تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 35 إلى الآية 37

 من الآية 35 الى الآية 37
 

الآيــات

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَة عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كالأنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(35ـ37).

* * *

معاني المفردات

{مُحَرَّرًا}: مطلقاً، بحيث لا يكون خاضعاً لأية سلطةٍ بشرية، سواء في ذلك سلطة والديه أو الآخرين، وخادماً أميناً لله.

{مَرْيَمَ}: في لغتهم ـ العابدة والخادمة ـ على ما قيل ـ ولهذا بادرت إلى تسميتها بذلك عند الوضع، فكأنها أعدّتها بالتسمية للعبادة.

{وَأَنبَتَهَا}: أنشأها ونمّاها كما تنبت البذرة الطيبة في الأرض الطيبة الخصبة.

{الْمِحْرَابَ}: محراب المسجد، قيل سمّي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، ويقال لكل محل من محال العبادة محراب.

{أَنَّى}: اسم استفهام عن الحال والمكان بمعنى أين وكيف لتضمّنه معناهما.

* * *

التطلعات الروحية لامرأة عمران

إن القصة هنا تختصر الحوادث، فليست هناك ملامح شخصية لهذه الإنسانة «امرأة عمران»؛ من هي؟ وما هو اسمها، وما هي صفاتها الذاتية؟ لأن ذلك كله لا يمثل شيئاً في ما تهدف إليه القصّة من الحديث عن الروحيّة التي كان يعيشها آل عمران وعن إخلاصهم العظيم لله، وعن النمط المميز من التفكير الذي كان يطبع وعيهم، فقد فقدت هذه المرأة زوجها بعد أن حملت منه، وربما كان إنساناً صالحاً يعيش في خدمة بيت الله، وبدأت تفكر في مستقبل هذا الولد، ولم تفكر تفكيراً ذاتيّاً أنانيّاً كما يفكر الكثيرون في الانتفاع بأولادهم من ناحيةٍ مادّية أو معنويّة في ما يكسبه من مال وفي ما يحصل عليه من جاه، بل فكرت في أن يكون خادماً لله، وهذا ما تعنيه كلمة {مُحَرَّراً} بحيث لا يكون خاضعاً لأية سلطةٍ بشرية، سواءٌ في ذلك سلطة والديه أو سلطة الآخرين. فهو لا يعمل لأحد ولا يدخل في خدمة أحد، بل يعمل لله ويخدم بيته، فيكون حُراً أمام الآخرين في ما يملكه من سلطان نفسه تجاههم وعبداً أمام الله باعتباره خادماً أميناً له، فنذرته لله، وكان هذا النذر مشروعاً في شريعتهم، وأرادت من خلاله أن تتقرب إلى الله، لأنها لا تملك شيئاً تقدّمه إليه غير ذلك. إنه نوع من القربان الحيّ المتحرّك الذي تقدمه الأمّ إلى خالقها ليظل في طاعته وخدمته... وابتهلت إليه أن يتقبله منها، فإنه السميع الذي يسمع دعوات عباده المخلصين له، العليم الذي يعلم إخلاصهم الروحي في عبادته.

وبقيت هذه المرأة الصالحة في أجواء هذه الروحيّة طيلة أيام الحمل... وجاء اليوم الموعود الذي انتظرته ليتحقق حلمها، وكانت المفاجأة غير المنتظرة، فالمولود أنثى، والأنثى لا تصلح للخدمة في بيت المقدس، لأنها من شؤون الذكور، فهتفت هتاف اليائس المعتذر الخائب، لتعلن أن الحلم لم يتحقق، ولم تكن بحاجة إلى هذا الإعلان، فإن الله أعلم بما وضعت، لأنه هو الذي خلقه وصوّره، وليس الذكر كالأنثى، فلو كان المولود ذكراً لكان شأنه أن ينتهي إلى خادمٍ بسيطٍ في بيت المقدس، ولكن هذه الأنثى التي وضعتها ستكون مؤهلة لكرامة الله، حيث تظهر ـ من خلالها ـ قدرته في ولادة عيسى منها من دون أب.

