من الآية 52 الى الآية 56
الآيــات
[فلمّا أحسَّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى اللّه قال الحواريُّون نحن أنصار اللّه آمنا باللّه واشهد بأنَّا مسلمون * ربَّنا آمنا بما أنزلت واتَّبعنا الرَّسول فاكتبنا مع الشَّاهدين * ومكروا ومكر اللّه واللّه خيرُ الماكرين * إذ قال اللّه يا عيسى إنّي متوفِّيك ورافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتَّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثُمَّ إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون] (52ـ55).
* * *
معاني المفردات:
[أحسَّ]: الإحساس: الإدراك بالحاسة. وقوله تعالى: [فلمَّا أحسَّ عيسى منهم الكفر] إشارة إلى ظهور الكفر منهم ظهوراً بيّناً إلى درجة الإحساس به من الآخرين، رغم كونه أمراً قلبياً.
[أنصاري]: الأنصار: جمع نصير.
[الحواريون]: أصل الحواري: الحَوَر، وهو شدّة البياض، ومنه الحواري من الطعام لشدّة بياضه، ومنه قيل للحضريات: الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن. وحواري الرّجل صفوته وخالصته. وقد جاء في إنجيل متى ولوقا ـ الباب السادس ـ ذكر تعدادهم: 1 ـ بطرس، 2 ـ أندرياس، 3 ـ يعقوب، 4 ـ يوحنا، 5 ـ فيلوبس، 6 ـ برتولولما، 7 ـ متى، 9 ـ يعقوب بن حلف، 10 ـ شمعون الغيور، 11 ـ يهوذا أخو يعقوب، 12 ـ يهوذا الأسخريوطي الذي خان السيِّد المسيح.
وقد جاء في مجمع البيان: «روي أنَّهم اتبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح اللّه جعنا. فيضرب بيده على الأرض سهلاً كان أو جبلاً، فيخرج لكلّ إنسان منهم رغيفين يأكلهما؛ وإذا عطشوا قالوا: يا روح اللّه عطشنا، فيضرب بيده على الأرض سهلاً كان أو جبلاً، فيخرج ماء فيشربون. قالوا: يا روح اللّه من أفضل منّا إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنا بك واتبعنا؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء»[1]. وهكذا أعطاهم درساً اجتماعياً دينياً أنَّ القيمة هي للإنسان الذي يعطي الحياة من جهة، في مقابل ما يأخذ منها.
[الشَّاهِدِينَ]: جمع الشاهد، وهو المخبر بالشيء عن مشاهدة، وهذا هو المعنى الحقيقي، وقد يتصرف فيه فيُقال: قولهم شاهد بحقّ، أي: هو بمنـزلة المخبر به عن مشاهدة. ويُقال: هذا شاهد، أي: معدّ للشهادة.
[الْمَاكِرِينَ]: المدبّرين للإيقاع بالآخرين في خفية، واللّه خير المدبّرين لأنَّه الذي يملك زمام الحياة والإنسان. والمكر ـ كما يقول الراغب ـ «صرف الغير عمّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكرٌ محمود، وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: [وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]، ومذموم، وهو أن يتحرّى به فعلَ قبيح»[2]، وفي الآية النوعان من المكر، والمكر: الالتفاف، ومنه: قولهم لضرب من الشجر مكر لالتفافه. والفرق بين المكر والحيلة ـ كما في مجمع البيان ـ «أنَّ الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصدٍ إلى الإضرار بالعبد، والمكر حيلة على العبد توقعه في مثل الوَهْق[3]»[4].
[مُتَوَفّيكَ]: آخذك بصورة تامة ووافية من عالـم الأرض، والتوفي: أخذ الشيء أخذاً تاماً، ويُستعمل في الموت باعتبار الأخذ من عالـم الحياة، وفي النوم باعتبار الأخذ من عالـم اليقظة، وفي رفع المسيح (ع) إلى السَّماء باعتبار الأخذ من عالـم الأرض. ولهذا فإنَّ التوفي أعمّ من الموت. قال تعالى: [حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ] (النساء:15).
