من الآية 69 الى الآية 71
الآيــات
{ودَّت طائفةٌ من أهل الكتاب لو يُضِلُّونَكُم وما يُضِلُّونَ إلاَّ أنفسهم وما يشعُرون* يا أهل الكتاب لِمَ تكفُرون بآيات اللّه وأنتم تشهدونَ * يا أهل الكتاب لِمَ تلبِسُونَ الحقَّ بالباطِلِ وتكتُمُونَ الحقَّ وأنتم تعلمُونَ} (69ـ71).
* * *
معاني المفردات:
[ودَّت]: تمنت. قال صاحب مجمع البيان: لما كان لفظ "ودَّت" بمعنى تمنّى صلح للماضي والحال والاستقبال، فلذلك جاز بـ «لو»، وليس كذلك المحبة والإرادة، لأنَّهما لا يتعلّقان إلاَّ بالمستقبل، فلا يجوز أن يُقال أرادوا لو يضلونكم، لأنَّ الإرادة تجري مجرى الاستدعاء إلى الفعل أو مجرى العلّة في ترتيب الفعل، فأمّا التمني فهو تقرير شيء في النفس يستمتع بتقريره؛ والفرق بين «ودّ لو تضلّه» وبين «ودّ أن تضلّه» أنَّ «أن» للاستقبال وليس كذلك «لو»[1].
[تَلبِسُونَ]: تخلطون وتضلِّلون بأن تجعلوا الباطل لباساً على الحقّ تسترونه به تمويهاً ومخادعة، وهو ما يسمّى بـ «التضليل الإعلامي».
[وتَكتُمونَ]: تخفون في أنفسكم ولا تعلنون. والكتمان هو الشر والإخفاء، وهو ما يُسمّى بـ «التعتيم الإعلامي».
* * *
مناسبة النزول:
جاء في أسباب النـزول ـ للواحدي ـ أنَّ الآية نزلت في معاذ بن جبل وعمّار بن ياسر حين دعاهما اليهود إلى دينهم[2].
* * *
أسلوب اللبس والكتمان:
[ودَّت طائفةٌ من أهل الكتاب] وذلك من خلال تمنياتهم التبشيرية بأفكارهم التضليلية وأساليبهم الملوّنة، [لو يُضِلُّونَكُم] وذلك من خلال ما يملكونه من وسائل التضليل الفكري بالشبهات المتنوعة، التي تثير في عقولكم الريبة، وتحرّك الشكّ في عملية استغلال للطهارة الذاتية المتمثّلة في أخلاقكم الطيبة التي قد تشعر بالثقة بالآخرين، فتستسلم لها في حركة العلاقة الإنسانية، فتقع تحت تأثير مكائدهم الشيطانية من دون شعور، فإنَّ الطيبة قد تصنع للإنسان الغفلة عن تعقيدات الواقع الذاتي لهذا الشخص أو ذاك، أو لهذا الاتجاه أو ذاك، ولهذا لا بُدَّ للإنسان المؤمن من أن يكون الإنسان الواعي الذي يدرس الواقع في ساحته، من خلال طبيعة الظروف الموضوعية المتصلة بالأشخاص والأحداث والأوضاع والأشياء، حتّى يعرف كيف يحرّك مواقعه ومواقفه في علاقته بالنّاس وبالحياة في عالـم الصراع بين الأفكار أو بين النّاس.
[وما يُضِلُّونَ إلاَّ أنفسَهُم] لأنَّهم يستغرقون في تأكيد خطّتهم في إضلال الآخرين بالأوهام التي يختلقونها، والأكاذيب التي يحرّكونها، والأوضاع المنحرفة التي يصنعونها... فتتحوّل بفعل الحالة الاستغراقية إلى قناعات ذاتية تجعلهم يستغرقون في الضلال في تأثيراته اللاشعورية، [وما يشعُرُونَ] تماماً كالكثيرين من النّاس الذين يعيشون الغفلة عن ذواتهم عندما يلتقون ببعض الأشياء التي تترك آثارها في نفوسهم بغير اختيار، وذلك هو قوله تعالى: [يا أهل الكتابِ لِمَ تكفرونَ بآيات اللّه] التي أنزلها على محمَّد في القرآن [وأنتُم تشهدُونَ] من خلال ثقافتكم التوراتية أو الإنجيلية التي تؤكّد صدق النبيّ محمَّد (ص) في دعوته، وذلك من خلال البشارة بنبوّته، ومن خلال الحجج الكثيرة الدالة على ذلك التي استمعتم إليها من رسول اللّه.
