من الآية 38 الى الآية 41
الآيــات
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِي وَالإِبْكَارِ}(38ـ41).
* * *
معاني المفردات
{هُنَالِكَ}: اسم إشارة للمكان البعيد، وقد يستعمل للزمان، ومعناه في الآية: عند ذلك.
{وَسَيِّدًا}: الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم، ولهذا قيل لكل من كان فاضلاً في نفسه سيداً، وغلب استعماله في شريف القوم.
{وَحَصُورًا}: الذي يحصر نفسه عن الشهوات، فلا يدعها تتحرك في مجال الإشباع والارتواء، ولهذا قيل في تفسيره: الذي لا يأتي النساء والذي يجتهد في إزالة الشهوة، والذي لا يدخل في اللعب واللهو والأباطيل، والممتنع عن مشتهيات النفس زهداً.
{بَلَغَنِي الكبر}: أصابني الشيب ونالني الهرم، فإن الكبر بمنزلة الطالب. ويروى عن ابن عباس أن زكريا يوم بُشّر بالولد كان ابن عشرين ومائة سنة، وامرأته بنت ثمان وتسعين سنة.
{ءَايَةً}: علامة دالة على شيء، وهو هنا، أنه لا يقدر على تكليم أحد ثلاثة أيام ويعتقل لسانه إلا بذكر الله وتسبيحه.
{عَاقِرٌ}: التي لا تلد، ويقال للرجل الذي لا يولد له، مشتق من العقر، وهو القطع لقطعه النسل.
{بِالْعَشيّ}: آخر النهار، وقال صاحب الكشاف: من حين نزول الشمس إلى أن تغيب[1].
{وَالإِبْكَارِ}: أوّل النهار. وقال صاحب الكشاف: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى[2].
* * *
زكريا يدعو.. والله يستجيب
وكانت هذه الكرامة العجائبية التي حدثت لمريم في بيت زكريا دليلاً واضحاً على أن الله يرعاها بعنايته وبرحمته، فهذه أجواء الرحمة تطوف في البيت، والفرصة سانحة أمام الحاجة الملحّة التي كان يعانيها زكريا، ويريد أن يدعو الله فيها، ولكنه ـ في ما يبدو ـ لا يجد الأمل الكبير باستجابة الدعاء، وهي الذريّة الطيّبة. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وهو يشعر أن الإجابة قريبةٌ منه لتحقق له حلمه الكبير الذي يكفل له الامتداد الذاتي والرسالي في خط الحياة الطويل، فإن الولد يمثل امتداد الظل لأبيه. وكان يفكر ـ كما فكرت امرأة عمران ـ بالذرية الطيبة التي تملأ الحياة خيراً وبركةً وهدى ونوراً ومحبة وسلاماً، ولم يفكر كما يفكر كثير من الناس بالذريّة التي تمثل حاجةً ذاتيةً تملأ فراغ الإنسان العاطفي وتحقق له زهو الامتداد والكثرة من دون هدف كبير على مستوى الحياة. {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ} ... واستجاب الله له دعاءه كأفضل ما تكون الاستجابة، وأراد أن يبشِّرّه بذلك في جوٍّ من الإعزاز والتكريم، فأرسل إليه الملائكة لتزف إليه البشارة بالوليد المنتظر الذي أراد الله له أن يكون في المستوى العظيم في الطهارة والنقاوة الرساليّة والروحيّة المتحركة في خط النبوة...
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} إنّ البشارة تتحدث عن الحلم المنتظر كما تتحدث عن الواقع الحيّ. إنها تعيّن له اسمه وصفته المميزة، التي جعلها الله «سِمةً» للأنبياء، فقد جاء مصدّقاً لما أنزل الله من رسالات، ولما أرسل من رُسل، وتلك صفةٌ لا يوصف بها إلاّ الذين يريد الله لهم أن يكملوا الطريق التي بدأها الآخرون من قبله، من الأنبياء الذين شقّوا للناس طريق الحق المستقيم...