وبدأت المرأة تفكر من جديد ـ في ما توحي به الآية ـ فهي لا تريد أن تبتعد عن الله في أحلامها الروحيّة، فإذا لم يقدّر لها أن تلد ذكراً خادماً لبيت المقدس، وولدت ـ بدلاً منه ـ أنثى، فإنها تعود لتناجي الله في أمنياتها الجديدة، فقد أسمتها «مريم» ـ التي تعني العابدة في لغتهم، كما يقال ـ لتكون إنسانةً عابدةً لله مطيعةً له في ما يأمر به وينهى عنه، ثم طلبت من الله أن يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، فيجيرهم من وسوسته وتثبيطه ومكره وخدعه ومكائده، ليستطيعوا السير في خط الطاعة من دون أيِّ انحراف أو زلل.

إننا نكتشف في هذه المرأة إنسانةً تعيش العلاقة بالله كأروع ما تكون العلاقات وكأصفى ما تكون المشاعر، وكأعظم ما تتحرك الأفكار، فهي تفكر في مستقبل ذريتها من خلال الله، لتقرّبهم إليه وتبعدهم عن الشيطان.

واستجاب الله دعاءها الصادق {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} يمثل كل معاني الرعاية لها في الحاضر والمستقبل، {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} فهيّأ لها البيئة الصالحة التي تكفل لها النموّ الطبيعي، تماماً كما تنبت البذرة الطيّبة في الأرض الطيّبة الخصبة، فتحاول أن تعزل عنها كل الجراثيم التي تؤخر نموّها أو تعطّله. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} هذا العبد الصالح الذي وقف مع بقية المؤمنين وألقوا أقلامهم أيّهم يكفل مريم، لأن أباها كان ميّتاً، وخرجت القرعة باسم زكريا، الذي كان شيخاً جليلاً صالحاً مؤمناً، فهيّأ لها الجو التربوي الصالح الذي جعلها تؤمن بالله وتحبه وتعبده حتى بلغت المستوى العظيم الذي جعلها في المركز الذي يوحي بالمعجزة، فكانت تتعبد الله في المحراب ويأتي وقت الطعام، ويغلبها إحساسها بالجوع، وتأبى أن تفارق محرابها لتأكل، لأنها لا تريد أن تفارق مناجاتها الحبيبة لله، فيرسل الله إليها برزقه المتمثل بالطعام الذي تفوح منه الرائحة الطيبة كما تقول بعض الأحاديث، وقد يدخل عليها زكريا في بعض هذه الحالات فيفاجأ بذلك ويتساءل في ما حدثنا الله عنه {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا} من أين لك هذا؟ من الذي صنعه لك، مع أننا لم نقدم لك شيئاً من هذا القبيل؟ وكانت لا ترى في هذا شيئاً عجيباً؟ فهي تؤمن أن الرزق من الله، سواء جاء من خلال الأسباب العادية المألوفة أو من خلال الأسباب غير العادية، فلماذا التعجب والاستغراب {إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وهكذا تكاملت أمامنا الصورة المشرقة لهذه الأنثى التي لم تعش الحياة في جانبها الأنثوي الذي يتهالك أمام الملذات والشهوات، بل عاشت الحياة في جانبها الإنساني الإيماني الذي يوحي لها بالإخلاص لله في نفسها وفي علاقتها بالآخرين في ما يوحيه معنى عبادة الله، وبذلك حققت أمنيات تلك الأم الطاهرة التي أرادت من الله أن يجعل منها ابنة عابدة بعيدة عن رجس الشيطان.

* * *

ماذا نستوحي من الآيات؟

وقد نستوحي من هذه الآيات في تطلعات امرأة عمران وفي حركة القصة في ألطاف الله بالسيدة مريم:

1 ـ إن قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْنثَى} ليس وارداً في مقام تفضيل الذكر على الأنثى في القيمة الإنسانية الدينية، لتكون دليلاً على الفكرة التي تؤكد ذلك، بل الظاهر أنها واردة في المورد الخاص، وهو مسألة خدمة بيت المقدس التي كانت مخصصة للذكور دون الإناث من خلال التوزيع الطبيعي للمهمات بين الذكور والإناث، ما يعني توزيع الأدوار باعتبار أن كل واحد ميسر لما خلق له.

