تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 65 إلى الآية 68

 من الآية 65 الى الآية 68

الآيــات

{يا أهل الكتاب لِمَ تُحاجُّون في إبراهيم وما أنزلت التَّوراة والإنجيل إلاَّ من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم حاججتُم فيما لكم به علمٌ فَلِمَ تُحاجُّون فيما ليس لكم به علمٌ واللّه يعلمُ وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين * إنَّ أولى النَّاس بإبراهيم للذين اتَّبعوه وهذا النبيُّ والذين آمنوا واللّه وليُّ المؤمنين}(65ـ68).

* * *

معاني المفردات:

[تُحاجُّون]: قال الطبرسي ـ في مجمع البيان: ـ «الفرق بين الحجاج والجدال، أنَّ الحجاج يتضمّن إمّا حجّة أو شبهةً في صورة الحجّة، والجدال هو فتل الخصم إلى المذهب بحجّة أو شبهة أو إيهام في الحقيقة، لأنَّ أصله من الجدل، وهو شدّة الفتل، والحجّة هي البيان الذي شهد بصحة المقال، وهو والدلالة بمعنى واحد»[1].

[حنيفاً]: من الحنف وهو الميل من شيء إلى شيء، وهو في المصطلح القرآني الميل من الضلال إلى الهدى.

[أولى]: هو بمعنى أفعل من غيره، لا يُثنّى ولا يُجمع، لأنَّه يتضمن معنى الفعل والمصدر على تقدير يزيد فضله على فضله في أفضل منه، ومعنى قولنا: هذا الفعل أولى من غيره، أي: بأن يفعل، وقولها: زيد أولى من غيره معناه: أنَّه على حال هو أحقّ بها من غيره[2].

[اتَّبعوه]: الاتّباع: جريان الثاني على طريقة الأول من حيث هو عليه، كالمدلول الذي يتبع الدليل في سلوك الطريق، أو في التصحيح، لأنَّه إن صحّ الدليل صح المدلول عليه بصحته، وكذلك المأموم الذي يتبع طريقة الإمام.

* * *

أسلوب التأنيب الهادئ:

وهذا أسلوبٌ آخر في حوار القرآن مع أهل الكتاب، يستهدف كشف الزيف الذي كانوا يُمارسونه في تضليل النّاس باستغلال الصفة الروحية الكبيرة والموقع القدسيّ العظيم لبعض الشخصيات النبوية، فيسبغون عليه انتماءهم الديني ليوحوا للبسطاء بقداسة مواقعهم، وسلامة طروحاتهم الفكرية والعملية، من أجل كسب هؤلاء البسطاء إلى صفوفهم وتحويلهم عن السير في خطِّ الإسلام. وقد أراد القرآن الكريم أن يواجههم بأسلوب التأنيب الهادئ الوديع الذي يطرح التساؤل في أسلوب الاستفهام الإنكاري، كأسلوب لمواجهة الإنسان نفسه بالحقيقة في تسجيل نقطة هنا تدفع نحو التفكير، ونقطة هناك تدفع نحو التأمّل من خلال إثارة المنهج في ملاحقة الحقيقة، وتقرير المبدأ في مواجهة الواقع. وهذا ما نحاول أن نتلمسه في دراستنا لهذه الآيات.

فقد طرح أهل الكتاب شخصية إبراهيم ـ النبيّ ـ الذي يُعتبر من الشخصيّات النبويّة المحترمة لدى كافة النّاس، بما فيهم مشركي مكة، الذين ينتسبون إليه باعتبار أنَّ قريش من ولد إسماعيل، وكان لهذا الاحترام دوره الكبير في ارتباط النّاس بالفكر أو الدين الذي ينتسب إليه هذا النبيّ العظيم. ولهذا حدث التنافس في نسبته إلى هذا الفريق أو ذاك من الديانات المطروحة في الساحة الدينية، فقد كان اليهود يقولون إنَّه يهودي، ويريدون من خلال ذلك أن يدفعوا النّاس إلى اعتناق اليهودية، على أساس اعتناق إبراهيم لها. وكان النصارى يقولون إنَّه نصراني، ليقودوا النّاس إلى النصرانية من خلال ارتباطه بها. ولـم تكن القضية لدى الطرفين مطروحة للمناقشة حتّى يفيض النّاس فيها بالحوار والنـزاع، بل كانت مطروحة للإيمان الأعمى الذي يقبل كلّ شيء من دون معارضة، انطلاقاً من الفكرة القائلة بأنَّ الإيمان فوق العقل.