وسيّداً لنفسه كما هو شأن عباد الله الذين يحكمون أنفسهم من خلال إيمانهم، ويسيطرون على شهواتهم من خلال عقولهم، ويسودون الناس في نطاق مبادئهم الحقّة، ولا يخضعون لأية سلطة غير سلطة الله في ما يريد وفي ما لا يريد، فهم أحرار أمام أنفسهم وأمام الآخرين، يملكون كلمة الرفض من موقع القناعة، ويملكون كلمة القبول من موقع الاختيار، وعبيد أمام الله الواحد لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
{وَحَصُوراً} حصر شهواته، فلا يدعها تتحرك في نطاق الإشباع والارتواء. وكان ذلك من القيم الكبيرة في ذلك الوقت، لما يدلّ عليه من الطاقة الروحية العظيمة التي تدفع الإرادة إلى الصلابة والتضحية {وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} الذين أراد الله لهم أن يتقبلوا وحيه بأرواحهم ويحملوها للناس رسالة وهدىً وإيماناً.
وقد أكد الله له في هذه البشارة، أن ذلك قد كان بكلمةٍ منه، والكلمة تعني القدرة التي لا تحتاج في تعلّقها بالأشياء إلى أسباب مألوفة مما تعارف عند الناس من أسباب.
ووقف زكريّا مدهوشاً مما يسمعه، وأخذته الحيرة من ذلك كله، هل هو في حلم أم في يقظة؟ هل هي كلمات الرحمن أم هي شيء من التخييل؟ إنه يفكر في الحواجز الطبيعية التي تحول بينه وبين ذلك، لقد مضى عليه مدة طويلة حتى بلغ مبلغ الشيخوخة وامرأته عاقر لا تحمل، ولم يرزق بولد، فكيف تحدث تلك المفاجأة بمثل هذا التفصيل. تحدث في ما يشبه الاستغاثة التي تريد أن تخرجه من الحيرة...
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} وجاء الجواب، إنك تتحدث مع الله الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، فهو الذي خلق الأشياء وخلق معها القوانين والأسباب الطبيعية، وهو القادر على أن يغيّرها في أيّ وقت يريد في ظل قوانين جديدة، فما قيمة الحواجز الطبيعية أمام قدرة الله المطلقة حتى يفكر فيها الإنسان المؤمن؟ {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}، {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، وكأن زكريّا قد اقتنع بذلك ورجع إلى ما يوحيه إيمانه من التسليم لله في كل شيء، ولكنه يريد آية.
واختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقال بعضهم إنها العلامة التي يعرف من خلالها أن ما سمعه هو من وحي الله، وذلك بأن يجعل الله له ما يشبه المعجزة، وأوحى الله إليه بأن الآية هي أن يُعتقل لسانه، فلا يستطيع أن يتكلم، ولا يملك أن يخاطب الناس إلا رمزاً مدة ثلاثة أيام، وقال بعضهم: إنها علامة الشكر على هذه النعمة غير المترقبة، فأوحى الله إليه كما أوحى إلى مريم بصوم الصمت الذي كان مشروعاً آنذاك، ولعلّ هذا هو الأقرب، لأنه لا معنى للارتياب بعد أن جاءه الجواب بالتذكير بقدرة الله، ولأن الظاهر أن الوحي كان بالامتناع الاختياري عن الكلام مع الناس وبذكر الله كثيراً وبالتسبيح الدائم بالعشي والإبكار.
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِي وَالإِبْكَارِ} ولكن هذا الذي ذكرناه، مما فهمناه من الآية على وجه الترجيح، لا يلتقي بما رواه العياشي في تفسيره عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: «إن زكريّا لما دعا ربّه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من الله، فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام، فلما أمسك ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله»[3]. فإذا صح هذا الحديث، فإن الآية تقتضي اعتقال لسانه إلاّ عن ذكر الله والتسبيح، مما يكون وجه جمع معقول بين الأمرين، والله العالم بحقائق آياته.
* * *
أمور لا بد من التوقف أمامها
وهناك أمور تستدعينا لأن نتوقف عندها:
الأمر الأول: إن العلاّمة الطباطبائي يستوحي من طلب زكريا الذرية الطيبة بعد ما رآه من أمر مريم وكرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها، أنه أراد ولداً له من الكرامة عند الله ما لمريم، وكانت استجابة الله له مطابقةً لما سأله، فوهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى وبأمه مريم(ع) ، فقد روعي فيه ما روعي فيهما من عند الله سبحانه، وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم، فالمرعيّ في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كله التقدم التام، لأن وجوده كان مقدّراً قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.