[يا أهلَ الكتابِ لِمَ تلبِسُونَ الحقَّ بالباطِلِ] وتلعبون على الموقف، فتقومون ببعض الأساليب التي قد تخلط الحقّ بالباطل، للإيحاء بالاستبعاد عن الالتزام بالإسلام، وذلك كما في تحريفكم التوراة والإنجيل، فتقدّمونهما إلى النّاس باعتبار أنَّهما من وحي اللّه، ولكن من دون تقديـم الصبغة الأصلية للآية هنا أو هناك، وكما في تقديـم التوراة أو الإنجيل مع تحريف الكلم عن مواضعه من حيث وضع الكلمة في غير موضعها، أو إبعاد الكلام عن معناه بالإيحاء بأنَّ المراد به معنى آخر، أو بإخفاء بعض الآيات المبشرة بالنبيّ محمَّد (ص) وإظهار أنَّ التوراة خالية من ذلك، أو بالدخول في الإسلام صدر النهار والخروج منه آخره، لإيجاد حالة من الاهتزاز العقيدي في نفوس المسلمين، لما يثيره ذلك في نفوسهم من الشك، باعتبار دلالته على أنَّهم اطلعوا على ما يوجب اعتقادهم بالبطلان، مع أنَّهم مقبلين على الإسلام بإخلاص، أو غير ذلك [وأنتُم تعلمُونَ] الذي تعرفونه، فلا تبينونه للنّاس فأنتم على علمٍ بأنَّه الحقّ من ربِّكم، وقد أراد اللّه من كلِّ عالـم بالكتاب أن يبينه للنّاس، لأنَّ الحقّ أمانة اللّه عندهم، بحيث تكون عملية الإخفاء والكتمان خيانة للأمانة.
لقد وقف المعقَّدون الحاقدون من أهل الكتاب موقف الحقد والعداوة من الإسلام والمسلمين في كيدهم المستمر للإسلام من خلال ما يثيرونه من أفكار الضلال وأساليب التضليل، وذلك من أجل أن ينحرفوا بالمسلمين عن الخطّ المستقيم، انطلاقاً من العقدة، لا من القناعة المرتكزة على وضوح الرؤية... وبذلك كانت القضية تمثِّل لديهم أمنيةً، فهم يودّون للمسلمين الضلال، فيتحيّنون الفرصة لإثارة التشكيك لديهم في شؤون العقيدة والشريعة والحياة... وليست القضيّة لديهم أنَّهم يريدون تحويلهم إلى صفوفهم، بل كلّ ما هناك أنَّهم يضلونهم عن طريقهم الحقّ...
* * *
وما يضلون إلاَّ أنفسهم والبسطاء:
... ويؤكّد القرآن بأنَّ هذه المحاولات لن تنجح ولن تصل إلى أهدافها الشيطانية، بل سترتدّ ضلالاً على أصحابها، لأنَّهم كلّما أمعنوا في أساليبهم تلك، كلّما ابتعدوا بأنفسهم عن خطّ الهدى، فإنَّ السائر على خطّ الضلال والعامل على إضلال الآخرين، لا بُدَّ له من العمل على الامتداد بعيداً في أجواء الضلال، ومن ابتداع أفكارٍ وأساليب متنوّعة للضلال بحيثُ يختزنها في أعماقه، ويؤمن بها في فكره، ويعيشها في حياته وخطواته، الأمر الذي يجعلهم يمتدون في الضلال والانحراف من ناحيةٍ ذاتيةٍ... وبذلك يضلّون أنفسهم، ولا يضلّون المؤمنين الواعين الذين يرصدون خطوات الأعداء جيِّداً، فيتنبهون لما يحاولونه من إبعادهم عن دينهم الحقّ... بينما يكون أولئك مندمجين في اللعبة، غارقين في الحقد، فلا يشعرون بنتائجها الوخيمة عليهم.
