من الآية 72 الى الآية 74
الآيــات
{وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزِلَ على الذين آمنوا وجه النَّهارِ واكفروا آخرهُ لعلَّهُم يرجِعون * ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبِعَ دينَكُم قُل إنَّ الهُدى هُدَى اللّه أن يُؤتى أحدٌ مِثلَ ما أوتِيتُم أو يُحَاجُّوكُم عند ربِّكُم قُل إنَّ الفَضلَ بيدِ اللّه يُؤتِيهِ من يَشَاءُ واللّهُ واسِعٌ عليمٌ * يختَصُّ برحمَتِهِ مَن يَشَاءُ واللّهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ} (72ـ74).
* * *
معاني المفردات:
[طائفَةٌ]: الطائفة: الجماعة، وفي أصلها ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ قولان: أحدهما: أنَّه كالرّفقة التي من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع عليه الاجتماع، والآخر: أنَّها جماعة يستوي بها حلقة يُطاف حولها[1].
[وَجْهَ النَّهارِ]: أوّله، وسُمّي وجهاً لأنَّه أوّل ما يواجهك منه، كما يُقال لأوّل الثوب: وجه الثوب، وقيل: لأنَّه كالوجه في أنَّه أعلاه وأشرف ما فيه.
[يرجِعُونَ]: يعودون ويرتدون عن دينهم.
* * *
مناسبة النزول:
جاء في أسباب النـزول، للواحدي، «قال الحسن والسدّي: تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمَّد أوّل النَّهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النَّهار، وقولوا: إنّـا نظرنا في كُتُبنا وشاورنا علماءنا، فوجدنـا محمَّداً (ص) ليس بذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم، وقالوا: إنَّهم أهل كتاب وهم أعلم به منّا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم؛ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وأخبر نبيّه محمَّداً (ص) والمؤمنين.
قال مجاهد ومقاتل والكلبي: هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم، قال كعب بن الأشرف وأصحابه: آمنوا بالذي أنزل على محمَّد من أمر الكعبة، وصلّوا إليها أول النَّهار، ثُمَّ اكفروا بالكعبة آخر النَّهار، وارجعوا إلى قبلتكم الصخرة، لعلّهم يقولون: هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منّا، فربَّما يرجعون إلى قبلتنا؛ فحذّر اللّه تعالى نبيّه مكر هؤلاء، وأطلعه على سرّهم، وأنزل: [وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب] الآية»[2].
ونُلاحظ أنَّ هؤلاء المتحدّثين عن أسباب النـزول لـم يستندوا في ذلك إلى رواية، بل انطلقوا في اجتهاداتهم في فهم الآية ومحاولة تطبيقها مما يفهمونه من الجوّ العام لليهود في الوقوف المضادّ للإسلام، أو مما جاء في آية تحويل القبلة إلى الكعبة، ولذلك فإنَّنا ننقل كلامهم من خلال تقديـم صورة تفسيرية إيحائية اجتهادية لا من خلال توثيق الرأي للاعتماد على حجّة شرعية من رواية معتبرة أو نحوها. وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ الأقرب إلى جوّ الآية الوجه الأول لا الأخير، لأنَّ الظاهر أنَّ القضية واردة في مسألة الإيمان بالإسلام والكفر به، لا في مورد خاص كالقبلة ونحوها.
* * *
أسلوب جديد للتضليل وزعزعة عقيدة المسلمين:
وهذا أسلوب جديد من أساليب التضليل والتشكيك التي كان بعض أهل الكتاب يُمارسونها ضدَّ الإسلام والمسلمين، فقد طلبوا من بعض جماعتهم أن يدخلوا في الإسلام في أوّل النَّهار، ليحرزوا الثقة لدى المسلمين بذلك، لأنَّه يدلُّ على عدم التعصب لليهودية، بل يوحي بالحياد الفكري الذي يجعل الإنسان مستعداً للانتماء إلى غير دينه وفكره من موقع الحجّة والقناعة. [وقالت طائفةٌ من أهل الكتابِ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا] وهم المسلمون [وجهَ النَّهارِ] أي أوله، [واكفروا آخِرَهُ لعلَّهُم يرجِعُونَ] عن دينهم من خلال حالة الاهتزاز التي تُثيرها هذه الحركة في وجدانهم الديني، وذلك قوله تعالـى: [ولا تؤمنوا إلاَّ لِمَن تَبِعَ دينكُم] أي: لا تطمئنوا إلاَّ لليهود في الحديث عن قضاياكم الخاصّة وأسراركم الخفية، لأنَّ الوثوق بالآخرين قد يفضح الكثير من الأوضاع الداخلية الذاتية أو الخطط الخفية التي يدبّرها اليهود للمسلمين، ما يؤدّي إلى انكشاف السرّ، وإحباط الخطط، وسقوط الموقف.
