تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 86 إلى الآية 89

 من الآية 86 الى الآية 89

الآيــات

[كيف يهدي اللّه قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنَّ الرَّسول حقٌّ وجاءهم البيِّناتُ واللّه لا يهدي القوم الظَّالِمِينَ * أولئك جَزَاؤهُم أنَّ عليهم لعنة اللّه والملائكة والنَّاس أجمعين* خالدين فيها لا يُخفَّفُ عنهُمُ العذابُ ولا هم يُنظَرونَ* إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنَّ اللّه غفورٌ رحيمٌ] (86ـ89).

* * *

معاني المفردات:

[خالدين]: الخلود في اللغة طول المكث، ولذلك يُقال: خلد فلان في السجن. وقيل للأثافي: خوالد ما دامت في مواضعها، وإذا زالت لا تُسمى خوالد، والفرق بين الخلود والدوام أنَّ الخلود يقتضي طول المكث في نحو قولك: خلد فلان في الحبس ولا يقتضي ذلك الدوام، ولذلك وصف سبحانه بالدوام دون الخلود، إلاَّ أنَّ خلود الكفّار مراد به التأييد بلا خلاف بين الأمّة.

[ينظرون]: الإنظار: التأخير للعبد لينظر في أمره، والفرق بينه وبين الإمهال أنَّ الإمهال هو تأخيره لتسهيل ما يتكلّفه من عمله.

* * *

مناسبة النـزول:

جاء في أسباب النـزول ـ للواحدي ـ عن ابن عباس: أنَّ رجلاً من الأنصار ارتدّ فلحق بالمشركين، فأنزل اللّه تعالى: [كيف يهدي اللّه قوماً كفروا بعد إيمانهم] إلى قوله: [إلاَّ الذين تابوا]، فبعث بها قومه إليه، فلمّا قرئت إليه قال: واللّه ما كذبني قومي على رسول اللّه، ولا كذب رسول اللّه على اللّه، واللّه عزَّ وجلّ أصدق الثلاثة. فرجع ثانية، فقبل منه رسول اللّه (ص) وتركه[1].

ونلاحظ في هذه الرِّواية نقطة مهمّة، وهي قبول توبة المرتد، وربَّما يرى البعض أنَّ المرتد الملّي تقبل توبته، ولعلّ الكثيرين في زمن النبيّ (ص) ـ ومنهم هذا الشخص ـ كانوا من الكافرين الذين أسلموا بحيثُ لـم يكن إسلامهم فطرياً ليكون ارتدادهم عن فطرة، ولكن الظاهر أنَّ الآية مطلقة لكلّ مرتد، مليّاً كان أو فطرياً، لأنَّ السياق يتحدّث عن المبدأ العام، وهو قبول التوبة إلى اللّه في كلّ مورد من موارد الكفر والتمرّد.

وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) ـ كما في مجمع البيان ـ في سبب نزول هذه الآية... أنَّها «نزلت في رجلٍ من الأنصار يُقال له حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدراً، وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة، ثُمَّ ندم، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول اللّه (ص): هل لي من توبة؟ فسألوا، فنـزلت الآية إلى قوله: [إلاَّ الذين تابوا]، فحملها إليه رجل من قومه، فقال: إنّي لأعلم أنَّك لصدوق، ورسول اللّه (ص) أصدق منك، وأنَّ اللّه أصدق الثلاثة. ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه»[2].

* * *

الإيمان قضية ومصير:

إنَّ اللّه يفتح للإنسان أبواب الهداية من خلال البيّنات التي تجتمع لديه، والبراهين التي تحصل عنده، مما لا يبقى معه شك ولا ريب. وبذلك تنطلق الدعوة إلى الإيمان، كعقيدة وموقف، من موقع القناعة الثابتة المرتكزة على أساس الحجّة الواضحة. وفي هذا الجوّ الذي تقوم فيه الحجّة عليه، لا يسمح اللّه له بالسلبيّة واللامبالاة فضلاً عن الإنكار والعناد، فإنَّ الإيمان يمثِّل قضية المصير الذي لا مجال للتلاعب به، وقضية الحياة التي يرتبط فيها سلوك الفرد بسلامة المجتمع، الأمر الذي يجعل منه شيئاً أساسياً، ويُعطي صفة التمرّد والمكابرة لمن ينحرف عنه. وقد عالج القرآن في هذه الآيات الموقف الإلهي من هؤلاء، فتساءل في البداية عن جوّ الإنكار [كيف يهدي اللّه قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنَّ الرَّسول حقٌّ] فقد أقام اللّه لهم الحجّة التي فرضت عليهم الإيمان في أعماقهم، والشهادة الداخلية في كيانهم، والإعلان عن ذلك بألسنتهم؛ فقد دخلوا في الإسلام وأصبحوا جزءاً من مجتمع المسلمين، فلا مجال للشك والشبهة بعد أن كانت القضية في مستوى الوضوح الكبير. ولكنَّهم كفروا وأظهروا الكفر، فكيف يهديهم اللّه، في الوقت الذي لا يريدون فيه لأنفسهم السير في طريق الهدى، وظلموا أنفسهم بكفرهم. وقد جرت حكمة اللّه أن يقوم الإنسان إلى الهداية من طريق الاختيار والإرادة والحجّة والبرهان... فإذا تمت لديه عناصرها ثُمَّ انحرف عنها غروراً وطغياناً وكبراً، فإنَّ اللّه يتركه لنفسه ولا يتدخل بطريقة غيبيّة لفرض الهداية عليه على أساس الجبر، [وجاءهم البيِّناتُ واللّه لا يهدي القوم الظَّالمين] بعد أن قامت عليهم الحجّة من قِبله.

أمّا جزاء هؤلاء المتمرّدين، فتحدّده الآية الثانية [أولئك جزاؤهم أنَّ عليهم لعنة اللّه والملائكة والنَّاس أجمعين * خالدين فيها لا يخفَّف عنهم العذاب ولا هم ينظرون] لأنَّهم تمرّدوا على اللّه الذي خلقهم ورزقهم وأفاض عليهم نعمه ظاهرةً وباطنةً، وفتح لهم أبواب الخير والهداية بأوسع مما بين السَّماء والأرض، فاستحقوا غضبه وسخطه واحتقار الملائكة والنَّاس، لأنَّهم هم الذين قادوا أنفسهم إلى موقع الحقارة الذاتية والعملية بكفرهم باللّه؛ ولكنَّ اللّه لا يغلق عنهم أبواب الرجوع إليه، فإنَّ أبواب التوبة مفتوحة لمن أراد أن يتوب إلى اللّه ويُصلح أمره وعمله، لأنَّ الكفر لا يمثِّل ـ عند اللّه ـ عقدةً لا انفكاك لها، كما هو شأن البشر الذين تتحرّك العقدة في نفوسهم فتمنعهم عن العفو والصفح والمغفرة، بل الكفر يمثِّل الانحراف عن خطّ الحقّ، فإذا استقام الإنسان في خطّه بعد انحرافه كانت رحمة اللّه له بالانتظار لتشمله باللطف والرضوان؛ وذلك هو قوله تعالى: [إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنَّ اللّه غفورٌ رحيمٌ] لأنّهَ أهل المغفرة والرحمة، فقد سبقت رحمته غضبه في كلِّ مجال كان للرحمة سبيل.

ونلاحظ في الحديث عن الإصلاح مع التوبة، أنَّ التوبة لا بُدَّ من أن تتحرّك في نفس الإنسان كوسيلة من وسائل التغيير الوجداني الفكري، الذي يتحوّل إلى حالة في التغيير الواقعي في خطوات الإنسان العملية وممارساته، فلا بُدَّ له أن يمحو الماضي المنحرف بالحاضر المستقيم، لتكون عملية التوبة وسيلةً من وسائل محو الماضي الأسود بالواقع الجديد الأبيض، فلا تكفي التوبة باللسان ما لـم يصدقها العمل الصالح الذي يمثِّل عملية الإصلاح في الداخل والخارج.

ــــــــــــــــــ

(1) أسباب النزول، ص:63.

(2) مجمع البيان، ج :2، ص:789.