تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 31 إلى الآية 32

 من الآية 31 الى الآية 32



الآيتــان


{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحيم* قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}(31ـ32).


* * *


مناسبة النـزول


جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ: قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) أنهم يحبون الله، فقالوا: يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.


وروى جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: وقف النبي (صلى الله عليه وسلّم) على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف، وهم يسجدون لها، فقال: يا معشر قريش، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام، فقالت قريش: يا محمد، إنما نعبد هذه حباً لله ليقربونا إلى الله زلفى، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم.


وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، أن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت، عرضها رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) على اليهود فأبوا أن يقبلوها.


وروى محمد بن إسحاق بن يسار عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم قالوا: إنما نعظّم المسيح ونعبده حبّاً لله وتعظيماً له؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم[1].


* * *


حبّ الله.. منهج عمل


إنَّ هذه الروايات التي تنوعت في الحديث عن المناسبة التي رافقت نزول هذه الآية، قد تمثل بعض الوقائع التي تتناسب في طبيعتها المضمونية مع الموقف الذي تؤكده الآية في إعطاء الميزان الدقيق للحب لله في معناه العملي، ولكن من الصعب أن نطمئن لها كمنطلقٍ لنزول الآية، لأن مثل هذا الخط الفكري المتصل بقضية التوحيد في دلالالته الفكرية والعملية، ينطلق من الأفق الواسع للعقيدة في كل تفاصيلها الفكرية والروحية والشعورية، في عملية تثقيف الناس بالجذور العميقة لحركة الإيمان في العقل والروح والشعور.


ومن الطبيعي أن تكون العلاقة بالله هي الأساس الذي ترتكز عليه الثقافة القرآنية، الأمر الذي يفرض أن تكون منطلقةً من موقع التأسيس الثقافي لا من موقع ردّة الفعل المناسبة التي تجعل للظرف الموضوعي دور المنطلق لحركة الفكرة التي تنتظره لتنزل وحياً على الناس.


ثم إن هذه المفردات المذكورة في الروايات لا تمثل حالةً غير عاديةٍ، بل هي أمرٌ طبيعيٌ في عقيدة اليهود أو النصارى أو المشركين أو غيرهم.


* * *


فهم محبة الله من ناحية عمليّة


وهذا أسلوب قرآني يوجّه المؤمنين للانسجام مع الخط العملي للإسلام في مفاهيمه وأحكامه، من خلال الإيحاء بالمضمون العاطفي للعقيدة ودلالته الروحية في حياة المؤمن، فإن الإيمان بالله لا يعبّر عن موقفٍ فكريٍّ مجرّدٍ من قضية وجود الله، بل يعبّر عن موقفٍ تمتدّ فيه الفكرة إلى عمق الشعور، فتتحول إلى إيمانٍ يستجلي عظمة الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه وكل صفاته، في إحساس حميمٍ يفيض بالحب العميق، ويتدخل بالروحية الفيّاضة، ما يجعل من العقيدة، علاقةً حميمةً بين العبد وخالقه، لا تستغرق في عمق الذات فحسب، بل تتحرك في واقع الحياة، لتعبّر عن نفسها في جوٍّ من المعاناة الروحية المتمثلة بالعمل الجادّ والانضباط الواعي والسير المتواصل في خط الله، لأن ذلك هو التعبير الدقيق عن صدق الحب. ولكن أين هو الخط الذي يتجسد فيه الحبّ بالعمل، ما دامت علاقتنا بالله لا تشبه العلاقات الإنسانية التي تخضع للمواجهة والمكالمة والتعليمات المباشرة، لأنها علاقة تتصل بالروح في حضور الغيب الذي يقتحم على الإنسان وجدانه وإحساسه بعيداً عن السمع والبصر؟!


إن الآية تطرح الجواب بشكل حاسم، فإن الخط هو خط الرسالة التي جاء بها الرسول ليُخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور، فهو الذي يتجسد فيه رضاه ومحبّته التي يبادل بها عباده محبةً بمحبةٍ، ومن الطبيعي أن محبّة الله لنا، ليست عاطفةً وانفعالاً، ولكنها الرحمة والرضا والمغفرة، كما أن محبّة الناس لله، في ما تريد أن تثيره الآية، لا بد من أن تكون إيماناً وعملاً وانسجاماً مع خطّ الرسالة والرسول، فإذا تحقّق ذلك منهم، باتباع النبي الذي يجسّد ذلك كله، فإن الله سيمنحهم حبّه ورضاه، وهو الرؤوف بعباده الرحيم بهم.


ثم تأتي الدعوة إلى إطاعة الله والرسول، كخطٍّ عريض للعمل، وللدخول في محبة الله، تأكيداً للفكرة من جانبها الإيجابي، توضيحاً لمدلولها الذي يجمع طاعة الله وطاعة الرسول في دعوةٍ واحدة، للتدليل على وحدتهما المضمونية في خطوات الإيمان، وبياناً للفكرة من جانبها السلبيّ المتمثّل بهؤلاء الذين يُعرضون عن دعوة الحقّ والطاعة، وينحرفون عن الخط المستقيم، وهم الكافرون، عقيدةً أو عملاً، فهؤلاء هم الذين لا يحصلون على محبّة الله في كل ما تمنحه المحبة من معاني الرضا والمغفرة، فإن الله لا يحب الكافرين.