وجاء القرآن ليفضح اللعبة ويضع النقاط على الحروف، فطرح القضية للمناقشة في جانبها التاريخي الزمني، ودعاهم إلى استنطاق عقولهم في ذلك، فإنَّ اليهودية انطلقت من التوراة التي أنزلت على موسى (ع) بعد وقت طويل من عهد إبراهيم، كما أنَّ النصرانية استندت إلى الإنجيل المنـزل على عيسى (ع) بعد ذلك الزمن بوقت بعيد جداً؛ فكيف ينتسب إبراهيم إلى هذا أو ذاك في الوقت الذي يسبق زمانه زمانهما؟! وكيف يمكن أن ينتسب السابق إلى اللاحق، في ما يوحي به العقل من موازين ومقاييس؟!

[يا أهل الكتاب لِمَ تحاجُّون في إبراهيم] لتقدّموه كشخصية يهودية أو نصرانية تجتذب النّاس إليكم من خلال ما يتميّز به من تقديس واحترام والتزام بنبوّته في وجدان النّاس، [وما أُنزِلَتِ التوراة] التي ينتسب اليهود إليها في دينهم، [والإنجيل] الذي ينتسب إليه النصارى في التزامهم الديني، [إلاَّ من بعده] فهناك فاصلٌ زمني كبير بين إبراهيم وموسى وعيسى(ع)، فكيف يمكن انتسابه إليهما، [أفلا تعقِلُونَ] ذلك، لتتحرّكوا في دائرة تقديـم الحجّة من منطق العقل الذي يضع الأشياء في مواضعها الطبيعية من الزمان والمكان عندما يدخل في المقارنة بين الأشخاص والأشياء؟! وهذه إشارة إلى أنَّ القرآن الكريـم يقدّم العقل كأساس في مجال الجدال بين النّاس والاحتجاج للعقائد والأفكار، فلا ينطلق الموضوع الذي يقع محلاً للنزاع من حالة عاطفية أو مزاجية أو استعراضية بقصد التأثير على الجوّ النفسي بعيداً عن المحاكمة العقلية.

* * *

الآية في حركة الواقع:

ونلتقي ـ في خطّ هذا الأسلوب ـ بالكلمات التي تُثار أمام البسطاء من خلال ما يطرحه الكفر والانحراف من مبادئ، كالشيوعية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها من المبادئ الفلسفية والاقتصادية والسياسية، فيُحاولون الإيحاء للمسلمين البسطاء بالتقاء الإسلام بها وانتمائه إليها في مفاهيمه وتشريعاته، من أجل أن يضلّلوهم ويسدّوا عليهم طريق الاعتراض والمناقشة. وقد يضيفون إلى ذلك الحديث عن انتماء الإمام عليّ(ع) وأبي ذر الغفاري إلى الاشتراكية، لأنَّهما كانا ينطلقان في كلماتهما من موقع المواجهة للواقع الاقتصادي الاستغلالي الفاسد، مما يُحاول البعض تفسيره بما توحي به هذه المبادئ من شعارات وأفكار. ولكن القضية لا بُدَّ من أن تُعالج بما عالج به القرآن الكريـم قصة مزاعم أهل الكتاب في قضية إبراهيم(ع)، بالتأكيد على الفرق الكبير في الفاصل الزمني بين الإسلام وشخصياته، وبين مبتدعي هذه المبادئ، ثُمَّ بمحاولة إيضاح المفاهيم الإسلامية والاقتصادية والاجتماعية بالمقارنة مع مبادئ الكفر والانحراف المتمثّلة في تلك المبادئ، والإعلان لهم بأنَّ عليّاً وأبا ذر لم يطرحا في معارضتهما للواقع الفاسد إلاَّ المنهج الإسلامي الذي يُعالج المشكلة الواقعية بالحلّ الإسلامي لا بغيره.