ثُمَّ إنَّ اللّه يُخاطب أهل الكتاب الذين أنكروا رسالة النبيّ محمَّد(ص)، فيواجههم بآياته البينات التي يشهدونها ويرونها رأي العين، ويعيشونها في أفكارهم بعمق، ليتساءل بتأنيبٍ وإنكار وتوبيخ: لماذا هذا الكفر بالحقائق الواضحة التي لا لُبس فيها ولا ارتياب؟ كيف يمكن للإنسان أن يكفر بما يشهد به وجدانه ثُمَّ يؤكّده مجدداً، عندما يقف وقفة صراحة أمام الوجدان؟ وهذا فيه إشارة إلى الأساليب التي كانوا يُمارسونها ضدَّ الرسول، فهم يعرفون الحقّ من خلال ما تصرّح به التوراة من صدق رسول اللّه (ص)، ولكنَّهم يكتمونه عن النّاس، فإذا ظهر للنّاس شيء من ذلك أو أقبلوا عليه، حاولوا أن يضيفوا إليه بعض الباطل من أجل أن يجعلوا القضية في موقع الالتباس والشك لدى البسطاء من النّاس الذين لا يستطيعون في كثيرٍ من الحالات تمييز الحقّ من الباطل في مواقع الشبهات...
* * *
المستشرقون وأساليب اللبس والتضليل:
وقد لاحظنا في خطوات أهل الكتاب من اليهود والنصارى في حركة التبشير التي قادها المبشرون والمستشرقون الذين ساروا في الكتائب الأولى للاستعمار، أنَّهم حاولوا أن يثيروا الأكاذيب والافتراءات ضدَّ الإسلام ورسوله، وعملوا على تشويه وجه الصورة الحقيقية بما يضيفونه من شبهات تبعث الريب في ما لا ريب فيه، وتثير الشك في ما لا يترك مجالاً للشك. وما زالت الإثارة الحاقدة تتنوّع وتتلوّن بأساليب مختلفة، من خلال ما يحقّقونه من نصوص، وما يفسِّرونه من تفسيرات، وما يطلقونه من أبحاث ودراسات يلبسون فيها الحقّ بالباطل معتمدين على الأوضاع السلبيّة التي يمرّ بها المسلمون، وعلى الثقة العلمية التي يحصلون عليها من خلال أكذوبة الحياد الفكري، والموضوعية العلمية التي يتظاهرون بها بإزاء الضعف النفسي والفكري والروحي لدى الجمهرة المثقّفة والمتعلّمة من المسلمين، ما يجعلهم لا يلتفتون إلى الخديعة العلمية، في ما ينطلق به هؤلاء من بعض قضايا الحقّ في الإسلام التي لا تمسُّ الجوهر، بينما يعملون ـ في مقابل ذلك ـ على تشويه القضايا الأصلية الحيّة، بكثير من ألوان الباطل وأساليبه.
وربَّما كانت هذه الآية ـ من خلال ما توحيه إلينا ـ تمثِّل أسلوباً من أساليب التوعية القرآنية التي تفتح أعين المسلمين على ما حولهم من خطوات الضلال ومؤامرات التضليل، وعلى مَنْ حولهم من فئات الضلال التي تختبئ وراء الحكم تارةً، وخلف المراكز العلمية أخرى، وفي إغراءات المال والشهوات والأطماع ثالثة، ليخرجوا من جوّ السذاجة في تعاملهم مع الآخرين، فيكون الحذر هو الذي يطبع علاقاتهم في ما يسمعونه ويتحرّكون فيه من علاقات ومعاملات ومشاريع للثقافة والحياة، فإذا تـمّ لهم ذلك أمكنهم أن يحقّقوا الحماية لأنفسهم من كيد الكائدين وحقد الحاقدين، فإنَّ المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين.
ــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:7770ـ771.
(2) الواحدي، أبو الحسن، علي بن أحمد، أسباب النزول، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1414هـ ـ 1994م، ص:60.
كتب متعلقة بالحج
كتاب صحيح الدعوات
شرح أدعية الصحيفة السجادية
شرح دعاء كميل
تفسير القرآن