من الآية 75 الى الآية 76
الآيتـان
{ومن أهلِ الكتابِ من إن تأمنهُ بِقِنطارٍ يُؤدِّهِ إليك ومِنهُم مَن إن تأمَنهُ بدينَارٍ لا يُؤدِّه إليكَ إلاَّ ما دُمتَ عليهِ قائماً ذلكَ بأنَّهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ ويقُولُون على اللّهِ الكَذِبَ وهُم يَعلَمُونَ * بَلَى مَن أوفَى بِعهدِهِ واتَّقَى فإنَّ اللّهَ يُحِبُّ الـمُتَّقِينَ} (75ـ76).
* * *
معاني المفردات:
[بِقِنطارٍ]: مال كثير وعظيم، وقد مرّ سابقاً.
[بِدينَارٍ]: كناية عن المال القليل، والدينار: مثقال شرعي من الذهب يُساوي نحو نصف ليرة عثمانية.
[قائماً]: في المطالبة والحجّة والمقاضاة، مستمراً ومُلحاً في مطالبته.
[الأميين]: غير الإسرائيلي، أو غير أهل الكتاب باعتبارهم يعيشون الهمجية والأمية والتخلّف كما تنظر الدول الكبرى اليوم للآخرين.
[سبيلٌ]: حجّة، فلا سبيل لغير أهل الكتاب على أهل الكتاب، فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا من قتلٍ ونهبٍ وسلبٍ.
* * *
مناسبة النزول:
قال صاحب مجمع البيان: عن ابن عباس قال: يعني بقوله: [مَن إن تَأمَنهُ بِقِنطارٍ يُؤَدِّهِ إليكَ] عبد اللّه بن سلام أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدّاه إليه، فمدحه اللّه سبحانه. ويعني بقوله: [مَنْ إن تَأمَنهُ بِدينَارٍ لا يُؤدِّهِ إليكَ] فَنْحاص بن عازوراء، وذلك أنَّ رجلاً من قريش استودعه ديناراً فخانه، وفي بعض التفاسير أنَّ الذي يؤدّي الأمانة النصارى، والذين لا يؤدّونها اليهود[1].
* * *
مفهوم خاطئ عند أهل الكتاب:
في هذه الآيات تقرير عن مفهوم خاطئ يحمله أهل الكتاب عن طبيعة النظرة إلى أموال الآخرين من غيرهم من الشعوب في ما يضعونه عندهم من أمانات، أو ما يقع تحت أيديهم من أموالهم، وخلاصتها أنَّ اللّه قد رخص لهم في استحلال هذه الأموال لأنفسهم، فيجوز لهم الامتناع عن إرجاع الودائع إلى أصحابها، كما يجوز لهم أخذها غيلةً وسرقة وبغير ذلك من الأساليب... وذلك انطلاقاً من المفهوم العامّ الذي يعيشونه في داخل أنفسهم من احتقار الأميين، وهم العرب على تفسير، أو غير اليهود على تفسير آخر، ما يعني عدم احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم... وفي ضوء ذلك، لا يمكن أن تأتمن أحداً منهم على شيء من مالك، لأنَّ الائتمان يتحرّك من خلال المفهوم النفسي والروحي والأخلاقي الذي يعتبر الأمانة في داخل الذات في مركز القاعدة الروحيّة والأخلاقيّة التي تتفرع عنها الممارسات، فإنَّ الأخلاق ليست عملاً طارئاً يُمارسه الإنسان في مظاهر معينة من أفعاله، بل هو ملكة نفسية دافعة للعمل، فإذا كانت القاعدة لديهم عدم احترام أموال الآخرين، فكيف يمكن أن يتحقّق الائتمان بشكل طبيعي؟!