فإذا حصلوا على هذه الثقة وأحرزوها، وضمنوا لأنفسهم امتداداً روحيّاً وجوّاً حميماً في علاقتهم بالمسلمين، قاموا بتغيير الموقف في آخر النَّهار، فرجعوا إلى ما كانوا عليه من رفض للإسلام، للإيحاء للمسلمين بأنَّهم اطّلعوا على عقيدة الإسلام من خلال دخولهم فيه، فظهر لهم ـ بحسب دعواهم ـ ما فيه من نقائض ومفاسد وقضايا باطلة، لـم يكونوا مدركين لها من قبل، ولهذا كفروا به بعد أن آمنوا به، لأنَّهم طلاب حقّ وصدق، ولولا ذلك لما انحازوا إلى خطّ المؤمنين في البداية، ليدفع ذلك المؤمنين إلى التراجع عن الإسلام، أو يدعوهم إلى الشكّ فيه على أبعد التقادير. ولما كانت هذه الخطّة التي وضعوها بحاجة إلى السريّة التي تحمي لها نجاحها، كان لا بُدَّ من أن يضرب حولها نطاق من السريّة، ولهذا انطلقت التوجيهات اليهوديّة لجماعتهم الذين يُراد منهم تنفيذ الخطّة، أن لا يؤمنوا، أي لا يطمئنوا ـ بقرينة التعدي باللام ـ إلاَّ لليهود التابعين، لأنَّهم الذين يُحافظون على السرّ بإدراكهم خطورته عليهم وعلى طبيعة الخطّة الموضوعية.
وهذا ما نستظهره من الآية، بأن تكون الجملة تابعة لما قبلها لأنَّها من مستلزمات نجاح الخطّة؛ وربَّما كانت جملةً مستقلة تدعو اليهود إلى الحذر من غيرهم في ما لديهم من أسرار في هذا الموضوع وغيره... وهذه من خِصال اليهود في سائر العصور من خلال ما يمثِّلونه من المجتمع المنغلق على قضاياه الذي وضع بينه وبين الآخرين حاجزاً نفسياً ومادّياً من موقع الشعور بالرفعة على من عداه، ومن موقع الإخلاص لسلامة القضايا التي يعملون من أجلها...
* * *
إشراقات إلهية:
ذلك هو حديثهم في ما أرادوه من الكيد للإسلام، ولكنَّ اللّه يريد لرسوله أن يردّ عليهم بالكلمة الحاسمة التي تضع القضية في نصابها الصحيح. فليس الهدى حالةً طارئة يحصل عليها الإنسان بأيّ ثمن، بل هو الينابيع الروحية التي تتفجّر في قلب الإنسان، فتملأ حياته خصباً وحيويةً وإيماناً، والإشراقات الإلهية التي تفتح قلبه على الحقّ وتضيء له طريق الهدى، والفكر النيّر المنفتح الذي يحلّق نحو الحقيقة لينطلق معها في رحاب اللّه. [قل إنَّ الهُدى هُدى اللّه] فمن الذي يستطيع أن يقف أمامه، أو يطفئ نوره؟!