ثم استعرض الآيات المتعلقة بيحيى وعيسى وحاول اكتشاف بعض الخصائص المشتركة بينهما من خلال أن الله آتاه كما آتى عيسى الحكم صبياً، وعدّه حناناً من لدنه وزكاة وبراً بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى، وعدّه سيّداً كما جعل عيسى وجيهاً عنده، وجعله حصوراً ونبيّاً ومن الصالحين مثل عيسى، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأله ذريةً طيبةً وولياً رضياً عندما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله.
وفي قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّـلِحِينَ } دلالة على كونه من دعاة عيسى، فالكلمة هو عيسى المسيح، كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم[4].
ونلاحظ على ما ذكره أن الحديث عن التشابه بين يحيئ وعيسى في الصفات حديثٌ لا يخلو من طرافة وصواب، ولكن ليس من الضروري أن تكون المسألة منطلقةً من الحالة النفسية التي عاشها زكريا في ابتهاله لله في طلب الولد في أن يكون مشابهاً لمريم وابنها في الأجواء الغيبية المتصلة بالمولود، فإن ذلك ليس ظاهراً من الآية في هذه السورة، فقد تكون المناسبة هي إحساسه بالحاجة إلى أن تكون له ذرية يمتد بها نسبه ويتحرك فيها تراثه العائلي من آل يعقوب في خط الرسالة، لأنه رأى في مريم2 مثال الولد الصالح الذي يتمناه كل إنسان صالح، بحيث أحسّ بالوحشة من حالة العقم عنده الذي ينقطع فيها امتداده في الزمن بما تمثله الذرية من امتداد الإنسان في الحياة، فكانت كلمة {هنالك} تمثل اللحظة الزمنية التي تعاظم فيها شعوره بالحلم الكبير في أن يكون له ولد من دون دخول في التفاصيل الغيبية، فقد استغرق في المسألة في ذاتياتها، ولذلك كانت الاستجابة له الصدمة التي أعادته إلى واقعه في إحساس بشريته، فتساءل: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} ما يوحي بأن المسألة كانت نداء حاجةٍ لا انفتاحاً على أجواء تلك الحاجة في خصوصيات الجانب الغيبي فيها.
ثم ما علاقة عيسى بالموضوع في وجدان زكريا، ولم يكن عيسى قد ولد في ذلك الوقت، ولم تكن هناك أية أمارات توحي به حتى لدى أمّه الصدّيقة الطاهرة؟ فكيف أقحم العلامة الطباطبائي اسمه في الجوّ التفسيري للآية في تطلعات زكريا ليدخل في موضوع التشابه بين عيسى ويحيى في سياق الموضوع في الآية. هذا من جهةٍ.
ومن جهةٍ أخرى، فإن الحديث عن قصة زكريا في سورة مريم يوحي بأن القضية التي كانت تشغل ذهن زكريا هي الامتداد الذاتي في ولده، وهذا حقٌّ طبيعيّ له، والامتداد الرسالي في تراث آل يعقوب في الولد، النبي الذي يملك الولاية الشرعية، وهذا هو قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً *وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:4 ـ 6]. فإنه ظاهر في أن الدعاء كان يستنزل الغيب في أن يرزقه الله ولداً لا في خصوصياته.
وبكلمةٍ واحدةٍ، لقد كانت مريم ـ وحدها ـ في وجدانه، عندما دعا ربه، وكانت الحاجة ـ انطلاقاً من إحساسه بالفراغ عند رؤيته لمريم ـ لولد يرثه ويرث من آل يعقوب، ليكون وليّاً يلي من أبيه ما يليه الأبناء من شؤون آبائهم، وهذا ما يجعل البحث التفسيري في استيحاء الآية في غير محلّه بالرغم من طرافته.