* * *
أسلوب نابض بالمحبة:
... واستمر عيسى (ع) في دعوته إلى اللّه بأسلوبه الوديع النابض بالمحبة، من أجل أن يقودهم في رحلة الإيمان إلى اللّه في العقيدة والشريعة، ليعيشوا قصة الإيمان فكرةً وشعوراً وممارسةً... ولكنَّهم أغلقوا آذانهم عن الاستماع إليه، وأغمضوا أعينهم عن النظر إلى عجائب معجزات اللّه على يديه، وعطّلوا عقولهم عن التفكير في ما يدعوهم إليه من خير الدنيا والآخرة، لأنَّ القضية الأساس عندهم هي أنّهم يرفضون الإيمان، كموقف سلبي ضدّ الرسول، عبر قرار للكفر بالرسالة.
[فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ] وذلك من خلال طريقتهم في التعامل معه، في محاولة الضغط عليه بمختلف الوسائل التي يملكونها، ورفضهم الاستجابة له، وإعراضهم عن الانفتاح على دعوة الإيمان في دعوته، فلم يدخلوا في حوار معه، ولـم ينفتحوا على آفاق رسالته؛ بل أصمّوا أسماعهم عن كلّ نداء للداعية، فما كان منه إلاَّ أن أخذ زمام المبادرة في تحويل الموقف إلى خطّ جديد للحركة الفاعلة من موقع التحدّي الذي يُعلن عن نفسه في ابتداء المسيرة نحو اللّه.
* * *
طريق طويلة شاقة:
ودرس عيسى (ع) الموقف، وأدرك طبيعته من خلال نوعيّة القرار، وعرف أنَّ القضية ميؤوس منها، ما عدا الطليعة المؤمنة الواعية من حواريّيه الذين استجابوا لدعوته وأقبلوا على ندائه؛ فأطلق الدعوة في شكل نداءٍ يوجهه إلى الجميع، وهو يعرف من الذي يستجيب له، ليتميّز المؤمنون من الكافرين، ولتتمّ عمليّة الفرز على أساس طبيعة الموقف: [قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّه]. إنَّ الرحلة طويلة معقّدة شاقة، ولا بُدَّ للسائرين فيها من طاقةٍ إيمانية عظيمة، تثبت أمام الشدائد والأهوال، وتصمد أمام التحدّيات، وتواجه العقبات بعزم وصبر وإيمان... لأنَّ المعركة قد تسلب من الإنسان أمنه وثروته وراحته، وربَّما تسلب منه حياته في بداية الشوط أو نهايته، والمطلوب أن لا تسلبه إيمانه حتّى يواجه به العقبات بعزم وصبر.
وكان الفرز الإيماني جاهزاً في الساحة، فها هم الحواريون الذين فتحوا قلوبهم للرسول، وعاشوا حركة رسالته في روحانية وفكر ومعاناة، وأدركوا ما ينتظرهم من نعيم الآخرة ورضوان اللّه أمام ما ينتظرهم من عقبات وشدائد وأهوال... استجابوا في كلمات حاسمة تهزّ الساحة بالعزم والتصميم والإرادة: [قالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه] الذين يعرفون طبيعة التحدّي وخطورة الموقف ودرجة التضحية، فهي بحاجة إلى العقل والحركة والوعي والإرادة القوية.
