الآية 92
الآيــة
{لن تنالوا البرَّ حتَّى تُنفقوا مما تُحبُّونَ وما تنفقوا من شيء فإنَّ اللّه به عليمٌ} (92).
* * *
معاني المفردات:
[البِرَّ]: التوسع في فعل الخير، ومنه البر هو خلاف البحر، لسعته. والبِر: كلمة جامعة لكلّ صفات الخير، قال صاحب المجمع: «والفرق بين البِرّ والخير، أنَّ البِرّ هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير يكون خيراً وإن وقع عن سهو، وضدَّ البر العقوق، وضدَّ الخير الشرّ»[1].
* * *
العطاء قيمة إنسانية وخلق أصيل:
العطاء هو إحدى القيم الإنسانية التي أراد اللّه للإنسان أن يعيشها في حياته كخُلق أصيل من سمات الشخصية التي يتصف بها، بحيثُ تصدر منه المواقف بشكلٍ عفوي، فيُعطي الإنسان لأنَّه يحسّ بالحاجة إلى ذلك من خلال إنسانيته التي تدفعه إلى ذلك، وإذا أعطى فإنَّه لا يختار الأشياء التي تعافها نفسه ويكرهها طبعه فيمنحها للآخرين، لأنَّ ذلك ليس مظهراً للعطاء، بل هو وسيلة من وسائل التخلّص من هذه الأشياء باسم العطاء، بل يختار الأشياء التي يحبّها ويريدها مما هو أثيرٌ عنده وقريب إلى حاجاته وضروراته، فإنَّ ذلك يحمل معنى التضحية التي يتمثّل فيها روح العطاء السمح بأعلى مظاهرها.
وقد جاء في مجمع البيان، "أنَّ عليّاً (ع) اشترى ثوباً فأعجبه، فتصدّق به وقال: سمعت رسول اللّه (ص) يقول: من آثر على نفسه آثره اللّه يوم القيامة بالجنّة، ومن أحبّ شيئاً فجعله للّه قال اللّه تعالى يوم القيامة: قد كان العباد يكافأون فيما بينهم بالمعروف، وأنا أكافيك اليوم بالجنّة»[2]. ويروى عن الحسين بن عليّ والصادق (ع) أنَّهما كانا يتصدقان بالسكر ويقولان: إنَّه أحبّ الأشياء إلينا، وقد قال اللّه تعالى: [لن تنالوا البِرَّ حتَّى تنفقوا مما تُحبُّونَ وما تنفقوا من شيء فإنَّ اللّه به عليمٌ].
* * *
الإنفاق والتكافل الاجتماعي:
والإنفاق لا يقتصر على المال ـ وإن كان الظاهر من الآية المال خاصة ـ بل يريد اللّه للإنسان أن ينفق من كلّ ما يحتاجه النَّاس مما عنده من مال أو جاه أو علم أو قوّة أو غير ذلك، فإنَّ السرّ في عظمة الإنفاق في الإسلام هو تحقيق التكافل الاجتماعي بين النَّاس في جميع المجالات من موقع المسؤولية والرغبة في القرب من اللّه. وقد أراد اللّه سبحانه أن يعرف الإنسان بأنَّ للبرّ طريقاً رئيسياً هو أن ينفق مما يحبّ، كما عرّفه بأنَّ اللّه عليمٌ بما ينفقه في السرّ والعلانية، وبالتالي لا يجب عليه أن يقف في الإنفاق عند حدّ الأشياء الظاهرة، بل ينبغي له أن يراعي طبيعة الحال في ما تستلزمه من إسرار أو إعلان، فإنَّ الجزاء يصل إليهما ممن عنده علم السرّ والعلانية، إنَّه أرحم الراحمين.