الأمر الثاني: لقد تحدثت الآية عن يحيى أنه «حصور» كميزةٍ أخلاقية ليحيى، كما تحدثت آية أخرى بالصفة نفسها في الحديث عن عيسى(ع)، وقد فسرت الكلمة بأن الحصور «هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن تعففاً وزهداً. فهل الامتناع عن العلاقة الجنسية مع النساء في دائرة الزواج، يمثل قيمةً أخلاقيةً كبرى أو لا؟
الظاهر أن الكلمة لا تختزن في ذاتها معنى الامتناع عن الزواج، فهو سنة الله في الحياة التي أقام عليها امتداد الإنسان في حركة وجوده، كما جعله عنواناً للحياة الطبيعية في حاجاتها المتوازنة التي تطمئن إليها نفسه وتسكن فيها روحه، ولكن المقصود منها، هو القوّة الروحية التي تنطلق من صلابة الإرادة التي تتمرد على الشهوات، فتبلغ درجة المناعة الأخلاقية التي يملك فيها الإنسان نفسه، بحيث يحكم عليها ولا تحكم عليه ويقودها ولا تقوده، فلا ينجذب إلى الاندفاع في حاجاتها انجذاب من لا يملك القدرة على التماسك أمامها.
ولعلّ التفسير الأقرب لها أنه الذي يحصر نفسه عن الشهوات، فلا يدعها تتحرك على هواها، وربما كانت كلمة الحصر موحيةً بذلك، لأنها تحمل معنى المقاومة الإرادية التي تحصر الحركة الجسدية في دائرة معينة ولا تدعها تتفلت بعيداً عن الخط العملي، فهي مسألةٌ تتصل بحركة الإرادة في الذات ولا ترتبط بحركة الفعل السلبي في معناه. هذا من جهةٍ.
ومن جهةٍ أخرى، فقد يكون الامتناع عن النساء في ذلك الوقت قيمةً أخلاقية لمن يحمل المسؤولية الرسالية، باعتبار أن ذلك يجعله متفرغاً لله ولأداء الرسالة، فلا يشغله عنها شاغل الزوجة والأولاد، فكأنه يجعل حياته كلها لله بعيداً عن ضغط حاجاته الجسدية والعائلية، وليست القضية خطاً عاماً لكل الناس، وهذا ما جعل عيسى حصوراً، لأن مهمته غير عادية، كما جعل يحيى حصوراً للمعنى نفسه، فربما كانت هناك خصوصيةٌ للزمن وللشخص أو للدور، لأن النبوة لا تفرض ذلك، فقد رأينا أنبياء الله يأخذون بالزواج في حياتهم وقد يعددون الزوجة، كما في إبراهيم(ع)؛ والله العالم.
ثم إن الآيات توحي بأن الأنبياء يعيشون الحاجات الذاتية في مسألة الأولاد، كما يعيشها الآخرون، ويتطلعون إلى الولد الذكر كما يتطلع الآخرون، لا من جهة أن الذكورة تمثل القيمة الإنسانية الإيجابية بينما الأنوثة تمثل القيمة الإنسانية السلبية، بل لأن الذكر يتحمل المسؤوليات المتصلة بالدور الفاعل في عملية امتداد النسب وحركة الرسالة بما لا تتحمله الأنثى، بلحاظ طبيعة الواقع الاجتماعي أو التكوين النوعي للإنسان، وهذا ما يؤكد بشريتهم في الإحساس بما لا يبتعد عن القيمة.
وربما كان من مظاهر الضعف البشري الذي لا ينافي العصمة، هو هذه الصدمة ـ المفاجأة التي هزّت أعماقه بالبشارة بالولد وقد بلغا هو وامرأته ما بلغا من الكبر، وهو ما لا يتناسب مع واقعية إنجاب الولد، فقد انطلقت بطريقةٍ عفويةٍ كأية حالةٍ إنسانيةٍ في الظروف المماثلة، في الوقت الذي كان يعيش الثقة بالله من خلال إيمانه عندما دعاه أن يرزقه وليّاً يرثه ويرث من آل يعقوب، لكنها الحالات الإنسانية اللاشعورية تماماً كما هي التقلًّصات الجسدية التي تحدث للإنسان عند حصول أية حالةٍ من الخوف أو الضعف أو الرغبة أو الرهبة من دون اختيار له، ثم ينطلق الوعي الفكري أو الروحي أو الشعوري لينظِّم حركة هذا الشعور، وليعالج الصدمة، ويستكين للإيمان الواعي الذي يفلسف الأمور ليرجعها إلى أسبابها وطبيعتها في قدرة الله في الأشياء التي تملك في ذاتها قابلية حركة القدرة فيها.