وهكذا نجد في هذه الآية الكريمة خطّاً إسلامياً ممتداً في حياتنا الرسالية في مجال الدعوة والعمل، وحركة الوعي المنفتح على الواقع والإنسان.

* * *

لِمَ تُحاجُّون في ما ليس لكم به علم؟!

[ها أنتم هؤلاء] يا أهل الكتاب [حاججتم فيما لكم به علمٌ] مما تملكون علمه من دينكم من خلال ما قرأتموه في التوراة أو الإنجيل، وهذا من حقّكم، كما هو حقّ كلّ إنسان ينتمي إلى فكرٍ يملك علمه ليُجادل النّاس فيه. وربَّما كان هذا الكلام إشارة إلى الجدل الواقع بين اليهود والنصارى في تأكيد كلّ منهما عقيدته ونفي العقيدة الأخرى، كما كان يفعله اليهود في إنكار أن يكون عيسى(ع) ربّاً أو ابناً للّه، أو ما كان يفعله النصارى من نفي امتداد اليهود إلى ما بعد السيِّد المسيح(ع). وربَّما تكون مسألة العلم ـ هنا ـ تعبيراً عن الثقافة، بعيداً عن فرضية الصواب، باعتبار أنَّهم يملكون الجدال حوله من خلال ذلك.

[فَلِمَ تُحاجُّون فيما ليس لكم به علمٌ] لأنَّه لا يمثِّل أيّة حقيقة دينية أو تاريخية. وهذا ما لا ينبغي للإنسان العاقل أن يفعله، لأنَّه يؤدّي إلى التخبط في مواقع الجهل والابتعاد عن الحقيقة، والاستغراق في متاهات الضلال. [واللّه يعلمُ وأنتم لا تعلمون] فهو المحيط بكلّ شيء، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فأرجعوا الأمر إليه في ما أنزل من وحي يتضمن الحقائق ويشير إلى خطّ اليقين، أمّا أنتم، فلا تملكون العلم إلاَّ من خلال ما يسّر لكم من سُبُله، فلا تندفعوا في طريق لا تعرفون طبيعته ولا تبلغون مداه.

* * *

الآية في منهج الحوار:

ويتحرّك الحوار في استعراض المنهج الذي ينبغي للحوار أن يسير عليه، فلا بُدَّ للمتحاورَيْن في أيّ موضوع، من أن يكونا محيطَيْن به من جميع جوانبه، لينطلق الحوار من منطلق الفكر، فيصل بهما إلى النتيجة الحاسمة، ويساعدهما على الهدوء في الكلمة، والحكمة في الأسلوب، والعمق في الفكرة، فإنَّ ذلك هو سبيل العلماء الواعين للعلم ولرسالته... أمّا إذا كان الطرفان لا يملكان المعرفة في ما يتحاوران به، فإنَّ الموقف سيتحوّل لديهما إلى حوار بالشتائم والكلمات اللاذعة والاتهامات الفارغة التي يُحاول الضعيف أن يُغطي بها ضعفه، ليربح القضية بالباطل إذا لـم يتمكن من الحصول عليها بالحقّ... وبذلك لن يؤدي الحوار إلى نتيجة طيّبة، بل يؤدي ـ بدلاً من ذلك ـ إلى المزيد من التعقيد والعداوة والخوض بالباطل. وعلى ضوء ذلك، فلا بُدَّ للأجهزة أو القيادات المشرفة على حركة الدعوة إلى اللّه، من أن تختار العناصر الجيِّدة التي تملك كفاءة الفكر والأسلوب والرؤية العميقة المنفتحة على الواقع، لتستطيع أن تربح الموقف لصالح الإسلام من موقع قوّة الفكر والحجّة وعمق النظرة، فتحقّق للإسلام هدفه في الوصول إلى قناعات النّاس من جهة، وتُعطي للدعوة الوجه القويّ المنفتح من خلال ما تبرز به للنّاس من سماحة الحوار وقوّته...