* * *
أنصار اللّه:
.... ويُتابعون الحديث عن منطلقات هذه النصرة... فهم قد آمنوا باللّه... [آمَنَّا بِاللّه] والإيمان يعني التسليم، والتسليم يعني التصميم والقناعة واليقين في الخطّ الذي يبدأ من اللّه وينتهي إليه، لأنَّ الإيمان هو موقف للحياة يستوعب كلّ التفاصيل من خلال ما يواجهه الإنسان من أوضاع، وما يقوم به من أعمال، وما يرتبط به من علاقات، وما ينطلق فيه من تطلّعات للمستقبل... ليكون الخطّ الفاصل بين الإيمان والكفر فاصلاً على مستوى الممارسة لا على مستوى النظرية والكلمة. وبهذه الروح، وفي أجواء هذا التصوّر، كانوا يريدون التأكيد الحي لموقفهم الصلب بشهادة الرسول لهم بإسلام الكلمة والقلب والعمل للّه الواحد، في ما يريد وما لا يريد: [وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] وهذه الشهادة تعطي للموقف بُعداً مهماً على صعيد حركة الإسلام في داخل النفس، فإنَّ الفكرة قد تضعف إذا بقيت مجرّد فكر وشعور، ولكنَّها تشتدّ كلّما تحوّلت إلى معاناة في الروح وإعلانٍ في حركة الإنسان في الحياة، لأنَّ الموقف يتخذ لنفسه معنى المسؤولية المتحركة أمام اللّه والنّاس، من خلال الإيحاء بإلزامه بما التزم به. وربَّما كان هذا هو السرّ في أنَّ إعلان الشهادة من قِبَل المسلم يعتبر عنصراً أساسياً في إسلام المسلم، فلا يكتفي بما يربط قلبه عليه من عقيدة وإيمان...
ولم يقف الحواريون عند هذا الحدّ في التعبير عن إسلامهم وإيمانهم، فهم يعرفون أنَّ الرسول بشر يوحى إليه من اللّه، وأنَّ اللّه هو الذي تقدّم إليه الشهادة للتعبير عن عمق الإخلاص في العقيدة والعبادة، وأنَّ الشهادة للرسول لا تمثّل إلاّ الإعلان له بأنَّه ليس وحده في الساحة، وليس وحده في المعركة، وأنَّ صوته لم يذهب في الفراغ، كما تذهب الأصوات الضائعة في أجواء الجحود والكفران... فهناك المؤمنون الذين يتقدّمون معه في خطّ الجهاد والدعوة إلى اللّه، وهناك أصواتهم الهادرة التي تُشهد الرسول بإسلامها، ليسمع الجاحدون كيف تحوّل الإيمان إلى قوّة لا تخاف من الإعلان عن مواقفها المضادّة لقوّة الكفر. إنَّهم يُشهدون الرسول، ولكنَّهم في نهاية المطاف يقفون بين يدي اللّه الواحد الذي آمنوا به، وآمنوا برسوله من خلال الإيمان به، وأسلموا له على أساس خطّ الإيمان الفاعل في الحياة، ليعبّروا له عن هذا الإيمان العميق الممتدّ في وجدانهم وفكرهم، وعن خطواتهم العملية التي تحرّك الإيمان من خلالها إلى حركةٍ واعيةٍ تتمثّل في اتّباع الرسول... وليستلهموا منه القوّة على مواجهة التحدّيات لئلا يضعفوا أمام نقاط الضعف التي تواجههم في الداخل والخارج؛ فإنَّ الشعور بحضور اللّه في حياة الإيمان، من خلال المناجاة الذاتية التي يقدّمها المؤمن للّه، يمنح المؤمن شعوراً بالرضى والطمأنينة والقوّة الواثقة بربِّها وبنفسها... في الصعب من مواقف الحياة.
وهكذا وقفوا أمام ربَّهم، ولكن لا ليشهدوه على إيمانهم لأنَّ اللّه يعلم ما في الصدور، بل ليرفعهم إلى مستوى الدعاة إليه، المجاهدين في سبيله، الذين يشهدون على النّاس في خطّ الرسالات الكبيرة في الحياة. فإنَّ اللّه قد جعل للطليعة الواعية المجاهدة دور الشاهدة على النّاس، كما جعل للرسل الدور الأول في هذا المجال... [رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] الذين يشهدون للمؤمنين الذين استجابوا للّه وللرسول دعوته، وحملوا على الكافرين الذين رفضوا الإيمان فكراً وحركة ومنهجاً، فانفتحوا على كلّ المشاكل المتناثرة في صعيد الساحة العامّة، بحيث إنَّهم يملكون القدرة على تقديـم تقرير وافٍ شامل لكلّ مفردات الرسالة وخصومها.
