من الآية 93 الى الآية 95
الآيــات
{كُلُّ الطَّعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاَّ ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنَزَّل التَّوراة قل فأتوا بالتَّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين * فمن افترى على اللّه الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظَّالمون * قل صدق اللّه فاتَّبعوا ملَّةَ إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}(93ـ95).
* * *
معاني المفردات:
[فاتَّبعوا]: الاتباع: لحاق الثاني بالأول لما به من التعلّق، فالقوّة للأول والثاني يستمد منه، والتابع ثان متدبر بتدبير الأول متصرّف بتصريفه في نفسه.
[حنيفاً]: أصل الحنيف: الاستقامة، وإنَّما وصف المائل القدم بالأحنف تفاؤلاً: وقيل: أصله الميل، فالحنيف هو المائل إلى الحقّ في ما كان عليه إبراهيم(ع) من الشرع.
* * *
مناسبة النـزول:
في أسباب النـزول في ما ورد من حديث التفسير، أنَّ هذه الآيات جاءت ردّاً على اليهود الذين يحرّمون لحوم الإبل وألبانها، زعموا بأنَّ ذلك كان محرّماً في دين إبراهيم وأولاده، واعتراضاً منهم على رسول اللّه (ص) الذي أحلّها في الوقت الذي يقول فيه إنَّه على ملّة إبراهيم.
فقد جاء في أسباب النـزول للواحدي: «قال أبو روق والكلبي: نزلت حين قال النبيّ: أنا على ملّة إبراهيم، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبيّ: كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحلّه، فقالت اليهود: كلّ شيء أصبحنا اليوم نحرّمه، فإنَّه كان على نوح وإبراهيم حتّى انتهى إلينا. فأنزل اللّه ـ عزَّ وجلّ ـ تكذيباً لهم: [كلُّ الطَّعام كان حلاً لبني إسرائيل] الآية»[1].
* * *
تحريـم ذاتي لا تشريعي:
كانت هذه الآيات من أجل أن تضع القضية في موضعها من الحقيقة الدينية التاريخية، وهي أنَّ اللّه لـم يحرّم على بني إسرائيل شيئاً قبل نزول التوراة، بل كانت الأطعمة كلّها حلالاً منذ عهد إبراهيم حتّى عهد يعقوب الذي هو إسرائيل، الذي منع نفسه من بعض الأطعمة لأنَّه يعافها أو يتضرر منها لا على أساس التحريم الشرعي، فإنَّه أعظم قدراً من أن يحرّم على نفسه شيئاً قد أحلّه اللّه له، وهكذا استمرت الشريعة قبل نزول التوراة، وذلك هو قوله تعالى: [كلُّ الطَّعام كان حلاً لبني إسرائيل] لأنَّ اللّه لم يحرّم منه شيئاً عليهم [إلاَّ ما حرّم إسرائيل] وهو يعقوب [على نفسه] تحريماً ذاتياً لها من الناحية المزاجية، فإنَّ الإنسان قد يمنع نفسه من بعض الأشياء المحلّلة من أجل بعض الجوانب النفسية، بعيداً عن عالم التحريـم والتحليل، وكان ذلك: [من قبل أن تُنَزَّل التَّوراة].
* * *
أساليب الزّيف والمراوغة:
ولما نزلت التوراة حرّمت بعض الأشياء عقوبةً لهم على ما قاموا به من بعض المعاصي، كما أشار إليه اللّه سبحانه في قوله تعالى: [فَبِظُلم مِنَ الذينَ هَادُوا حَرَّمنا عَلَيهم طَيِّباتٍ أُحِلَّت لهم وبصدِّهم عن سبيل اللّه كثيراً] (النساء:160) وحرّمت عليهم أشياء أخرى، منها ما ذكره اللّه في قوله: [وعلى الذين هادوا حرَّمنا كلَّ ذي ظُفُرٍ ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومهما إلاَّ ما حملت ظهورُهُما أو الحوايا أو ما اختلط بعظمٍ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنَّا لصادقون] (الأنعام:146) ولـم يرد في التوراة تحريـم لحم الإبل، فكيف يدّعون تحريمها وينكرون على رسول اللّه(ص) حليتها. ثُمَّ أطلق التحدّي، في وجوههم: [قل فأتوا بالتَّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين] ولكنَّهم لـم يثبتوا أمام التحدّي لأنَّهم يعرفون نتيجة ذلك في إظهار كذبهم وزيف دعاويهم.
