تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 50 إلى الآية 51

 من الآية 50 الى الآية 51

الآيتـان

[ومصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ولأحلَّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم وجئتكم بآية من ربِّكم فاتَّقوا اللّه وأطيعون* إنَّ اللّه ربِّي وربُّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ] (50ـ51).

* * *

معاني المفردات:

[ومصدِّقاً]: قال في مجمع البيان: «الفرق بين التصديق والتقليد أنَّ التصديق لا يكون إلاَّ في ما تُبرهن عند صاحبه، والتقليد قد يكون في ما لا يتبرهن، ولهذا لا نكون مقلّدين للنبيّ (ص) وإن كنّا مصدّقين له»[1].

[ولأحلَّ]: التحليل: هو الإطلاق للفعل بتحسينه.

[حُرِّمَ]: التحريـم: هو حظر الفعل بتقبيحه.

[مستقيم]: الاستقامة: الاعتدال وهي خلاف الاعوجاج.

* * *

حلقة في سلسلة مباركة:

... ويُتابع عيسى حديثه في التدليل على طبيعة مهمته ورسالته، فيعتبرها ـ كما هي عند اللّه ـ حَلَقة في السلسلة المباركة النبوية.

[ومصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة] فإنَّ النبوّة الجديدة لا تلغي النبوّة القديمة، لأنَّ النبوات ليست منطلقة من شخص النبيّ في ذاتياته الفكرية، بل من وحي اللّه الذي يشرّع للحياة كلّها وللإنسان كلّه، في الخطّ العام الذي تتكامل فيه الرسالات وتتوزع فيه الأدوار، إلاَّ ما يختص بمرحلة النبيّ في الزمن الذي يعيش فيه النّاس الذين أرسل إليهم والأوضاع التي قد يعرض عليها التغيير؛ وهكذا كان كلّ نبيّ مصدّقاً لمن قبله في رسالته وفي الكتاب الذي أنزل عليه، ومنهم النبيّ عيسى (ع).

... فهو أحد الأنبياء الذين اختصهم اللّه برسالاته، فقد جاء بعد موسى (ع) وأقرّ الكتاب الذي أنزل عليه من التوراة وصدّق به، لأنَّ أحكامه لـم تنسخ ـ في الأغلب ـ ولأنَّ مفاهيمه لـم يتجاوزها الزمن فلا تحتاج إلى تجديد... وفي ضوء ذلك، فإنَّ موقفه الرسالي لا يمثِّل تحدّياً للمفاهيم والأحكام التي يؤمن بها هؤلاء الذين بُعث إليهم من بني إسرائيل، لأنَّه تركها على حالها، ما عدا بعض الأحكام التي حُرّمت عليهم كنتيجةٍ لتمرّدهم، فأراد اللّه أن يؤدبهم بالتشريع الصعب الذي يثقل عليهم مسؤولياتهم، حتّى إذا انطلق الزمن في مدارٍ جديدٍ، رفع اللّه عنهم ذلك كلّه ببركة هذا الرسول الجديد الذي جاء رحمة لهم وبركة عليهم: [ولأحلَّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم وجئتكم بآية من ربِّكم].

وهكذا كانت الرسالات السَّماوية تدفع الإنسان إلى السير مع خطّ الرسالة في ما أوحاه اللّه لرسوله من كتاب، وإلى السير مع الرسول في ما يلهمه اللّه من شؤون الحركة الإسلامية في قضايا النّاس اليومية في ما يأمرهم الرسول به أو ينهاهم عنه، مما يحدث لهم في كلِّ أمورهم...

ويتصاعد الأسلوب ليضع قضية الإيمان باللّه وعبادته في نطاقها الطبيعي، فهي ليست مجرّد فكرة طارئة، تأخذ جانباً من جوانب الفكر كأيّة فكرة أخرى، بل هي خطّ للحياة يفرض نفسه على الفكر والممارسة والشعور.

[فاتَّقوا اللّه وأطيعونِ] وهكذا دعاهم إلى تقوى اللّه في الوقوف عند حدوده من خلال ما أوجبه وما حرّمه عليهم، وإلى طاعته في ما يُريد أن ينظّم لهم من حياتهم في مسارها الجديد الذي يخلق لنا أوضاعاً جديدة في حركة الإيمان نحو أهدافه الكبيرة في الحياة. فإنَّ التَّقوى والطاعة للّه مظهر الاعتراف بالربوبية الشاملة في تأكيدها المضموني الإيحائي على العبودية الخالصة في خضوع الإنسان لربِّه، وهما الخطّان اللذان يتحرّك فيهما المبدأ العام في امتداده الحركي، كما تنطلق فيهما المفردات التفصيلية التي ترتبط بالعقيدة كلّها في مضمونها العملي: [إنَّ اللّه ربِّي وربُّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ].

فإنَّ الإيمان بربوبية اللّه للنبيّ وللنّاس الآخرين يمثِّل بدايةً للتصوّر والحركة من خلال ما يعنيه الإيمان من حركة الحياة على الصراط المستقيم، لذلك فإنَّ الدعوة إليه هي دعوة للاستقامة على المنهج الإيماني الحقّ في بداية المرحلة ونهايتها.

* * *

من وحي الآية:

وهذا ما يجب أن نستوحيه في المنهج التربوي الذي يطرحه العاملون في سبيل اللّه، من أجل بناء الشخصية الإسلامية والقاعدة الإسلامية الواسعة الممتدة في الحياة؛ فإنَّ عليهم أن لا يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون، الذين لا يرون في الإيمان إلاَّ حالةً خاصّةً من حالات النفس الإنسانية التي لا يستوقفها ذلك كثيراً... فلا قيمة كبيرة له خارج هذا النطاق، بل هو الحياة كلّها في حالاتها المتنوّعة وفي مواقفها المختلفة، فإنَّ القضية بين خيارين وبدايتين؛ فإذا كانت البداية هي الاعتراف بربوبية اللّه الواحد، فإنَّ حركة الحياة تتجه إلى الآخرة عبر الحياة الدُّنيا، في خطٍّ مستقيم تحكمه القيم الروحية، وتنطلق في تصوّر متوازن لا تتعدّد فيه العبادة تبعاً لتعدّد الآلهة، بل يتوحد فيه الإله وتتّحد فيه العبادة. وإذا كانت البداية هي إنكار الإله في وجوده وفي وحدانيته، فإنَّ حركة الحياة تتثاقل إلى الأرض لتشدّها الأرض إلى شهواتها وغرائزها وأطماعها، وتدخل بها في منعطفاتها الضاربة في خطوط التّيه، وتتنوّع فيها العبادة ليعيش الإنسان فيها عبوديته لكلّ شيء من حوله، ويفقد بذلك حريته في الموقف وفي الإرادة والحياة.

ــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:754.