2 ـ إن هذه الأم الصالحة كانت واعيةً للدور الذي تقوم به المرأة في الحياة في حاجتها إلى أن تكون الإنسانة المؤمنة المتحررة من كل وساوس الشيطان الرجيم وحبائله، المنفتحة على طاعة الله وعبادته، لتشارك في المهمّات الموكولة إليها من موقع الأمانة الفكرية والروحية والعملية التي تجعلها أمينةً على بيتها وزوجها وأولادها ومجتمعها، تماماً كما هو الرجل في المهمّات الموكولة إليه، وهذا ما جعلها تتوجه إلى الله أن يعيذها من الشيطان الرجيم، ولم تقتصر في تمنياتها عليها بالذات، بل تطلعت إلى أن يعيذ ذريتها ـ في امتداد الأجيال في الزمن ـ من الشيطان، لتعيش في أحلامها الكبيرة هذا الاستشراف الإيماني للمستقبل، لتكون ذريتها ذرية صالحة، لأنها لا تريد لنفسها أن تشارك، ولو بشكل غير مباشرٍ، في إنتاج الجيل الفاسد الذي يكفر بالله وبرسله ويتبع غير سبيل المؤمنين من التقوى والاستقامة في الخط الصحيح.

وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في تطلعاتنا المستقبلية بما يتصل بأولادنا الذين نأمل أن يكونوا المؤمنين الصالحين، بحيث يرتبط ذلك بهمومنا واهتماماتنا العملية، ما يجعلنا نبتهل إلى الله في ذلك ونتحرك في اتجاه تحقيقه من الناحية العملية، فإن هذا الاهتمام الفكري والروحي بصلاح الأبناء في المستقبل يؤدّي إلى تحويل ذلك إلى واقعٍ حيّ في حركة التربية، والتماس الأساليب الصحيحة، ومتابعة الموقف بالحذر الدقيق الواعي الذي يراقب المؤثرات السلبية أو الإيجابية التي تترك تأثيراتها عليهم في البيئة التي ينتمون إليها،والمدارس التي يتعلمون فيها، والرفاق الذين يصاحبونهم، والدروس التي يتعلمونها، وغير ذلك، بينما يؤدي عدم الاهتمام بذلك إلى واقع اللامبالاة التي تترك الأمور بعيدة عن التخطيط الدقيق.

3 ـ إن الله تقبلها بقبول حسن، واستجاب دعاء أمها الصالحة، وأعاذها من الشيطان الرجيم بطريقةٍ واقعية عمليةٍ، وذلك من خلال تهيئة الجو الطيب الطاهر الذي يجعل نموّها نموّاً طبيعياً من دون تأثيرات سلبية منحرفة، وذلك من خلال كفالة زكريا الذي كان من الأنبياء الصالحين، وقد حضنها وتعهدها بالتربية والتوجيه والإعداد الروحي والعملي لتكون الإنسانة غير العادية في المستقبل من خلال الطاقات الروحية غير العادية التي تحركت فيها للحصول على محبة الله ورضاه في ممارساتها العبادية التي جعلتها موضع رعاية الله وعنايته بشكل غير عادي.

إن هذه الألطاف الإلهية التي أحاطت بمريم استجابةً لدعاء أمها الصالحة وابتهالها الصادق، قد تحدث لأيّ إنسان يفتح قلبه لله في الدعاء الصادق بأن يرعى أولاده ويعيذهم من الشيطان الرجيم ويهيّىء لهم من غامض علمه الفرص الجيّدة للحصول على الدرجات العالية في الإيمان والتقوى، فإن الله قد تكفّل لعباده المؤمنين باستجابة دعائهم بما فيه المصلحة لهم، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نلجأ إليه في مهماتنا الحاضرة واهتماماتنا المستقبلية في ما يتعلق بحياتنا وحياة أولادنا، ليبقى الأمل حيّاً في نفوسنا من خلال الثقة بالله، ويزول الخوف من قلوبنا مما ينتظرنا في المستقبل من التهاويل، اعتماداً على أمنه، فهو الذي يستجيب دعاء الراجي ويؤمن الخائفين.