* * *
بذور رسالية:
واستجاب اللّه لهم ذلك الدعاء كما يوحي الجوّ الذي تتحرّك فيه الآيات، وخاض الحواريون بقيادة عيسى(ع) المعركة مع الكافرين وعاشوا الاضطهاد. وبدأ الكافرون يدبّرون المكائد والحيل في عمليّة مكر خفيٍّ حاقدٍ ليطفئوا نور اللّه بمكرهم، ولكن اللّه شاء غير ما يشاؤون، ودبّر غير ما يدبّرون، فقد أراد اللّه لرسالته أن تنطلق من مواقع اضطهاد الكافرين لرسله، لأنَّ الاضطهاد يعطي للرسالة قوّتها وثباتها وعمقها وامتدادها في مشاعر النّاس وأفكارهم... فهم قد يستسلمون لسلطة الكافرين، وقد يعاونونهم في اضطهاد الرسل وأتباعهم من المؤمنين، وقد يخضعون لما يقدّم لهم من إغراءات السلطة، فيعلنون الحرب على الرسالة... ولكنَّهم ـ في الوقت نفسه ـ يختزنون في منطقة اللاشعور عمق الاحترام لهؤلاء الدعاة الذين يتمرّدون على العذاب، ويسخرون من الاضطهاد، وينتصرون على كلّ نوازع الضعف في نفوسهم، ويحوّلون الحزن والألـم في داخلهم إلى فرح كبير...
ثُمَّ تبدأ البذور الرسالية تتناثر في أعماقهم من خلال كلمة يسمعونها هنا، ولفتةٍ يشاهدونها هناك، وموقف يواجهونه ويقفون فيه مع رسالاتهم... وتنمو البذور بعد ذلك لتتحوّل إلى عشب إيماني، وخضرةٍ روحية يانعةٍ تهتز بها الروح ويزهو بها الشعور. وتكون المفاجأة، فهؤلاء الجلادون يتحوّلون إلى مؤمنين خاشعين يطلبون من اللّه التوبة ومن الرسول وأتباعه العفو. وهؤلاء المتفرّجون الذين يصفقون للسلطة عندما تضطهد الرساليين يتحوّلون إلى عاملين في ساحة الإيمان... ويتحوّل التصفيق في أكفّهم إلى الجانب الآخر، فيصفقون لمواقف الجهاد في نهاية المطاف... وهكذا كان تدبير اللّه لحركة الرسالات في تخطيط بعيد المدى. وإذا دبّر اللّه أمراً فإنَّه خير من يدبّر، لأنَّه هو الذي يملك زمام الحياة والإنسان في كلّ مصادره وموارده... [وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] وقد أشرنا في المفردات إلى أنَّ المكر لا ينحصر في التحرّك الخفي السيّىء ـ كما هو المعروف لدى النّاس ـ بل هو الطريقة الخفية التي يُراد منها تعطيل مبادرات الآخرين عمّا يريدونه على مستوى الفكرة والواقع، سواء كان ذلك خيراً أو شراً، وفي ضوء هذا جاء وصف المكر بالسيّىء في قوله تعالـى: [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ] (فاطر:43)، ما يوحي بأنَّ هناك مكراً سيئاً ومكراً حسناً، ولهذا أمكن نسبة المكر إلى النّاس الذين دبّروا لعيسى (ع) المكائد في خططهم الشيطانية التي حاولوا فيها إسقاط رسالته وإبطال دعوته وإبعاده عن ساحة التغيير الرسالي للواقع وتهديد حياته بالقضاء عليه ـ وهذا هو المكر السيّىء ـ كما أمكن إسناد المكر الحسن إلى اللّه سبحانه وتعالى الذي خطّط ودبّر لحفظ حياة نبيّه وصون دعوته وإعداد الفرص الكفيلة بإنجاح رسالته في مدى الامتداد الزمني. وإذا كان اللّه هو الذي يدبّر بمكره الحسن، فهل يملك أحد أن يقف أمامه أو يأمن مكره؟ إنّه الذي يملك الأمر كلّه، ويحيط به من كلّ جهاته، ويحرّكه من خلال حكمته، بينما لا يملك الآخرون من الكافرين إلاَّ القليل القليل مما مكنهم اللّه به من القوّة التي أراد لهم أن يوجهوها في طريق الخير فوجهوها في طريق الشر. وهكذا نستوحي من هذه المقابلة بين مكر اللّه ومكر النّاس كيف يتحرّك الصراع بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والخير والشرّ، لتكون النتيجة في نهاية المطاف للحقّ والإيمان والخير، لأنَّها إرادة اللّه التي لا بُدَّ من أن تصل إلى غاياتها ولو بعد حين.