ولعلّ ذلك هو السب في ما كان يقوم به الإمام جعفر الصادق (ع) من نهيٍ بعض أصحابه عن الكلام، ودعوة بعض آخرين إلى الخوض فيه، لضعف أولئك وقوّة هؤلاء، فإذا خاض الضعيف الحوار، كان ضعفه حجّة للمبطل على المحقّ، فيؤدي ذلك إلى ضعف موقف الحقّ وانهزام المؤمن نفسياً أمام ذلك. أمّا إذا خاض القويّ الموقف، فإنَّه يُعطي الحجّة من موقع الحقّ، ويمنح الحقّ قوّة الموقف.

وقد لا يكفي ـ في هذا المنهج ـ أن يملك الداعية قوّة الحجّة في سبيل الجدل ولو بالباطل، فإنَّ القضية ليست قضية ربح الساحة على كلّ حال؛ بل لا بُدَّ من أن يملك قوّة الحجّة بالحقّ، لأنَّ الهدف هو الوصول إلى خطّ الهدى في حياة الإنسان، وذلك بأن نقوده إلى الموقف الحقّ في العقيدة والشريعة والحياة...

وهذا ما دعا الإمام جعفر الصادق (ع) إلى نقد أحد أصحابه الذي كان يُجادل خصمه بالحقّ والباطل ـ والإمام يستمع إليه ـ فقال له: «يمزج الحقّ بالباطل، وقليل من الحقّ يكفي عن كثير من الباطل»[3].

وقد خاطب اللّه أهل الكتاب ـ في هذا الخطّ المنهجي ـ بأنَّهم انحرفوا عن الخطّ الصحيح في نهاية المطاف، فقد كانوا يحاجّون في ما يملكون أمر المعرفة به مما اطلعوا عليه من التوراة أو الإنجيل، وليس في ذلك أيّ بأس، ولكنَّ الأمر تطوّر عندهم في خطٍّ منحرف إلى أن بدأوا يجادلون في ما لا يملكون العلم به، إمّا لأنَّه لا يخضع لأيّ أساس، ولا يقف مع أيّة حقيقة، وإمّا لأنَّهم لا يملكون أمر الإحاطة به والوصول إلى نهاياته. وهذا أمرٌ لا يسمح به منطق العلم والحوار، فإنَّ عليهم إذا لـم يحيطوا بعلم شيء ما، أن يحاولوا الوصول إليه بالمعرفة من خلال وحي اللّه، فإنَّ اللّه يعلم بحقائق الأشياء، وأنتم لا تعلمون إلاَّ البسيط الذي علّمكم إياه...

وهذا ما ينبغي لنا أن نخاطب به الآخرين من خصوم الإسلام الذين يوجهون إليه الاتهامات الباطلة من غير علم، ويثيرون الشبهات حوله من موقع الجهل، لنقودهم ـ بمختلف أساليب الإنكار والإحراج التي تكشف عن جهلهم، وتخبّطهم بالباطل ـ إلى السير في خطّ المعرفة الإسلامية من مصادرها الأصيلة، ولندفعهم إلى الاستماع إلى الحجّة والبرهان بأقرب طريق..

ولا بُدَّ لنا ـ إلى جانب ذلك ـ من الالتفات إلى العاملين في سبيل اللّه، وتوجيههم إلى دراسة مبادئ خصومهم، بالإضافة إلى مبادئ الإسلام، لينطلقوا في الحوار عن علمٍ بكلّ مجالات الأخذ والردّ، لئلا يخوضوا في ما لا علم لهم به، كما أشرنا إلى ذلك في صدر الحديث.