* * *
لا ينال البِرّ إلاَّ بالإنفاق:
[لن تنالوا البِرَّ] الذي يمنحه اللّه عباده من الرضوان ونعيم الجنّة، وربَّما كان المراد بالفقرة أنَّ الإنسان لا يصل إلى درجة البِرّ بحيث يكون من الأبرار، أو إلى مستوى البرّ باللّه وهو الطاعة والتَّقوى الدالان على عمق الإيـمان والإخلاص للّه في نفسه وحياته، [حتَّى تنفقوا مما تُحبُّونَ] من المال الطيب الذي تفضلونه وتحبّونه وتميّزونه عن غيره بكلّ درجاته، بحيث لا تنفقون قدر الحاجة، بل ما يزيد عليها أيضاً، كما في قوله تعالـى: [ويسألونك ماذا ينفقون قل العفوَ] (البقرة:219) ومن اختيار الطيب في مقابل الخبيث كما في قوله تعالى: [ولا تيمَّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاَّ أن تُغمِضُوا فيه] (البقرة:267) حتّى تصل المسألة إلى درجة الإيثار الذي يعطي الإنسان من نفسه بما قد يؤدّي إلى تفضيل الآخر على نفسه، كما في قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر:9]، وقوله تعالى: [ويطعمون الطَّعام على حبِّه] (الإنسان:8)، أي مع حاجتهم إليه وحبّهم له، وهذا هو الذي يمثِّل أعلى درجات البرّ، لأنَّه يوحي بأنَّ الإنسان قد وصل إلى درجة فقدانه للإحساس بحاجته واستغراقه في حاجة الآخرين من أجل رضوان اللّه، وذلك في عملية مقارنةٍ بين حاجة الدُّنيا إلى المال وحاجة الآخرة إلى رضوان اللّه، وهذا يتمثّل في الشهادة التي هي أعلى درجات البرّ. وقد ورد في الحديث: «فوق كلّ ذي بر برّ حتّى يقتل الرّجل في سبيل اللّه فليس فوقه بر»[3]. [وما تنفقوا من شيءٍ] سرّاً وعلانية [فإنَّ اللّه به عليمٌ] لأنَّه الذي يستوي لديه السرّ والعلن، فكلّ الأشياء مكشوفة عنده بارزة في علمه الذي لا يغيب عنه شيء، وفي ذلك إيحاء بأنَّ اللّه لا يضيع إنفاقكم، بل يجزيكم عليه لأنَّه يعلمه بكلّ تفاصيله.
* * *
دروس وعبر:
وقد جاء في مجمع البيان قال: «روي أنَّ أبا طلحة قسَّم حائطاً له في أقاربه عند نزول هذه الآية، وكان أحبّ أمواله إليه، فقال له رسول اللّه (ص): بخ بخ، ذلك مال رابح لك، وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبّها، فقال: هذه في سبيل اللّه، فحمل عليها رسول اللّه (ص) أسامة بن زيد، فكأنَّ زيداً وجد في نفسه، وقال: إنَّما أردت أن أتصدّق به، فقال رسول اللّه(ص): أما إنَّ اللّه قد قبلها منك. وأعتق ابن عمر جارية كان يحبّها، وتلا هذه الآية، وقال: لولا أنّي لا أعود في شيء جعلته للّه تعالى لنكحتها، وأضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً فقال للضيف: إنّي مشغول وإنَّ لي إبلاً فاخرج وائتني بخيرها، فذهب فجاء بناقةٍ مهزولة، فقال له أبو ذر: خنتني بهذه، فقال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إنَّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي، مع أنَّ اللّه يقول: [لن تنالوا البِرَّ حتَّى تنفقوا مما تُحبُّونَ] وقال أبو ذر: في المال ثلاثة شركاء: القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرّها من هلك أو موت، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثُمَّ يستاقها وأنت ذميم، وأنت الثالث، فإن استطعت أن لا تكون الثلاثة فلا تكن، إنَّ اللّه يقول: [لن تنالوا البِرَّ حتَّى تنفقوا مما تُحبُّونَ] وإنَّ هذا الجمل كان مما أحبّ من مالي، فأحببت أن أقدّمه لنفسي»[4].
وجاء في تفسير أبي الفتوح الرازي، أنَّه كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جداً، قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة، وكانت تحبّه حبّاً شديداً وتعتزّ به أكثر اعتزاز، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم، مرّت على قوله تعالى: [لن تنالوا البِرَّ] فأوحى لها ذلك بأن تبيع أحجاره الكريمة وجواهره النفيسة ـ باعتبار أنَّها أحبّ شيء لديها ـ لتنفق ثمنها في سبيل اللّه، وهكذا حفرت الآبار والقنوات في الصحراء ليشرب النَّاس الساكنون في الصحراء والمارّون فيها منها[5] انسجاماً مع جوّ هذه الآية.
وهكذا نجد أنَّ هذه الآية قد تركت أثراً كبيراً في نفوس المسلمين، فتحوّلت إلى ذهنية تنفتح على الخير وسلوك يتحرّك في اتجاهه، وحرّكت الخطط للتغيير، وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل اللّه أن يستهدفوه في حركة الدعوة، باللجوء إلى الأساليب الفنية التي تفتح القلب على اللّه من خلال الانفتاح على آياته، وتقود الواقع إلى تحقيق المبادئ الخيّرة في شريعة اللّه، لتتحوّل الحياة في المجتمع الإسلامي إلى حياة إسلامية حيّة تختزن كلّ الإسلام في وجدانها وحركتها وسلوكها العملي.
ــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج :2، ص:792.
(2) مجمع البيان، ج:2، ص:792.
(3) البحار، م:26، ج:71، باب:2، ص:42، رواية:25.
(4) مجمع البيان، ج:2، ص:792ـ793.
(5) الرازي، أبو الفتوح، تفسير القرآن، ج:3، ص:157.
تفسير القرآن