ولعل هذا هو تفسير العجب الذي استولى على زكريا مع إيمانه العميق بالقدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء، والذي كان وراء الدعاء الخاشع الصادر منه لله.
وليس من الضروري أن ندخل في تفسير القضية بأنه يريد أن يعيش حالة الشهود والمشاهدة، لأن الإيمان يمثل حالة في الفكر، فلا يملك العمق الشعوري الذي ينزل إلى أغوار الذات فيهزّها في لهفة الوعي الحسيّ، بينما يمثل الشهود حالة الطمأنينة الروحية والسكينة الشعورية التي لا يعرض عليها القلق مهما كان ضعيفاً، وهذا ما لاحظناه، كما يقول أصحاب هذا التفسير، في تجربة إبراهيم(ع) الذي لم يكتف بإيمانه بالمعاد من ناحيةٍ فكريةٍ، فأراد أن يشاهد مظهر الخلق ليحصل على المستوى الأعلى للإيمان في الطمأنينة القلبية. وهذه حالة طبيعية لكل إنسان، أن يعيش في فكره التساؤل عن تفسير المعجزة الخارقة بالطريقة الحسية.
إننا نلاحظ على هذا، أن هناك فرقاً بين تجربة إبراهيم وموقف زكريا، فقد كان إبراهيم يريد أن يستزيد في ثقافته الإيمانية التي حصل عليها من خلال تأملاته الفكرية بالحصول على مضمونها الحي من خلال الحسّ، وهكذا كانت القضية لديه قضيةً ثقافية ليس فيها أيُّ مظهرٍ للصدمة التي تطلق السؤال في أسلوب الاستغراب، كما فعل زكريا الذي كان يطرح الموانع الحسية التي تدفعه إلى استبعاد القضية، ولم يكن في أجواء التساؤل الثقافي الهادىء الذي يريد أن يضيف إلى عمله عنصراً جديداً يزيد في الطمأنينة الإيمانية.
ولا ينافي هذا عصمة الإيمان لدى الأنبياء. والظاهر أن زكريا فهم بحسب المضمون القرآني، أنَّ العصمة تضادّ الانحراف الفكري والعملي ولا تنافي الحالات المرتبطة بالتركيب النفسي العصبي الذي يهتز للمفاجأة بفعل الصدمة غير المنتظرة، ولكنه يرجع إلى القاعدة الإيمانية من خلال الألطاف الإلهية التي تحيط به.
ولعل التجربة الإبراهيمية التي تمثلت في البشارة التي حملها الملائكة إليه بالغلام الحليم، حيث كان ردّ فعله الأولي رد فعل زكريا نفسه، كما حدثنا الله عن ذلك في القرآن الكريم في سورة الحجر في قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 51 ـ 56].
وجاء في سورة الذاريات قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلَيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: 28 ـ 30].
فنحن نجد النبي إبراهيم(ع) يخضع لعنصر المفاجأة الغريبة في طبيعة مضمونها الذاتي بطريقة عفوية من خلال الضعف البشري العادي، ليعود ـ في يقظة الوعي الشعوري ـ إلى الانفتاح على القدرة الإلهية التي تجعل الأمل حيّاً حتى في المورد الذي يكون الشيء فيه مستحيلاً عادياً، فلا يستسلم لأي يأس، لأن الذين يخضعون للقنوط هم الضالّون لا المهتدون، فإنهم يقفون مع الله في ما يقوله ويفعله في شؤون عباده، من دون أن يكون في ذلك أية منافاة للعصمة وللدرجة العالية في نبوّته.
الأمر الثالث: جاء في مجمع البيان أنه ذهب جميع المفسرين وأهل التأويل أن المراد بقوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} أنه مؤمن بعيسى ومصدق له، فقد أراده الله أن يكون المؤيد لعيسى(ع)، باعتبار معرفة الناس له وتصديقهم به، وقد جاء التعبير عن عيسى بأنه كلمة الله، ما يجعل هذا اللفظ بمثابة الاسم المختص به كما في الآية الاتية في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 45]؛ وقوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171].