ويقول الرسول كلمته، أو هكذا يريد اللّه منه أن يقول إذا قام هؤلاء بما يريدون القيام به. ثُمَّ يُتابع الحديث فيما يتناجون به، فقد كانوا يقولون لأتباعهم: لا تطمئنوا إلاَّ لمن تبع دينكم، ولا تحدّثوهم بما لا ينبغي الحديث عنه مما تعرفونه من قضايا الحقّ والباطل، فإذا حدثتموهم به، فقد يكون ذلك عليكم حجّة عند ربِّكم يُحاجُّوكم به، لأنَّكم أقررتـم به. وقد أشار القرآن إلى أنَّ من جملة ذلـك هو الإقرار بأن يؤتى أحد من غير بني إسرائيل مثل ما أوتيتم من النبوّة والرسالة [أن يُؤتى أحدُ مِثلَ ما أوتيتُم أو يُحاجُّوكُم عِندَ ربِّكُم]، فقد أريد لهم أن ينكروا ذلك، وهم يعرفونه، ولذا كانوا يزعمون بأنَّ النبوّة مختصة ببني إسرائيل، فينكرون رسالة الرسول من خلال ذلك[3]. ولكنَّ اللّه يُريد من رسوله أن يردّ عليهم كيدهم وضلالهم، فيعرّفهم أنَّ القضية ليست بيدهم، فاللّه هو الذي أعطى الرسالة لأنبياء بني إسرائيل، وهو الذي أعطاها لمحمَّد رسوله... [قل إنَّ الفضلَ بيدِ اللّه يُؤتيهِ من يشاءُ]، ويُعطيه لمن يريد [واللّهُ واسعٌ] في عطائه الذي لا يضيق فضله عن أحد، [عليمٌ] يعرف ما يصلح الإنسان وما يُفسده، فيوجهه إلى ما فيه الخير له في الدُّنيا والآخرة، انطلاقاً من رحمته التي وسعت كلّ شيء، فهو الذي [يختصُّ برحمتِهِ من يَشاءُ] بحسب حكمته [واللّه ذُو الفضلِ العظيمِ]، وهو صاحب الفضل العظيم على النّاس كافةً، وليس لأحد غيره أيّ فضل. فمنه الفضل وإليه يرجع كلّ شيء سبحانه وتعالى عمّا يُشركون.
* * *
الآية في حركة الدعوة إلى اللّه:
أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات، فهو التحرّك الواعي من أجل رصد النماذج المماثلة في الساحة الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، فقد يُحاول الكثيرون أن يخلقوا الارتباك والتشويش والبلبلة في صفوف المسلمين بالأساليب المماثلة لهذا الأسلوب؛ فلا بُدَّ لنا من الوقوف أمام ذلك كلّه بالمنطق القرآني الذي يبعث الثقة في نفوس المؤمنين ويوجههم إلى الاعتماد على اللّه في ذلك كلّه، ويوحي إليهم بأنَّ هذه الأساليب لا تضرّ أحداً إذا كان على بيّنة من أمره، ويدفعنا إلى التأكيد على أسلوب التوعية للمسلمين في عقائدهم ومفاهيمهم لئلا يضلوا من حيث لا يعلمون.
وقد نستطيع أن نستفيد من هذا كلّه أنَّ أعداء اللّه قد يكتمون كثيراً من حقائق الإيمان الموجودة في الساحة من أجل أن لا تكون حجّةً عليهم في الدُّنيا والآخرة، أو لا يبرز لخطوط الإسلام فضلٌ من فكر أو عمل؛ ليظهروا أمام النّاس أنَّهم أصحاب الفضل، فلا فضل لغيرهم في أيّ جانب من جوانب الحياة. وفي هذه الحالة لا بُدَّ لنا من أن نحتفظ لأنفسنا بجوّ الثقة الذي نستطيع من خلاله أن ننهزم نفسياً أمام هذا الإنكار للخصائص الذاتية الكامنة فينا، عندما نلتفت إلى اللّه، فنعرف أنَّه صاحب الفضل علينا وعلى الآخرين، فهم لا يستطيعون أن يقدّموا أو يؤخروا شيئاً في الموضوع، ولا يمكنهم إخفاء ما يريد اللّه إظهاره، أو إظهار ما يريد اللّه كتمانه؛ فإنَّه ولي الأمر في كلّ شيء.
ــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:773.
(2) أسباب النزول، ص:60.
(3) قال في الكشاف: {ولا تؤمنوا} متعلق بقوله: {أن يؤتى أحد} وما بينهما اعتراض، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام {أو يحاجّوكم عند ربّكم} عطف على {أن يؤتى} والضمير في يحاجوكم لأحد، لأنه في معنى الجميع بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة. فإن قلبت: فما معنى الاعتراض؟ قلت: معناه أن الهدى هدى الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام، كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيفكم وتصدّيكم عن المسلمين والمشركين. وكذلك قوله تعالى: {قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}. [تفسير الكشاف، ج:1، ص:437].
تفسير القرآن