* * *

إبراهيم حنيف مسلم:

[ما كان إبراهيم يهودياً] فلا يمكن أن يكون إبراهيم يهودياً، لأنَّ اليهودية تحرّكت مسيرتها في مواقع الشرك، وانحرفت عن خطّ الرسالة التي جاء بها موسى(ع)، [ولا نصرانياً] إذ لا يُمكن أن يكون نصرانياً، لأنَّ النصرانية انطلقت في تفاصيل وأجواء ابتعدت بها عن القواعد الصحيحة التي جاء بها عيسـى (ع)... [ولكن كان حنيفاً مسلماً] ولكنَّه كان حنيفاً مائلاً إلى الحقّ عن الباطل، مخلصاً للّه، في كلّ ما يعنيه الإخلاص للّه من صفاء التوحيد في العقيدة والإسلام للّه في كلّ شيء؛ وذلك من خلال ما حدّثنا اللّه به في آية أخرى: [إذ قال له ربُّهُ أسلِم قال أسلَمْتُ لربِّ العالمين * ووصَّى بها إبراهيمُ بنيه ويعقّوبُ يا بنيَّ إنَّ اللّه اصطفى لكُمُ الدِّينَ فلا تمُوتُنَّ إلاَّ وأنتم مُسلمُون] (البقرة:131ـ132). ومنه انطلقت صفة المسلمين لكلِّ من أسلم وجهه وحياته للّه، فاتبع أمر اللّه ونهيه في كلِّ شيء، ولـم يُشرك بعبادة ربِّه أحداً؛ وذلك هو قوله تعالـى: [ملَّةَ أبيكم إبراهيم هو سمَّاكُمُ المسلمين من قبلُ] (الحج:78). وبذلك كان انتماء إبراهيم الأصيل إلى الإسلام الحـقّ الذي يمثِّل الخطّ العريض لكلِّ الديانات السَّماوية من قبله ومن بعده، لأنَّها تدعو إلى عبادة اللّه والإسلام إليه وحده... وهكذا كانت رسالة محمَّد (ص) إسلاماً للّه، لأنَّها تمثِّل الدعوة الخالصة إلى التوحيد في كلِّ مجالات العقيدة والعاطفة والعمل...

وربَّما كان قوله تعالى: [وما كان من المشركين] إشارة إلى ما كان يدّعيه المشركون من عرب الجاهلية، ولا سيّما من كان منهم في مكة من القرشيين، أنَّهم على دين إبراهيم والدين الحنيف، حتّى كان أهل الكتاب يسمّونهم بالحنفاء، وبهذا اتخذت كلمة الحنفاء معنى مغايراً للمعنى الحقيقي، فأصبحت تدل على الاتجاه الباطل الذي يميل فيه النّاس عن الحقّ إلى الباطل، باعتبار أنَّ العرب كانوا يلتزمون «الحنفية الوثنية»، فجاءت هذه الآية لتنفي هذه النسبة إلى إبراهيم (ع)، فهو لـم يكن يهودياً يحمل خطّه انحراف اليهودية، ولـم يكن نصرانياً يلتزم انحراف النصرانية، ولـم يكن مشركاً ينسجم مع طريقة أهل الشرك في عبادة الأصنام بحجّة أنَّها تقرّبهم إلى اللّه زلفى، بل كان حنيفاً بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة التي تعني في كلِّ مضمونها الاستقامة على طريق الحقّ في العقيدة، والعمل بالميل عن خطّ الانحراف إلى خطّ الاستقامة، وكان مسلماً بالمعنى الشامل للإسلام الذي يعني إسلام الفكر والقلب والحركة والحياة للّه في كلِّ أموره... وهو الخطّ التوحيدي في العقيدة والعبادة والطاعة الذي يمثِّل إبراهيم (ع) عنوانه في كلِّ كلماته ومواقفه ومنطلقاته.

