفكار التي لا دليل عليها من الواقع الإنساني على هدى الحديث عن «صورةٍ دنيويةٍ للعمل، هي التي نراها، وصورة أخروية كامنةٍ في باطن ذلك العمل. وفي يوم القيامة، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة، يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأخروية، فيبعث على راحة فاعله وسكينته، أو شقائه وعذابه»[3].

إنّ مثل هذا الكلام، لو كان صحيحاً على مستوى كونه أمراً ذاتياً للعمل بحيث تكون له صورة داخلية كامنة في ذاته، لكان له ظهور في واقعه الحركي الذي تتمثل فيه صورة أعماله في ذاتياتها الطبيعية، بحيث يحسها الإنسان في وجوده، ولكننا لا نرى لذلك أثراً عنده إلا بلحاظ نتائجه السلبية أو الإيجابية في الحاضر والمستقبل، أو بلحاظ ذكرياته الذهنية، ليعيش إيحاءاته في الصورة التي يتذكرها من خلال الإحساس بآثاره. ومن الطريف أن القائل بهذا القول يرى ـ بناءً على ذلك ـ «أن أعمال الإنسان ـ وهي مظاهر مختلفة من الطاقة ـ لا تفنى بموجب قانون بقاء «المادة/الطاقة» وتبقى أبداً في هذه الدنيا، على الرغم من أن الناظر السطحي يظنها قد تلاشت».

إن هذا النوع من الاستنتاج يقترب من الخيال الذهني، لأن قصة «بقاء المادة/ الطاقة» قد تكون في جانبها الجوهري الحسي الذي يختزن الطاقة حتى بعد تحوّله إلى تراب، باعتبار أن التراب يختزن في داخله العناصر الذاتية فيه، ولكن ذلك قد لا يكون له واقع في الجانب العرضي الآني، وهو الحركة الطارئة التي هي عبارة عن معنى العمل الصادر من الإنسان، فإنها ـ تماماً ـ كمثل النفس الذي يتنفسه، والإحساس الذي يحسّه، ونحو ذلك مما يذهب بذهاب وقته من دون أن يبقى منه شيء إلا الذكرى، لأنه ليس متجذراً في الجسد، بل هو مظهر من مظاهر حركته الإرادية.

إننا لا ندّعي استحالة ذلك من خلال إرادة الله في خلقه مما يمكن أن يخلقه في الإنسان في الدنيا والآخرة خلقاً جديداً، ولكن الحديث عن بقاء «المادة/ الطاقة» لا يقتضي ذلك حتى بلحاظ ما ذكره استشهاداً بقوانين الفيزياء التي تقول «إن المادة تتحول إلى طاقة»، وذلك لأن «المادة» و «الطاقة» مظهران لحقيقةٍ واحدة، كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص، وأن المادة طاقة متراكمة مكثفة، تتحول إلى طاقة في ظروف معينة. وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادة، تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت. فإنّ هذا قد يصدق في المادة ـ الذات، لا المادة ـ العرض الذي لا وجود له في الواقع، بل هو أثر الطاقة الموجودة في المادة بشكل طارىء من خلال اقتضاء الحركة الإرادية ذلك، وليس هو المادة ـ الطاقة نفسها .

إننا نتصور أن الفكرة انطلقت في بُعدها القرآني من الاستغراق في حرفية النص بعيداً عن الأسلوب البلاغي الذي يتميز به القرآن في عملية التخييل الذهني الذي يوحي بالمعنى كما لو كان في عالم الحس، ليزيده عمقاً في الفكر، وليتمثله الإنسان في صعيد النتائج الحاسمة كما لو كان ماثلاً أمامه؛ والله العالم بحقائق آياته.

ــــــــــــ

(1) البحار، م:26، ج:72، ص:533، باب:87، رواية:98.

(2) البحار، م:26، ج:72، ص:468، باب:79، رواية:58.

(3) تفسير الأمثل، ج:2، ص:340.