* * *


حب الله باتباع رسالته


{قُلْ} يا محمد، لهؤلاء الذين يتحدثون عن حب الله بطريقةٍ ساذجة عاطفية، كما يحب أحدهم صاحبه أو فتاته من خلال معناه الشعوري المتحرك في الإحساس، نبضةً في القلب، وخفقةً في الإحساس، واهتزازاً في الشعور، فتكون المسألة لديه أن يعبّر عنه بالكلمة أو البسمة، أو الحركات الحميمة في تعابير الجسد نحو الآخر.


قل يا محمد بأسلوب تثقيفيٍّ يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويوحي بالفكرة في منطلقاتها الحقيقية، ويحوّل الحب لله إلى منهج عملي يتصل بالواقع الحي المتحرك المسؤول في علاقة الإنسان بالله في كل وجوده، في الخطوط العامة والخاصة، من خلال الرسول الذي يفتح للناس أبواب الله في دائرة شريعته ودينه.


{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} فكراً في العقل، وانفتاحاً في الروح، ووعياً في القلب، وإخلاصاً في الواقع، بحيث تكون القضية في عمق الذات، لا في سطح العاطفة، في الآفاق التي تؤكد المضمون في النفس. {فَاتَّبِعُوني} في رسالتي التي بلَّغتكم إياها، وفي الشريعة التي أمركم الله باتباعها، وأراد لكم أن تصوغوا إنسانيتكم في الحياة على صورتها، وفي المفاهيم العامة عن الإنسان والكون والحياة، وفي النهايات المصيرية التي تطل بكم على الدار الآخرة، فإنها ليست شيئاً ينطلق من صفتي الشخصية، ولا من مبادراتي الذاتية، فإني لا أمثل في موقعي عندكم إنساناً ينتسب إلى عائلةٍ وينتمي إلى مكان، بل إني أمثل الرسول الذي أرسله الله إليكم ليخرجكم من الظلمات إلى النور ويهديكم إلى الصراط المستقيم، ويفتح لكم أبواب الجنة بالدعوة إلى طاعته، ويغلق عنكم أبواب النار بالدعوة إلى البعد عن معصيته، فكلماتي كلماته، وأفكاري إيحاءاته، وطاعتي طاعته، ومعصيتي معصيته، والرادّ عليّ رادّ عليه، والمنفتح عليَّ منفتح عليه، لأن الرسول ـ في صفته الرسولية ـ لا يمثل نفسه، بل يمثل صاحب الرسالة، وهو الله، فإذا اتبعتموني في كل تعاليمه التي أعلّمكم إياها، فإنكم بذلك تؤكدون اتباعه، وأي حبٍّ أعظم من الذوبان في طاعة من تحب، وأيُّ إخلاص أكبر من الانحناء أمام إرادته، فإذا رأى الله منكم هذا الحب الواقعي المتمثل بالعمل الرسالي الخاضع لله ورسالاته {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، لأنه يحب الصادقين المتقين المحسنين الخاشعين، لأن صدقهم وتقواهم وإحسانهم وخشوعهم له دليلٌ واضحٌ على حبهم له، وبذلك يمحضهم حبّاً بحب.


وإذا كان حب العبد لله طاعةً له، فإن حب الله للعبد مغفرةٌ له ورضوان، هذا ما عبرت عنه الآية التالية {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} التي أسلفتم في غفلاتكم وضياعكم وحيرتكم في متاهات الطريق {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فالغفران شأنه والرحمة صفته، لأنه الرب الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم.


* * *


أطيعوا الله والرسول


{قُلْ} يا محمد، للذين تدعوهم إلى الله ليدخلوا في ساحة رحمته وغفرانه، فينتقلوا من الكفر إلى الإيمان ومن الهدى إلى الضلال {أَطِيعُواْ اللَّهَ} الذي خلقكم ورزقكم ومنحكم الحياة في وجودكم الحي المتحرك، وهو الذي يملك موتكم وبعثكم في يوم القيامة الذي يقودكم إلى الجنة في خط الطاعة {وَالرَّسُولَ} فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، وهذا هو الإيمان في الخط العملي، فإنه ليس كلمةً تقال، ولكنه إقرار بالقلب واعتراف باللسان وعمل بالأركان {فإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا عنك وعن دعوتك وتمردوا على الله وكفروا به، فلا تلتفت إليهم، واتركهم لضلالهم وكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم من قِبَلِك، ولن يحصلوا على حب الله لهم لأنهم لا يفهمون عناصر الحب الحقيقي الظاهر، لاسيما المنفتحة على حب الله {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} الذين ابتعدوا عن الفطرة وعاشوا في متاهات الضلال، ولم يعرفوا ـ في أجواء حقدهم ـ إلى الحب سبيلاً.