* * *

الاتباع يحدّد العلاقة:

[إنَّ أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوه]. ثُمَّ يطرح اللّه سبحانه علاقة إبراهيم بالنّاس وعلاقة النّاس به، فليست العلاقة بأصحاب الرسالة علاقة نسب تمنح الآخرين أولويّة به، وتعطيهم امتيازاً على بقية النّاس في رابطة القرب به، لأنَّ هؤلاء العظماء يفقدون خصوصياتهم باندماجهم بالقضايا العامّة، فتتحوّل علاقتهم بالآخرين إلى علاقة رسالة وفكر وعمل، ويتحوّل الانتماء إليهم إلى الانتماء لما يمثِّلونه من رسالة الفكر والعمل، لأنَّها أصبحت كلّ حياتهم. وفي ضوء ذلك، يقرّر اللّه لأهل الكتاب القول الفصل في خطّ هذه الحقيقة، فليس أولى النّاس بإبراهيم (ع) هم الذين ينتمون إليه بالنسب، بل هم الذين ينتمون إليه في العقيدة والعمل من الذين اتَّبعوه في حياته وبعد مماته، [وهذا النبيُّ] الذي يحمل رسالة الإسلام التي أوحى بها اللّه إليه سائرٌ على الخـطّ نفسه الذي سار عليه إبراهيم (ع)، وبعمق الروح التي انطلق معها، إن لـم تكن أعمق، [والذين آمنوا] بهذا الرسول، لأنَّ الإيمان به إيمان بالخطّ الرسالي الإسلامي الذي يمثِّله إبراهيم (ع) في رسالته وفي حياته، ويلتقي الجميع في خطّ الولاية للّه، [واللّه وليُّ المؤمنين] بما يرعاهم برعايته، ويهديهم بهدايته، ويمنحهم لطفه ورحمته ورضوانه.

ويعلِّق الإمام عليّ (ع) ـ في ما روي عنه ـ على هذه الآية بقوله: إنَّ وليّ محمَّد من أطاع اللّه وإن بعُدت لُحمته، وإنَّ عدوّ محمَّد من عصى اللّه وإن قرُبت قرابته[4]. وبذلك يُعطي الإمام عليّ (ع) امتداداً في ما يستوحيه من الآية، فإذا كان أولى النّاس بإبراهيم الذين اتَّبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا، فإنَّ ذلك لا يقف أمام شخص إبراهيم (ع)، بل يمتد مع كلِّ نبيّ أو رسول أو عامل في سبيل اللّه، في ما تمثِّله القرابة في حياته في خطوط القُرب والبُعد، من حيث علاقة ذلك بالسير على خطّ الرسالة والابتعاد عنه. ولهذا أمكن أن نستوحي الآية في كلِّ شخص تمتد حياته إلى أبعد من حدود ذاته، كما أكّد رسول اللّه من خلال القرآن الكريـم على بُعد أبي لهب عنه مع قربه من نسبه، وأثار قرب سلمان الفارسي منه، من خلال الحديث المأثور عنه: «وإنَّما صار سلمان من العلماء لأنَّه امرؤ منّا أهل البيت فلذلك نسبه إلينا»[5] مع بُعده عن نسبه. وهذا هو الأساس الذي تتحرّك فيه العاطفة الإسلاميّة، وتنطلق منه الروابط الإسلاميّة، فيكون الإسلام هو الذي يربطك بالآخرين، كأقوى ما تكون الرابطة، بحيث تعلو عن سائر الروابط الأخرى من عائلية أو إقليمية أو قوميّة، في كلّ ما تفرضه الرابطة القوية من نصرةٍ وتأييدٍ وحركةٍ وانتماء. وهذا هو المفهوم الإسلامي الذي نستوحيه من الآية في ضوء ملاحظة الإمام عليّ(ع).

ــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج :2، ص:768.

(2) (م.ن)، ج:2، ص:769.

(3) البحار، م:16، ج :48، ص:128، باب:8، رواية:7.

(4) مجمع البيان، ج:2، ص:770.

(5) البحار، م:1، ج:2، باب:26، ص:462، رواية:25.