ولكن ليس معنى ذلك أنَّ أهل الكتاب بأجمعهم هم من يخونون الأمانات ولا يؤدّونها، بل ربَّما تجد بعض النماذج الأمينة من موقع تربيةٍ ذاتية معينة، تغرس في داخله روح الأمانة بعيداً عن مفهوم الرخصة الدينيّة المتوهمة. فإذا ائتمنته على قنطار ـ وهو المال الكثير ـ أداه إليك، كما تجد النموذج الذي لا تستطيع أن تأتمنه على أيّ مال مهما كان قليلاً كالدينار، لأنَّه سوف ينكره ولا يؤدّيه إلاَّ إذا كنت قائماً عليه، بكلّ ما تملكه من أساليب الضغط والمقاومة والمحافظة على المال. فإنَّ مثل هذا النموذج لا يشعر بعقدة الذنب في ممارسته هذه، لاعتقاده بأنَّ ذلك حقٌّ له وحلالٌ عليه، ولكنَّ اللّه سبحانه ينكر عليهم هذا الزعم وهذه الرخصة، لأنَّه سبحانه يعتبر الأمانة عهداً بين الأمين وصاحب الأمانة، وبذلك يكون استحلالها خيانة لها واللّه لا يُحبُّ الخائنين، فكيف إذا جمعوا في أنفسهم الخيانة والكذب على اللّه في ما ينسبونه إليه من قولٍ باطل يعلمون بطلانه. إنَّ اللّه لا يُحبُّ هؤلاء، بل إنَّه يُحبُّ المتَّقين الذين يعتبرون العهد مسؤولية في أيّ جانب من جوانب الحياة، سواء كان ذلك في المال أو في الشؤون الأخرى الحياتية، فيرون الوفاء بعهده جزءاً من مسؤوليتهم تجاهه وتجاه النّاس من خلال ما يكلّفهم به من شؤون النّاس.
وذلك هو الأساس في حبّ اللّه لعباده، في ما ينطلقون فيه من أعمال، وما ينطلقون منه من ملكة التَّقوى في ما يريد وما لا يريد، وتلك هي قصّة الأمانة في التشريع الديني، أيّ تشريع كان، فإنَّ اللّه لـم يبعث نبيّاً إلاَّ بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر. حتّى الكافر الذي يحل لك قتاله لكفره وعدوانه، لا يحل لك خيانة أمانته. وقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق (ع): «ثلاثة لا عُذر لأحدٍ فيها: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبرّ الوالدين برين كانا أو فاجرين»[2].
الأمانة التزام ذاتي داخلي:
[ومِن أهلِ الكتابِ من إن تأمنهُ بقنطارٍ يُؤدِّه إليكَ] من خلال التزام ديني لا علاقة له بالخطّ الديني الذي ينتمي إليه، بل قد تكون المسألة ناشئة من بعض المؤثرات البيئية الاجتماعية التي قد تُربي الإنسان على بعض المفاهيم الإيجابية في قضايا الأمانة المالية، بحيثُ تتحوّل القضية لديه إلى ما يُشبه الخلق الراسخ في شخصيته. وقد تكون ناشئة من مصلحة اقتصادية في الحركة التجارية العامّة، باعتبار أنَّ الإنسان الأمين في معاملته مع الآخرين يحصل على الثقة العامّة في الوسط الاقتصادي، الأمر الذي يمنحه أكثر من فرصة للحصول على الأرباح من خلال المبادرات التي يقدّمها إليه الآخرون من أصحاب رؤوس الأموال في استثمار أموالهم عنده، وفي الدخول معه في شركةٍ تجارية أو غيرها.
[ومنهُم من إن تأمَنهُ بدينَارٍ لا يُؤدِّه إليكَ] إذا طالبته به، لأنَّه لا يملك أيّ التزام نفسي في موضوع الأمانة، فليست القضية لديه قضية مصلحة اجتماعيّة تتصل بمصالحه ليلتزم على أساس ذلك، بل القضية قضية عقدة ذاتية تدفعه للخيانة الصغيرة والكبيرة، ليحصل على بعض المكاسب المادية من خلال ذلك، مستغلاً غفلة الآخرين عنه وثقتهم به؛ ولذا فإنَّه يبقى في عملية انتهاز للفرص السانحة، فلا يمتنع عن الخيانة لك [إلاَّ ما دُمتَ عليهِ قائماً] بحيثُ تُلازمه وتُراقبه وتتقاضاه وتلحّ عليه، فلا تترك له أيّة فرصة للهروب أو للإنكار، بل يبقى في حصارك الذي يطبق عليه من خلال شهادة النّاس من حوله أو نحو ذلك، [ذلك بأنَّهُم قالوا ليس علينا في الأميين] وهم غير اليهود، [سَبِيل] أي مسؤولية دينية في أخذها عدواناً وخيانة، لأنَّ القانون الديني لـم يجعله اللّه ليقيّد اليهود في التزاماتهم ومعاملاتهم مع غيرهم، فقد أباح اللّه لهم أموال الآخرين ممن لا يُدينون بدينهم، فهم الشعب المختار للّه الذي جعل الدُّنيا امتيازاً لهم، وأراد للنّاس أن يكونوا خدماً لهم في مواقع الاستغلال المشؤوم. فلهم الحرية في تصرّفاتهم بأن يأخذوا ما يريدون ويدعوا ما لا يريدونه تبعاً لمصالحهم الذاتية بعيداً عن مسألة القيم الأخلاقية، لأنَّها لا تحكمهم في علاقاتهم بغير اليهود، بل تحكمهم في المجتمع اليهودي في الداخل.
[ويقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ] في نسبتهم له هذا التشريع الظالـم وهذه الإباحة للخيانة المالية للآخرين [وهم يعلَمُون] أنَّ اللّه أمرهم بأن يكونوا مثال الأمانة مع النّاس كلّهم، لأنَّ القيمة الأخلاقية لا تتجزأ لتكون إيجابية مع جماعة من النّاس وسلبيةً مع جماعة أخرى، لأنَّ علاقتها إنَّما هي بذات الإنسان في التزاماته الأخلاقية في نفسه بقطع النظر عن العناوين الأخرى المتصلة بالنّاس؛ فاللّه أراد للإنسان أن يكون صادقاً، لأنَّه أراد له الارتباط بالحقّ، فليس له أن يكذب على الكافرين، كما لا يجوز له الكذب على المؤمنين.
[بَلَى] إنَّهم يتحمّلون المسؤولية كاملة في الالتزام بالوفاء للآخرين بأداء الأمانة، ولا يملكون الحجّة في الخيانة بحجّة شرعته كما يقولون. [من أوفَى بعَهدِهِ] أي أنَّ الإنسان الذي وفى بِعهدِهِ من خلال مراقبته للّه [واتَّقَى] اللّه في أموره كلّها، بحيثُ كان يعيش الإحساس بالرقابة الإلهية الضاغطة على قراراته وحركاته، هو الذي يحصل على محبة اللّه ورضوانه، [فإنَّ اللّهَ يُحبُّ الـمُتَّقينَ] الذين يتحرّكون في الحياة على أساس أنَّهم عباد اللّه، الذين يلتزمون أوامره ونواهيه، ويخشون عقابه، ويرجون ثوابه، ولذلك كانت التَّقوى في التزاماتها الروحية والعملية هي مضمون حياتهم.
* * *
الآيات في خطى الحاضر:
ولا بُدَّ لنا في هذه الآيات من أن نقف وقفةً قصيرة أمام المفهوم الذي نستوحيه منها:
أولاً: وهو أنَّ الثقة بالإنسان، أيّ إنسان كان، لا بُدَّ من أن تستند إلى القاعدة الفكريّة والروحيّة والأخلاقيّة الموجودة في نفسه، لأنَّ الإنسان ليس هو ما يتحرّك فيه من أعمال، بل هو ما ينطلق منه من منطلقات، لأنَّها هي التي تكوّن الدوافع القويّة الضاغطة بشكلٍ شعوري أو غير شعوري عليه؛ فعلينا أن ندرس منطلقات كلّ إنسانٍ قبل أن نتعامل معه، أو نتعاهد معه، أو نأتمنه على مال أو نفس أو عرض أو قضية من قضايا الحياة العامّة والخاصّة، لأنَّ العهد لا يمثِّل شيئاً لدى الذين لا يرون الوفاء بالعهد مع بعض النّاس قيمةً أخلاقية مهمّة، ما يجعل من التعاهد لديهم أسلوباً من أساليب استغفال البسطاء والوصول إلى استغلالهم من خلال الثقة الساذجة.
وهذا هو الأساس في ما يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع الأفراد والدول والشعوب، لئلا يقعوا تحت تأثير القيم التي يؤمنون بها بحجّة أنَّ الآخرين لا يمكن أن ينفصلوا عنها. فقد لا يؤمن الآخرون بشيء، ولكنَّهم يرفعون شعاره، ليكون ذلك هو الطعم الذي يصطادون به الشعوب الضعيفة الفقيرة؛ كما نجده في الدول الكبرى التي تعتبر المعاهدات وسيلة لاستغلال الدول الصغرى، لتحصل على ما تريده من ثرواتٍ ومواقف، ثُمَّ عندما يأتي وقت الوفاء بالتزاماتها الذاتية تجاه تلك الدول الصغيرة، تبدأ في خلق المشاكل والمعوّقات والأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة الاستثنائية التي تجعلها في حِلٍّ من الوفاء. إنَّ هذه الآيات تتحرّك في خطّ التوعية التي تفتح عيون المؤمنين على الحياة، ليكونوا في موقع القوّة من الوعي، ولا يكونوا في موقف الضعف من الغفلة.