* * *
ما معنى الوفاة في قصة عيسى(ع)؟
... أمّا عيسى، فإنَّ اللّه أراد له أن لا يقع في قبضة الكافرين الذين جاؤوا به ليصلبوه ويقتلوه. وتحرّكت الإرادة الإلهية الخفيّة، في ما أعلنه اللّه لعيسى(ع): [إِذْ قَالَ اللّه يا عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ].
وحار المفسِّرون في تحديد معنى هذه الكلمة؛ فهل تعني الموت أم تعني بلوغ الحدّ الذي حدّده اللّه له في الأرض في ما توحيه كلمة «التوفية» من معنى بلوغ الحدّ؟!. ويرى البعض أنَّ إطلاق الوفاة على الموت كان على أساس هذه الملاحظة، باعتباره نهاية حدّ الحياة من دون أن يكون لموت الحياة في الجسد مدخلية في طبيعة المعنى، فذهب البعض إلى أنَّ اللّه قبضه إليه بضع ساعات ثُمَّ أحياه، وذهب آخرون إلى أنَّ اللّه رفعه إليه من دون أن يقبض روحه، لأنَّه سيعيش إلى نهاية الحياة الدنيا.
وقد انطلقت الفكرة التي ترى في مادة الوفاة معنى لا ينطبق على الموت، من خلال القول إنَّ «التوفي أخذ الشيء أخذاً تاماً، ولذا يستعمل في الموت، لأنَّ اللّه يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه، قال تعالى: [تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا] (الأنعام:61) أي أماتته، وقال تعالى: [أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الاْرْضِ أَئنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ] إلى أن قال: [قُلْ يَتَوَفّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ] (السجدة:11)، وقال تعالى: [اللّه يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى] [الزمر:42]. والتأمّل في الآيتين الأخيرتين يعطي أنَّ التوفي لم يُستعمل في القرآن بمعنى الموت، بل بعناية الأخذ والحفظ؛ وبعبارة أخرى، إنَّما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ، للدلالة على أنَّ نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظنُّ الجاهل أنَّه فناء وبطلان، بل اللّه تعالى يحفظها حتّى يبعثها للرجوع إليه»[5].
ولكن الظاهر أنَّ كلمة «الوفاة» استعملت في الأخذ الخاص وهو الموت، وأمّا في الآية الثانية فلمقابلة الكلمة بقوله: [وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ] ما يوحي بأنَّ المراد بالوفاة الموت، ولكنَّه استعمل هذه الكلمة تفنناً في التعبير، كما في الآية الثانية، وأمّا في الآية الأولى، فلأنَّ الإشارة في كلمة [يَتَوَفَّاكُم] إلى الوفاة الخاصة التي تنفصل فيها الروح عن الجسد الذي هو المصداق الحقيقي للمعنى، وهو «أخذ الشيء أخذاً تاماً». أمّا ملاحظة أنَّه استعمل كلمة «التوفي» للدلالة على أنَّ نفس الإنسان لا تبطل ولا تفنى بالموت، فلا قرينة عليه من اللفظ، بل الظاهر من الحديث عن وفاة النفس ووفاة الأشخاص هو التأكيد على المعنى الطبيعي للموت الذي يسند إلى النفس أو الإنسان من خلال دلالتهما على الذات، وليس هناك أيّة إشارة إلى مسألة فناء النفس وعدم فنائها، من حيث هي موضع الجدل بين المثبتين والمنكرين.