تلك هي بعض إيحاءات هذه الآيات في الأجواء العمليّة التي تتحرك فيها العاطفة المضادّة في مشاعرها المنحرفة، والعاطفة الملائمة في أحاسيسها الطبيعية، سواءٌ في ذلك في مسارها في حياة الناس أو في علاقتها بالله في النطاق الروحي والعملي. وبذلك نخرج بنتيجةٍ حاسمةٍ في انطلاقة الشخصية الإسلامية، حيث لا تجزيئية ولا ازدواجية ولا انقسام، بل هي الشخصية الواحدة التي يلتقي فيها الفكر بالعاطفة، وتمتزج فيها العلاقات الفكرية والروحية بالمواقف العملية في خطّ العلاقات الإنسانية، وتنطلق فيها المشاعر بالخطوط المتحركة في المجال الحياتي الذي يحكم الموقف والسلوك، وتتحوّل علاقة الإنسان بالله إلى علاقة حبٍّ من نوعٍ جديد لا يخضع للانفعال الساذج، بل يعيش مع الخط المستقيم الذي يواجه الإنسان بالنتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة.


* * *


التربية على حب الله


أمّا المعطيات التي يمكن الاستفادة منها في خطواتنا الإسلامية العملية، فيمكن أن نلخّصها في نقاط:


1 ـ التأكيد على المؤمنين بأن الفواصل الفكرية، تمثل عناصر أساسية في تكوين الشخصية وتميّزها، وتخلق في داخل الإنسان جوّاً عاطفياً جديداً، يحدد نوع العلاقات تبعاً لانسجامها مع الخطوط الفكرية وابتعادها عنها، من دون أن يعني ذلك عقدةً سلبيّةً ضدّ اللقاء في المواقف المشتركة أو في المصالح المشتركة في المجتمعات المتعددة الاتجاهات، لأن هناك فرقاً بين تحطيم الحواجز النفسية أمام الأفكار المتعددة، وبين تحطيمها أمام المواقف الموحّدة، فإن الأول يمثل ضياع خطوط الفكرة وتمييعها، بينما يمثّل الثاني حركة الفكرة ومرونتها وإيجابيّتها في خطواتها العملية نحو الهدف الكبير في مراحله المتنوّعة.


2 ـ الاستفادة من الأسلوب القرآني الوعظي الذي لا يقدِّم الفكرة مجرّدة عن دلالاتها الإيمانية، بل يحشد في داخلها وفي خطواتها، كل الأجواء التي يلتقي فيها الإنسان بالله واليوم الآخر في أساليب تحذيرية وتصويرية تتنوّع فيها منابع الإيحاء وموارده أمام الترغيب والترهيب، ما يجعل الفكرة في خطّها المستقيم أو المنحرف جزءاً من هذا الجو المليء بالروعة والرهبة، فقد نجد أن مثل هذا الأسلوب يساهم في تحقيق هدفين:


الأول: أن تبقى الفكرة مشدودةً إلى أجوائها الروحية، فلا تبقى مجرّد فكرٍ جامد يطرح القضية في ظروفها الموضوعية التي تبعدها عن مسارها الطبيعي...


الثاني: أن تظل الفكرة في حالة حركةٍ إيجابيةٍ في داخل الشخصية المؤمنة، فلا تتجمد في زاويةٍ من زواياها، بل تتسع لتشمل كل الجوانب، فتحرّك الفكر والمشاعر والخطى لتهزّها ـ بعنف ـ نحو الممارسة والمعاناة، فتبعدها عن الاسترخاء والسلبيّة التي قد تصيب المؤمنين من خلال بعض النوازع الخاصة.


3 ـ الإيحاء بأن العلاقة بين الله والناس هي علاقة حبٍّ من نوعٍ جديد، ومحاولة تربية الشخصية الإسلامية على أساس الحبّ لله، بعيداً عن الأجواء الذاتية التي تستغرق في الأفكار والعواطف في ما يشبه الغيبوبة، وقريباً من الأجواء التي تقترب بالإنسان من الأعمال التي تحقّق رضا الله، الذي هو تعبيرٌ إيمانيٌّ عن محبة الله للإنسان. وفي هذا الاتجاه، يمكن للتربية الإسلامية أن تصنع الشخصية الإنسانية الجديدة التي تهتز فيها المشاعر بالفكر والعمل، قبل أن تهتزّ بالتنهّدات والتمنيات.


وربما يصبح ذلك طابعاً للعلاقات الإنسانية التي تربط الشخصية بالآخرين، فتتحوّل إلى الروابط العملية الروحية بدلاً من الروابط العاطفية الذاتية، ويتجه الإنسان ـ من خلال ذلك ـ إلى علاقات أعمق وأقوى لا يحكمها المزاج بالانفعالات الطارئة، بل يسيطر عليها العقل بالخطوات الهادئة الحكيمة. وفي هذا الجوّ، يمكن للإنسان أن يشعر بأن الإيمان الواحد يستطيع أن يصنع العلاقات الأخويّة بين الناس الذين يجتمعون عليه، كما أراده الله سبحانه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].


ـــــــــــ


(1) أسباب النزول، ص:56.