ثانياً: ربَّما نستوحي من تنديد اللّه باليهود في نظرتهم إلى الآخرين وعدم مسؤوليتهم عن أموال الآخرين، فلهم أخذها من دون مقابل، أنَّ اللّه سبحانه لا يُريد للمسلمين أن يأخذوا بهذه النظرة في تعاملهم مع غير المسلمين، فيحللوا لأنفسهم مصادرة أموالهم وسرقتها بحجّة عدم احترام الكافر، من حيثُ المبدأ، في نفسه وماله، إلاَّ أن يكون ذمياً أو معاهداً، بلحاظ قانون الذمة والعهد، وهذا ما درج عليه بعض الفقهاء الذين لا يرون العنوان الحربي أساساً لحلية أموال الكافرين للمسلمين، بل يرون الأصل عدم الاحترام إلاَّ في صورة الذمة والعهد، أخذاً ببعض الإطلاقات المتضمنة قوله (ص): «من قال لا إله إلاَّ اللّه محمَّد رسول اللّه، حقن بها ماله ودمه وعرضه»، وأمثال ذلك من الأحاديث التي تربط الاحترام بالإسلام، ما يجعل الكافر ممن لا حرمة له لكفره، ولكنَّنا ذكرنا في أبحاثنا أنَّ هذه الإطلاقات ليست واردة في مقام البيان من هذه الجهة ليؤخذ بمضمونها الإطلاقي، بل هي واردة في مقام بيان إهدار الإسلام مال الكافر ونفسه وعرضه بالحرب عن طريق الغنائم التي يحصل عليها المسلمون من الأموال المنقولة وغير المنقولة، وعن طريق الأسر والاسترقاق، أو القتل في حالة الحرب وفي الجرائم التي تتصل بها... فإذا نطق الكافر بالشهادتين فليس للمسلمين سبيل عليه في نفسه وماله وعرضه، فالقضية ـ حسب فهمنا ـ تتحرّك في دائرة إعلان الحرب عليهم في حالة البقاء على الكفر، وترك إعلانها ضدّهم في صورة الإسلام، وربَّما يتأيد هذا الرأي في قوله تعالى: [لا ينهاكُمُ اللّهُ عَنِ الذينَ لَم يُقاتِلُوكُم في الدِّينِ وَلَم يُخرجوكُم من ديارِكُم أن تَبرُّوهُم وتُقسِطوا إليهم إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المقسِطِينَ * إنَّما ينهاكُمُ اللّهُ عن الذينَ قاتلُوكُم في الدِّين وأخرجُوكُم من ديارِكُم وَظَاهَروا على إخراجِكُم أن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فأولئكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (الممتحنة:8 ـ 9)؛ فإنَّ الظاهر من هاتين الآيتين أنَّ الكافر الذي لـم يُعلن القتال على المسلمين ولـم يُخرجهم من ديارهم، بل كان موقفه موقف اللاحرب في خطّ السَّلام الطبيعي الذي يعيشه النّاس مع بعضهم البعض ـ من دون معاهدة أو ذمة بالمعنى المصطلح العقدي للمسألة ـ يستحق التعامل معه بالبرّ في تقديـم الخير له بكلّ ألوانه، وبالعدل ـ بمفهومه العام ـ الذي يقتضي أنَّ له الحقّ في ذلك، باحترام ماله ونفسه وعرضه وعدم الاعتداء عليه إلاَّ بالحقّ، ومقتضى ذلك أنَّ الكفر لا يُساوي عدم الاحترام، بل الحرب بمضمونها المباشر وغير المباشر هي التي تقتضي ذلك.
وهذه الآية تحمل الكثير من الإيحاء بأنَّ الخلاف في الدِّين لا يُبرر ـ بمجرده ـ إهدار حرمة الآخرين، فإنَّ اللّه ذمّ اليهود على ذلك، وربَّما يرى بعض الفقهاء أنَّ الآية لا تدل على أكثر من وجوب أداء الأمانة لا وجوب احترام المال، ونحن نرى للأمانة خصوصية في المسألة، لأنَّها تتضمن التزاماً عقدياً من الشخص المؤتمن بأنَّ الأمانة إلى من ائتمنه عليه من خلال مبدأ الوفاء بالالتزام العقدي مع الآخر، ولهذا فإنّا لا نجد علاقة بين موضوع الآية وإهدار احترام مال الكافر.