... وقد جاء التعبير عن النوم بكلمة «التوفي» كما في قوله تعالى: [وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ] (الأنعام:60) وهذا ما اعتبره البعض بأنَّ الكلمة استعملت في معناها المطابقي وهو الأخذ، لا في معناها المتعارف وهو الموت؛ لكن يمكن أن يردّ هذا بأنَّ «التوفي» استعمل في الموت بطريقة المجاز، بمعنى تنـزيل النوم منـزلة الموت، بلحاظ أنَّه موت مؤقت، وأنَّ النائم ـ كما يقول البعض ـ ميت يتنفس، وربَّما كان هذا ظاهراً من قوله تعالى: [فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى] فكأنَّ النفس تموت في النوم موتاً مؤقتاً قد يمتد في الزمن وقد يتحوّل إلى حياة، ولعلّ الكلمة النبوية الشريفة المشهورة توحي بذلك، وهي «لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون»[6]، واللّه العالـم.
وقال بعض المتأخرين من المفسِّرين: إنَّ اللّه أخفاه عن أعين النّاس، فعاش عيشة طبيعية بعيداً عن أنظارهم حتّى قبضه اللّه ورفعه إليه كما يرفع كلّ عباده إليه بروحه. وهذا حديث لا نريد أن نفيض فيه كثيراً، لأنَّه قد يدخل في باب الرجم بالغيب في بعض تفاصيله، وقد لا نصل فيه إلى نتيجة محدّدة حاسمة، ولا نجد فيه كبير فائدة في ما يتصل باستيحاء القرآن لحياتنا الفكرية والعملية... فإنَّنا نعلم أنَّ اللّه سبحانه قادر على كلّ شيء في أصل الخلق وفي أشكاله وأوضاعه وطريقة بقائه وفنائه، فليس هناك حدّ لقدرته وإرادته، فاللّه القادر على أن يرفع الإنسان بروحه قادر أن يرفعه بجسده، واللّه الذي يريد للإنسان أن ينهي حياته في الأرض بالموت هو الذي يريد له أن ينهيها بغير ذلك. وهذا ما نريد أن نجمله من التفصيل الذي خاضه المفسِّرون في قوله تعالى: [وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ] فإنَّ الفكرة ـ كلّ الفكرة ـ هي أنَّ اللّه قد دبّر بحكمته وبخطّته الخفية خلاص عيسى (ع) من اضطهاد اليهود ومن محاولتهم قتله. أمّا ماذا فعل، وما الخطّة؟ فذلك مما اختص اللّه بعلمه، فلنرجع الأمر فيه للّه، في ما يريد أن يعرّفنا إياه، وما لا يريد أن يعرّفنا سرّه...
ولكن هنا ملاحظة تفسيرية ذكرها العلامة الطباطبائي (قدس سرّه) في تفسير الميزان حول كلمة [وَرَافِعُكَ إِلَيَّ] حيث قال: «إنَّ المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري، إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها، والقرب والبعد منها، فهو من قبيل قوله تعالـى في ذيل الآية: [ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ]، وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أنَّ المراد حينئذٍ هو رفع الدرجة والقرب من اللّه سبحانه، نظير ما ذكره تعالـى في حقّ المقتولين في سبيله: [أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ] (آل عمران:169) وما ذكره في حقّ إدريس (ع): [وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً] (مريم:57).
وربَّما يُقال: إنَّ المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيّاً إلى السَّماء، على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف، أنَّ السَّماء، أي الجسمانية، هي مقام القرب من اللّه سبحانه»[7].
