تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 45 إلى الآية 47

 من الآية 45 الى الآية 47

الآيــات

[إذا قالت الملائكة يا مريـم إنَّ اللّه يُبشرك بكلمة منه اسمُهُ المسيح عيسى بن مريـم وجيهاً في الدُّنيا والآخرة ومن المقرَّبين * ويُكلِّم النّاس في المهد وكهلاً ومن الصالحين * قالت ربِّ أنَّى يكونُ لي ولدٌ ولـم يمسَسني بشرٌ قال كذلك اللّه يخلق ما يشاءُ إذا قضى أمراً فإنَّما يقولُ لهُ كُن فيكُونُ] (45ـ47).

* * *

معاني المفردات:

[بكلمة منه]: بإرادة اللّه التكوينية المعبّر عنها بالأمر الإلهي في كلمة (كن)، لما لولادته من خصوصية عدم وجود المقتضى وهو الزوج والاقتراب.

[المسيحُ]: عيسى(ع)، قيل: سمّي بذلك لأنَّه كان مسيحياً باليمن والبركة، أو لأنَّه مُسح بالتطهير من الذنوب، أو لأنَّه كان يمسح ذوي العاهة فيبرأون، إلى ما هناك من وجوهٍ أخرى. والأقرب أنَّ كلمة المسيح معرّبة، وتعني المبارك أو الملك أو ما شبه ذلك، قال تعالى: [وجعلني مباركاً أين ما كنت] (مريـم:31) ومهما كان المعنى الأصلي في اللغة، فإنَّ الكلمة تحوّلت إلى علم على السيِّد المسيح عيسى بن مريـم (ع)، وغلبت عليه بحيث لـم يلتفت أحدٌ إلى المناسبة بين المعنى اللغوي وبينه.

[وجيهاً]: ذا جاه وقدر وشرف ومنـزلة في الدُّنيا من خلال واقعه الرسالي، وفي الآخرة جزاءً لجهاده وعطائه. ويُقال: له وجاهة عند النّاس وجاه، أي منـزلة رفيعة. والوجيه الكريـم على من يسأله فلا يردّه لكرم وجهه عنده، خلاف ما يبذل وجهه للمسألة فيردّ، ويطلق الوجه على صدر الشيء وأوّله، أو على الشيء الذي يتوجه إليه.

[المهدِ]: ما يهيّأ للصبي من الفراش، ويمهّد لنومه.

[وكهلاً]: الكهل: ما بين الشاب والشيخ، والكهولة: ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه تاماً وقوياً. يُقال: اكتهل النبت إذا طال وقوي والمرأة كهلة. وقيل: الكهولة بلوغ أربع وثلاثين سنة، ومنه الكاهل ما فوق الظهر إلى ما يلي العنق.

* * *

وجود يمثِّل إرادة التكوين:

[إذا قالت الملائكة يا مريـم إنَّ اللّه يُبشرك بكلمة منه اسمه المسيحُ عيسى ابن مريـم].

... وتأتي البشارة ـ المفاجأة من اللّه على لسان الملائكة بالإنسان ـ الكلمة، ولكنَّها ليست كلمةً من نوع الحروف التي تتألف منها الكلمات، بل هو الوجود المتفجّر بالحياة، النّابض بالحركة، الذي يمثِّل إرادة اللّه في التكوين المعبّر عنها لإيضاح الفكرة بالأمر الإلهي في كلمة «كن»، وبذلك تتحوّل الكلمة ـ الإرادة إلى إنسان اسمه المسيح عيسى بن مريـم (ع). وإذا كانت الوجودات كلّها خاضعة لإرادة التكوين، فإنَّ خصوصية الوجود هنا أنَّها لا تخضع للأسباب الطبيعية في ولادة الأشياء، بل هي مرتبطة بالإرادة بشكلٍ مباشرٍ أو غير مألوف؛ الأمر الذي يجعل نسبته إلى الكلمة أقرب من نسبة سائر الأشياء إليه. أمّا كلمة المسيح فالأقرب أنَّها معرّبة، وتعني المبارك أو الملك أو ما يقرب من ذلك، وذلك ما ينقله المفسِّرون، وربَّما يوحي بذلك ما ورد في آية أخرى، في ما حكاه اللّه عن قول عيسى: [وجعلني مباركاً أين ما كُنتُ] (مريـم:31) وقد نُسب إلى أمّه للإيحاء بأنَّه بلا أب.

ويثير المفسِّرون ـ في هذا المجال ـ مشكلة الحديث عن الملائكة بصيغة الجمع مع أنَّ سورة مريـم تتحدّث عن ملك واحد، وذلك في قوله تعالى: [فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشراً سوياً] (مريـم:17)، ولكن هذه الآية لا توحي أنَّه كان وحده، فربَّما كان هو الشخص الرئيس والآخرون معه كأتباع وربَّما كانت هناك وجوه أخرى تبرّر ذلك مما لا نطيل الحديث فيه.

ويفيض الملائكة الحديث عن صفاته، للإيحاء بأهميّة هذا المولود وما يحقّقه للحياة من خير وبركة، وما يمنحه لأمّه من شرف ورفعة: [وجيهاً في الدُّنيا] فستكون له الوجاهة في الدُّنيا من خلال موقعه الرسالي في ما يثيره من قضايا ومواقف، ومن خلال إيمان النّاس بنبوّته ورسالته، وتبجيلهم وتقديسهم له، [والآخرة] وسيحصل على الوجاهة في الآخرة في ما يرفعه اللّه من درجات جزاءً لجهاده وتضحياته وآلامه القاسية التي تحمّلها في سبيل اللّه [ومن المقرَّبين] وسيكون من المقرَّبين إلى اللّه، انطلاقاً من قربه الروحي والفكري والعملي إلى اللّه في خشوع العبادة وخضوع العمل.