ولكن أبا عبيدة ـ على ما حكي عنه ـ قال: معناه بكتاب الله، كما يقولون: أنشدت كلمة فلان أي قصيدته وإن طالت، وإنما سمّي المسيح كلمة الله لأنه حصل بكلام الله من غير أب، وقيل: إنما سمّي به لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله.
ويذكر صاحب مجمع البيان ـ تأييداً للقول المشهور ـ أن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر وكُلِّف التصديق به، فكان أوّل من صدّقه وشهد أنه كلمة الله وروحه، وكان ذلك إحدى معجزات عيسى(ع) وأقوى الأسباب لإظهار أمره، فإن الناس كانوا يقبلون قول يحيى لمعرفتهم بصدقه وزهده[5].
ولكننا نلاحظ على ذلك أن أمر عيسى، في ولادته العجائبية وفي معجزاته الخارقة، أكثر قوةً من أمر يحيى، لاسيما أن يحيى لا يزيده كثيراً في العمر بالدرجة التي يتقدم فيها اجتماعياً ليكون عيسى بحاجةٍ إليه في تأييد رسالته ودعم موقفه.
كما أنّ الحديث عن عيسى لم يكن معروفاً في تلك المرحلة، لأنه ليس وارداً في الذهنية العامة، حتى أن والدته السيدة مريم كانت تجهل كل شيء من أمره، ولذلك كان حملها وولادتها وكل ما حدث لها يمثل الصدمة العنيفة التي هزت كل كيانها، ولذلك فإن الكلام عن تصديقه بعيسى ـ كلمة الله ـ ليست له أية مناسبة واقعية في وجدان زكريا، ولهذا لم يثر ذلك أيّ سؤال في نفسه عن طبيعة الشخص الذي يصدقه ولده بصفة أنه كلمة الله، ولهذا، فإننا نستقرب أن المقصود من{بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} الكلمة الإلهية الرسالية المتمثلة بكتاب الله وهو التوراة أو نحوها، وقد درج التعبير في القرآن بكلمة الله بمعنى وحيه أو رسالته، كما في قوله تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِي الْعُلْيَا} [التوبة: 40]، وعن كتبه ورسالته بكلمات الله كما في قوله تعالى: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24]، وفي قوله تعالى في حديثه عن مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} [التحريم: 12]. فلا مانع من أن يكون المراد بتصديق يحيى بكلمة من الله، الوحي النازل من الله على رسله بكلمته لعباده، لأنه دليل على اختصاص اللفظ بعيسى(ع)، باعتبار أن اطلاق الكلمة عليها جاء من خلال المعنى العام لخصوصية ذاتية، بلحاظ أنه خلق بكلمة الله المتمثلة بإرادة التكوين من خلال كلمة «كن» المستعملة في القرآن تعبيراً عن ذلك، كما في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، وهذا ما يجعلنا نتابع الكلمة في مضمونها ـ مفرداً كانت أو جمعاً ـ بحسب مناسباتها السياقية التي قد تحدد معناها.
وهناك ملاحظة أخيرة، وهي أن كلمة التصديق التي ينطق بها نبي لرسالة نبيٍّ تأتي ـ غالباً ـ للتعبير عن تصديق رسالة سابقة، أو كتاب متقدم، كما في قوله تعالى: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، والمقصود به ما سبقه من الكتب الإلهية، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جاءهمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 101]، أي من التوراة، وقوله تعالى في حديث عيسى(ع): {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:50]، وعلى ضوء هذا، فلا بد من أن يكون قوله تعالى عن يحيى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} منطلقاً من تصديقه بكلمة الله الرسالية في وحيه؛ والله العالم بحقائق آياته.
ــــــــــ
(1) تفسير الكشاف، ج:1،ص:429.
(2) م.ن، ج:1، ص:429.
(3) تفسير الميزان، ج:3، ص:213.
(4) م.س، ج:3، ص:204 ـ 205.
(5) انظر: مجمع البيان، ج:1، ص:561.
تفسير القرآن