وإنَّنا نرجِّح الوجه الثاني من خلال ظاهر الآية، لأنَّ التعبير بالرفع إليه يوحي ـ من الناحية التعبيرية ـ بالجانب المكاني الذي يختص به ويمثّل موقع العلوّ لديه الذي يتناسب مع علوّ مقامه وسموّ شأنه، حتّى أنَّ كلمة: [أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ] توحي بذلك من خلال الذهنية الإيمانية التي تختزن في داخلها معنى اعتبار السَّماء بمعناها المادي الذي يجعلهم يتطلّعون إليها، هي المنطقة التي تمثّل درجة العلوّ التي تنتسب إلى اللّه في مقابل الأرض التي هي دونها في درجة القرب المكاني، ولو أراد الرفع المعنوي لكان الأقرب التعبير بالرفع بشكل مطلق، كما في قوله تعالى: [يَرْفَعِ اللّه الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (المجادلة:11)، أو في قوله تعالى: [ورفعناه مكاناً علياً].
أمّا قوله تعالى: [وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ] فقد يعني إبعاده عن مواقع القذارة النفسية والروحية والأخلاقية التي يمثّلها المجتمع الكافر في عاداته وتقاليده وقيمه المادية التي تلوّث روح الإنسان وعقله وعمله، وذلك من خلال اللطف الإلهيّ الذي أغدقه اللّه عليه، فجعله إنساناً طاهراً في ذاته، يعطي للآخرين طهارة الفكر والروح والقلب والشعور والحياة.
* * *
وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا:
واختفى عيسى (ع) عن الأنظار ولـم تختفِ دعوته، وغاب عن الساحة ولـم يغب أتباعه، بل اندفعوا بكلّ صبر وإيمان، يركّزون الأساس، ويرفعون البناء ويصنعون للمستقبل فكره وروحيّته ونظامه... وكانت رعاية اللّه لهم في كلّ خطواتهم العمليّة، فبدأ الإيمان يتقدّم ليتخذ مواقعه الثابتة في حياة النّاس، وبدأ الكفر ينحسر تدريجياً.
وكان وعد اللّه لعيسى حقّاً: [وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ] فها هم اليهود يقفون في الدرجة السفلى أمام أتباعه، ولكن كيف ذلك؟ ومن هم أتباعه؟ هذا ما خاض فيه المفسِّرون كثيراً، وهذا ما يجب أن نتوقف أمامه قليلاً لنفهم معنى هذه الفقرة من الآية. فقد ذهب بعض المفسِّرين إلى أنَّ المراد بالذين اتبعوه، هم أهل الحقّ من النصارى الذين ساروا على دعوته الحقيقية، ومن المسلمين الذين اتبعوه باتباعهم للنبيّ محمَّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) الذي بشّر به وبرسالته، وأنَّ معنى الفوقية هنا هو الفوقية في الحجّة والبرهان، لأنَّ حجّة عيسى (ع) وأتباعه في نبوّته وصحة دعوته ظاهرة بيّنة كلّما تقدّم الزمن وخفّت الضغوط، بينما كانت حجّة الكافرين الذين خالفوه وعاندوه غير مستندة إلى أساس، فهي لا تزداد على مرور الأيام إلاَّ انحساراً وضعفاً... ولكن هذا الوجه مما لا تساعد عليه الآية لا بلفظها ولا معناها ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ «فإنَّ ظاهر قوله: [إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ] أنَّه إخبار عن المستقبل، وأنَّ التوفّي والرفع والتطهير والجعل سيتحقّق في المستقبل، على أنّ قوله: [وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ] وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلاَّ في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حجّة متّبعي عيسى(ع) إلاَّ حجّة عيسى(ع) نفسه، وهي التي ذكرها اللّه تعالى ضمن آيات البشارة، أعني بشارة مريم، وهذه الحجج قائمة حين حضور عيسى قبل الرفع وبعد رفع عيسى، بل كانت قبل رفعه(ع) أقطع لعذر الكفّار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده (ع) أنَّه ستفوق حجّة متبعيه على حجّة مخالفيه؟ ثُمَّ ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوّق بقوله: [إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]، مع أنَّ الحجّة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم...»[8].