وتتجسّد المفاجأة أمامها وتأخذها الدهشة حتّى لا تكاد تصدّق ما تسمع من الملائكة، فهم يقولون لها: [ويُكلِّم النَّاس في المهدِ] ويحدّثهم ويُحاورهم، مما لـم يألفه النّاس في أولادهم... ويسترسلون في الحديث، كأنَّهم لـم يتحدّثوا بشيء غريب يفرض التوقّف على المتكلّم والسامع من أجل الخروج من جوّ الدهشة والغرابة: [وكهلاً] فإنَّه سيعيش إلى عمر الكهولة، [ومن الصَّالحين] يعيش حياةً متحرّكة مع النّاس، وسيبقى رمزاً للصَّلاح في خطواته وأعماله كما يعيش الصَّالحون في الحياة.

وتقف العذراء(ع) للتساؤل، بعد أن عاشت غيبوبةً روحيّةً لذيذةً خاشعةً مع هذه البشارة الكبيرة ومعناها. وكيف يكون لها ولد؛ وهي بعد لما تتزوّج ولـم يمسّها بشرٌ لتتحقّق من خلال ذلك الوسيلة الطبيعية لولادة هذا المولود العجيب؟ [قالت ربِّ أنَّى يكونُ لي ولدٌ ولـم يمسَسني بشرٌ] في مناجاةٍ تشبه الاستغاثة وتتوسّل في جلاء غموض هذا السرّ. ويأتيها الجواب من اللّه: [كذلك اللّه يخلُقُ ما يشاء] فليست هناك حدود للوسائل التي تُحقّق الوجود، لأنَّ مشيئته هي كلّ شيء في الخلق، فإذا أراد الشيء وُجِدَ، فليس هناك إلاَّ مشيئته فهي سرّ الوجود وسرّ الحياة [إذا قضى أمراً فإنَّما يقول له كُن فيكون]. وترجع إلى إيمانها في هدوء واستسلام، ولكنَّها تظلّ في جوّ الأسرار الذي يحيط بها من كلّ جانب، فهي تؤمن أنَّ القضية كلّ القضية هي مشيئة اللّه، ولكنَّها لـم تعرف ـ حتّى الآن ـ كيف تتحرّك المشيئة في ولادة هذا المولود العجيب.

* * *

إشكالات وملاحظات:

وهنا ملاحظة، وهي أنَّ الآية تحدّثت عن امتداد عمر عيسى (ع) إلى مرحلة الكهولة، ولكن الأناجيل تصرّح أنَّه لـم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، وقد حاول البعض أن يتحدّث عن بلوغه السنّ المذكورة بعد نزوله من السَّماء، ويتحدّث بعضٌ آخر عن أنَّ عيسى (ع) بلغ أربعاً وستين سنة خلافاً للأناجيل.

وربَّما أوّل بعض المفسِّرين الآية بأنَّ المراد بها هو أنَّ عيسى (ع) يكلّم النّاس في المهد بالطريقة التي يكلّمهم فيها كهلاً، لأنَّ قضية تكليمه للنّاس في المهد ـ وهي مرحلة السنة الثانية ـ ليس أمراً عجيباً، لأنَّ أغلب الأطفال يتكلّمون بطريقة طفولية معينة، ولكن العجيب أن يكلّمهم كلاماً تاماً يعتني به العقلاء من النّاس كما يعتنون بكلام الكهل، فهذا هو الخارق للعادة.

وقد يُلاحظ على ذلك بأنَّ عيسى (ع) تكلّم بكلامٍ مفيد بالطريقة العقلانية شكلاً ومضموناً في أوّل ولادته، وذلك هو قوله تعالى في سورة مريـم: [فأتت به قومها تحملُهُ قالوا يا مريـم لقد جئتِ شيئاً فرياً * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمُّك بغياً* فأشارت إليه قالوا كيف نُكلِّم من كان في المهد صبياً] (مريـم:27ــ29).

وهناك ملاحظة أخرى، وهي أنَّه قد يُقال: إنَّ اللّه عبّر بكلمة «يخلق» هنا، بينما جاء التعبير في قصة زكريا بقوله: [كذلك اللّه يفعل ما يشاء]، فما هو وجه الاختلاف؟

وقد يُجاب بأنَّ حالة زكريا ليست حالةً غير طبيعية في علاقة المسبب بالسبب، لأنَّ الولادة ـ على تقديرها ـ تحصل بالطريقة الطبيعية للتناسل، لكن هنا مانعاً يمنع من فعليتها وهو الشيخوخة والعقم، أمّا حالة مريـم فإنَّها تخالف طبيعة القانون العام لولادة الإنسان لأنَّها بلا زوج، ما يجعل القضية لديها قضية «خلق»، بينما هي في قضية زكريا قضية «فعل» من خلال رفع المانع، ولكنَّ في هذه الملاحظة تأمّلاً، لأنَّ مسألة الخلق صادقة على وجود الإنسان، سواء كان ذلك بالطريقة الطبيعية في القانون العام أو بالطريقة الخارقة للعادة، فقد عبّر اللّه عن خلق آدم (ع) وعيسى (ع) كما عبّر به عن خلق الإنسان بالطريقة العادية، وذلك هو قوله تعالى: [إنَّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثُمَّ قال له كن فيكون] (آل عمران:59).
    
كتب متعلقة بالحج
كتاب صحيح الدعوات
شرح أدعية الصحيفة السجادية
شرح دعاء كميل