والجواب عن ذلك أنَّ الأمانة لـم تذكر موضوعاً في الآية بلحاظ خصوصيتها العقدية، وإنَّما لوحظت ـ في سلوك اليهود ـ من حيثُ إنَّهم لا يحترمون أموال غير اليهود، بقرينة قوله تعالى: [ذلِكَ بأنهم قالوا ليسَ علينا في الأميين سَبيلٌ]، فهم يخونون الأمانة على أساس عدم احترامهم أموال الآخرين لا على أساس أنَّهم لا يقومون بالوفاء بالتزاماتهم العقدية، فإذا قام المسلمون بمثل ذلك في سلوكهم استحقوا الذمّ على ذلك. وربَّما نُلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنَّ هناك عقداً إنسانياً بين العقلاء يلتزمونه في سلوكهم الاجتماعي وسيرتهم العملية أن لا يأخذ الإنسان مال غيره بدون حقّ، لأنَّ مبدأ احترام الأموال لديهم من أكثر الالتزامات قوّة وقداسةً وتأثيراً في العلاقات العامّة، ولذلك نراهم يذمون الذين يأكلون أموال النّاس بالباطل، ويُعاقبون اللصوص، ولا يخرجون عن ذلك إلاَّ في حالة الحرب من دون فرقٍ بين النّاس الذين يدينون بدين واحد أو بأكثر من دين.
ثالثاً: إنَّ هذه النظرة الفوقية الاستعلائية التي يُمارسها اليهود على غيرهم من النّاس قد أصبحت تتحرّك في نظرة الاستكبار العالمي الذي تمثِّله دول الغرب إلى العالـم الثالث، وهو عالم المستضعفين الذي يضمّ الدول العربية والإسلامية وغيرها، فهي لا تنظر إليها نظرة إنسانية تحفظ لها حقوقها في ثرواتها الطبيعية، وفي حريتها في تقرير مصيرها، وفي استقلالها السياسي، ونحو ذلك... بل تُحاول أن تفرض عليها نظامها العالمي الذي يملك السيطرة على مقدرات الشعوب، وتعمل على أن تجعل لنفسها الحقّ في ما لا تجعله لها. فهي في الوقت الذي تتحدّث فيه عن حقوق الإنسان، لا تحترم إنسانية المستضعفين في ذلك، بل تحترم مصالحها في الدول التي تُطالب فيها بتطبيق هذه الحقوق بما ينسجم مع مصالحها، ولا ترى لهذه الشعوب الحقّ في أن تُطالب لنفسها بتلك المطالب بعيداً عن المصالح الاستكبارية. وهذا ما ينبغي للمسلمين والمستضعفين في العالـم أن يدرسوه ويفهموه ويتعرّفوا على خصائصه وعناصره، من أجل حماية أنفسهم من أخطاره وخططه، والحصول على المكاسب الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة والثقافيّة في حركتهم الواعية القوية المتمرّدة على منطق الاستكبار في واقع المستضعفين في الأرض.
رابعاً: إنَّ الآية تؤكّد على أنَّ الوفاء بالعهود والالتزام بالتَّقوى هما اللذان يُمكن لهما أن يؤكّدا ثبات المصلحة الإنسانية في حركة الإنسان في الواقع، ولذلك يحصل السائرون في اتجاههما على محبة اللّه، لأنَّ اللّه يُحبُّ النّاس الذين يُحبُّون إخوانهم ويُحبُّون الحياة باسم اللّه. وهذا ما يوحي بشمولية القيمة الإيجابية في شخصية الإنسان المسلم، الذي ينظر إلى النّاس بعين واحدة بعيداً عن الازدواجية والاهتزاز، فإذا دخل المسلمون في معاهدة مع الآخرين، فإنَّ الآخرين يشعرون بالأمن في علاقاتهم بالمسلمين، ويضمنون لأنفسهم الثبات في المواقع التي تثبتها هذه المعاهدة.
ـــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:777.
(2) البحار، م:26، ج:71، ص:47، باب:2، رواية:46.
تفسير القرآن