ويرى صاحب الميزان، أنَّ المراد بالذين اتبعوه هم النّصارى، وبالذين كفروا اليهود، فإنَّه يكفي إطلاق هذه الصّفة على المتأخرين منهم، وإن خالفوه في بعض تفاصيل رسالته. إنَّهم يعتبرون امتداداً للذين اتبعوه حقيقة في عصره وبعد عصره، في مقابل اليهود الذين كفروا به في حياته قبل رفعه وبعد رفعه على امتداد الزمن. وبذلك تكون الآية في مقام «بيان نزول السخط الإلهي على اليهود وحلول المكر بـهم وتشديد العذاب على أمتهم...»[9].
«وها هنا وجه آخر، وهو، أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة، وتكون الآية مخبرةً عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة... وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر...»[10]، كما يقول صاحب الميزان.
وربَّما كان جوّ الآية يوحي بالوجهين الأخيرين، انطلاقاً من أنَّ الآية واردة في مقام إعطاء الفكرة، بأنَّ الذين يضطهدون الأنبياء وأتباعهم لا يحصلون على الامتداد في الزمن في عمليّة ممارسة القوّة والغلبة، لأنَّ رسالات اللّه سوف تتقدّم وتفرض نفسها على الساحة إن عاجلاً أو آجلاً، على أساس سنّة اللّه في خلقه، من أنَّ الحقّ لا بُدَّ من أن يفرض نفسه في نهاية المطاف؛ واللّه العالـم بحقائق آياته...
* * *
اللّه الحَكَم العدل:
وتلك هي قصة الصراع بين الكفر والإيمان، وبين الحقّ والعدل في حساب الدنيا؛ أمّا إذا رجع النّاس إلى اللّه ووقفوا بين يديه ليحكم بينهم، فهناك الحكم العدل الذي يضع الحقّ في ميزانه الصحيح، ويظهر الباطل في حجته الضعيفة التي لا تثبت أمام النقد، [ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] وهذه اللفتة القرآنية تنقل النّاس من أجواء الحياة الدُّنيا التي يتخبّط فيها النّاس في الضلال من خلال ما يخوضونه من صراع الحقّ والباطل، إلى أجواء الآخرة التي يسود فيها العدل في حسابات الصراع الفكري والعملي... فلا مجال إلاَّ للحقّ الذي يقف فيه المحقّ رافع الرأس عالياً، لأنَّه لا يخاف من الاضطهاد الذي يمارسه ضدّه أهل الباطل في خنق صوت الحقّ في الحياة؛ ويقف فيه المبطل مهزوماً ذليلاً، لأنَّه لا يملك في ذلك الموقف الوسائل الكفيلة بإعطاء الباطل صورة الحقّ من خلال ما يحشده من الألوان المزيّفة، والأساليب المضلّلة المستندة إلى القوّة الغاشمة... وربّما كانت القيمة في هذه اللفتة أنَّها توحي للمحقّ بالقوّة في موقفه، لأنَّها تبعد عنه كلّ المشاعر السلبيّة التي قد يخضع لها الإنسان تحت ضغط الاضطهاد الذي قد يقوده إلى اليأس؛ كما توحي للمبطل بأنَّه مهما استطاع أن يصنع القوّة المبطلة لمواقفه، فإنَّه لا يستطيع ذلك إلى نهاية الشوط، فإنَّ النهاية ستكون في موقف الجميع عند اللّه، ليكون هو الحكم في ما يختلفون فيه، وهنالك يخسر المبطلون.
ــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:757.
(2) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، ص:491.
(3) الوَهْق: حبل في طرفه عقدة يجعل في عنق الدابة.
(4) مجمع البيان، ج:2، ص:755.
(5) تفسير الميزان، ج:3، ص:238ـ239.
(6) البحار، م:3، ج:7، باب:3، ص:248، رواية:31.
(7) تفسير الميزان، ج:3، ص:240.
(8) تفسير الميزان، ج:3، ص:241.
(9) (م.ن)، ج:3، ص:242.
(10) (م.س)، ج:3، ص:243.
تفسير القرآن