من الآية 90 الى الآية 91
الآيتـان
{إنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضَّالون * إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفَّارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذابٌ أليمٌ وما لهم من ناصرين} (90ـ91).
* * *
مناسبة النـزول:
قيل ـ كما في مجمع البيان ـ «نزلت في أحد عشر من أصحاب الحرث بن سويد لما رجع الحرث قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا، فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا، فينـزل فينا ما نزل في الحرث، فلمّا افتتـح رسول اللّه وآله مكة، دخل في الإسلام من دخل منهم، فقبلت توبته، فنـزل فيمن مات منهم كافراً: [إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفَّارٌ]»[1].
* * *
التوبة المرفوضة:
[إنَّ الذين كفروا] باللّه ورسوله واليوم الآخر [بعد إيمانهم] الذي أعلنوه فدخلوا في المجتمع الإسلامي من خلاله رغبةً أو رهبةً، ثُمَّ خرجوا منه بعد أن حصلوا على ما يريدون، أو أمنوا مما يخافون منه، [ثُمَّ ازدادوا كفراً] من خلال العقدة الحاقدة في داخل نفوسهم، لا سيّما بعد أن دخلوا ـ من جديد ـ في مجتمع الشرك الذي أرادوا التكفير أمامه عن إيمانهم وإسلامهم، فعملوا على التشديد في كلماتهم القاسية ضدَّ الإسلام ومواقفهم العدوانية ضدَّه، [لن تقبل توبتهم] لأنَّ مثل هذا العمق العدواني، وهذا الانتقال السريع من الإيمان إلى الكفر الذي تطوّر إلى زيادة في مضمونه وحركته، يوحي بأنَّهم لا يملكون الجدية في إيمانهم، فلم يدخل إلى قلوبهم، بل كانت المسألة تمثيلية للوصول إلى أغراضهم الخبيثة، ما يعني أنَّ إيمانهم الجديد الذي تعبّر عنه التوبة لن يكون بأفضل من إيمانهم القديـم الذي أعقبه الكفر، فهم اللاعبون على خطّ الكفر والإيمان، [وأولئك هم الضالون] التائهون في تمزقات مشاعرهم التي لا تثبت على قاعدة ولا تتحرّك في الاتجاه المستقيم.
أمّا الذين يموتون وهم كفّار، ويفاجئهم الموقف بالعذاب الشديد، فسيحاولون أن يدفعوا عن أنفسهم ذلك بكلّ أنواع الفدية، أو يتمنون ذلك، ولكن اللّه يحسم الموقف، فلا مجال للفدية مهما عظمت، فلا يقبل منهم شيء منها حتّى لو جاءوا بملء الأرض ذهباً، لأنَّ خطيئة الكفر لا يفتديها شيء، فإنَّ اللّه [لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] (النساء:48)، فلا مفرّ من العذاب الذي هو جزاء الكافرين، ولن ينصرهم أحد من دون اللّه، لأنَّ الأمر كلّه ـ يومئذٍ ـ بيد اللّه.
[إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفَّارٌ] فلم يتوبوا عن خطيئة الكفر في نـهاية الحياة، [فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به] يوم القيامة، لأنَّ جريمة الكفر لا يفتديها شيء، لأنَّها تعلو كلّ جريمة، فلا مجال للتخفيف عنها بأيّ ثمن. وما قيمة الذهب عند اللّه أمام تمرّدهم عليه ومحاربتهم له؟! [أولئك لهم عذابٌ أليمٌ] جزاء كفرهم باللّه وبرسالته [وما لهم من ناصرين] فلا قوّة لأحد أن ينصر أحداً ـ حتّى نفسه ـ من اللّه الذي يملك الأمر كلّه، [يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ للّه] (الانفطار:19).
* * *
الإيمان والكفر موقفان عمليّان:
ومن هنا، فإنَّ الكفر أو الإيمان ـ في مفهوم الإسلام ـ ليسا شيئاً يتحرّك في داخل النفس على أساس العقيدة الكامنة في الأعماق فحسب، بل هما موقفان عمليّان في ما يتخذه الإنسان من مواقف، وما يُمارسه من أعمال. وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم أنَّ الكفر وازدياده اللذين تتحدّث عنهما الآية، لا يُراد منهما المعنى الداخلي فقط، بل يتحرّكان من موقع العقيدة والموقف، وبذلك يتضح معنى زيادة الكفر... أمّا عدم قبول توبتهم والحكم بضلالهم بشكلٍ حاسم، فالظاهر منها ـ واللّه العالم ـ التوبة التي لا تتمثّل في موقف وقناعة، بل تتمثّل في المظهر الزائف الذي يُحاول أن يغطي واقعه بالتوبة ليستطيع من خلال ذلك الدخول في صميم المجتمع الإسلامي، فيلعب فيه ما شاء له اللعب بعد أن يحصل على ثقته بالتوبة. وتلك توبة لا يقبلها اللّه، لأنَّها صورة توبة كجزء من خطّة الكفر والضلال.
أمّا كيف نستوحي هذا المعنى من الآية، فتوضيحه أنَّ اللّه يتحدّث عن هذا النموذج من النَّاس، بأنَّهم آمنوا ثُمَّ كفروا ثُمَّ ازدادوا كفراً، ما يدل على أنَّ حياتهم لا تسير في الاتجاه الجادّ على أساس مسؤولية العقيدة والإيمان، فهم يتحينون الفرص للانحراف ما امتدت لهم، ولا يقفون في ذلك عند حدّ، بل يتصاعد الكفر العملي عندهم ويتزايد حتّى يتحوّل إلى ظاهرة خطرة في حياة المجتمع الذي يعيشون فيه. فالموقف ـ لديهم ـ ليس طارئاً، بل هو كامن في الأعماق كعقدة متأصلة في الداخل، بحيث تحرّك الإنسان حركة مرضيّة في جانب السلب والإيجاب.
وقد نستلهم ذلك من ملاحظة الحديث عن الفئة الأولى التي كفرت بعد إيمانها، ثُمَّ تابت وأصلحت، فقبل اللّه توبتها لأنَّه علم صدقها من خلال تعقّب التوبة بالإصلاح، ما جعل الموقف موقف جدّ وصدقٍ. أمّا هذه الفئة، فإنَّها لـم تكتفِ بالكفر بل ازدادت كفراً وعبثاً وضلالاً، ما جعل الموقف موقف تمثيل وضلال لا مجال فيه للحقّ والصدق. وبهذا نفهم الفرق بين الآية السابقة وهذه الآية؛ واللّه العالـم بحقائق آياته. وربَّما يكون المراد من عدم قبول توبتهم في حالة اليأس معاينتهم الموقف في الآخرة ـ كما عن بعض المفسِّرين ـ ولكن هذا لا يتضح من ظاهر الآية، بل يبدو أنَّها تتحدّث عن حالتهم في الحياة في وجودهم داخل المجتمع الإسلامي، وقبول المجتمع لهم بقبول اللّه لتوبتهم ـ كما يحاولون ـ.
ـــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:790.
تفسير القرآن