وهذا أسلوب لا بُدَّ من مراعاته واتباعه مع النَّاس الذين ينسبون إلى الشريعة تحليل شيء غير موجود فيها، أو ينكرون وجود بعض العقائد الباطلة في كتبهم، وهي موجودة فيها، وذلك كبعض الملحدين الذين يتحرّكون في وضع سياسي واقتصادي معيّن؛ فإذا تحدّث إليهم متحدّث بما عندهم من ذلك، وخافوا أن تعطل هذه القضايا بعض خططهم وأهدافهم، أنكروا وجودها اعتماداً على أنَّ النَّاس لا يقرأون، أو أنَّهم لا يصلون إلى هذه الكتب، فيمكن للعاملين في سبيل الدعوة إلى اللّه أن يطلبوا منهم إبراز كتبهم أمام النَّاس ليظهروا ما فيها من شؤون العقيدة في عالم الإلحاد والإيمان، ليبرز من ذلك زيفهم وبطلان أساليبهم الخادعة. فإذا وضحت الحقيقة من خلال ذلك، أو من خلال هروبهم عن إظهارها، فلا بُدَّ من أن يقفوا وقفة الصدق أمام الحقيقة الواضحة. [فَمَن افترى على اللّه الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظَّالمون] الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحقيقة والنَّاس الذين يريدون الارتباط بالحقيقة على أساس الحجّة والبرهان.
* * *
امتداد رسالي:
وتنتهي الآيات بالأمر للنبيّ (ص) أن يؤكّد موقفه الذي حاول اليهود أن يثيروا الريب والشكوك من حوله، للإيحاء بأنَّه ليس من عند اللّه، ولهذا جاء التأكيد بقوله: [قل صدق اللّه] فإنَّ قول النبيّ هو قول اللّه، لذلك كان التشكيك به تشكيكاً بقول اللّه، كما أنَّ تصديق اللّه يستلزم التصديق به. ثُمَّ أمر باتباع ملّة إبراهيم الحنيف المخلص المائل عن الباطل إلى الحقّ، لأنَّ ملّته هي الإسلام في نطاقه الشامل الذي يستوعب كلّ الرسالات في مراحلها المتنوّعة المتدرِّجة.
[فاتَّبعوا ملّة إبراهيم] التي تمثِّل ملّة النبيّ محمَّد(ص)، لما تمثِّله من الامتداد الرسالي لتلك الملّة التي تجمع في داخلها الخطوط العامّة لكلّ ما يريد اللّه أن يلتزموه في المعنى التوحيدي الشامل من حيثُ الفكر والعمل، ]حنيفاً[ منفتحاً على خطّ الاستقامة في طريق الحقّ المائلة عن خطّ الباطل، فقد كان يمثِّل التوحيد الخالص عقيدةً ومنهجاً وعبادةً وحركةً في الجانب العملي من الحياة، [وما كان من المشركين] فقد كان ثورة على الشرك كلّه بكلّ قوّة، حتّى أنَّه عادى قومه وأباه في سبيل ذلك.
وقد دعا في نهاية المطاف إلى اتباع ملّة محمَّد (ص)، باعتبار أنَّها تمثِّل إرادة اللّه الأخيرة في خطّ الرسالات، ما يجعل اتباعها إسلاماً للّه الواحد، وتجسيداً للتوحيد الحقّ الذي تلتقي لديه كلّ منطلقات الحياة الخيرة وتخضع له، فذلك هو خطّ إبراهيم (ع) التوحيدي الذي يرفض كلّ شرك، سواء كان شركاً مباشراً كشرك المشركين من قريش وغيرهم، أو كان شركاً غير مباشر كشرك أهل الكتاب في عقيدتهم بالمسيح وغيره.
* * *
من وحي الآية:
وربَّما نستوحي من هذه الآية ـ في خطّ الدعوة ـ أنَّ علينا مواجهة الفئات المنحرفة التي تضع في عناوينها الكبرى شخصية تاريخية عظيمة أو مقدسة من الشخصيات التي تحمل في واقعها الحركي القيم الكبرى في الدائرة العقيدية والروحية والاجتماعية من خلال التزامها بالرسالة الشاملة، فتتبع الأسلوب العملي الذي يضع أمامها الخطّ العام الذي تحرّكت به هذه الشخصية التاريخية في تجربتها الماضية في عملية مقارنة بين الواقع الذي يعيشون فيه وبين الخطّ العام الذي تمثِّله في ميزان القيم المتنوّعة، وذلك من خلال تجربة النبيّ(ص) في الموقع القرشي الذي كان يضع إبراهيم (ع) عنواناً له من خلال انتساب قريش إليه، ولكنَّهم كانوا في الوقت نفسه يعبدون الأصنام خلافاً لرسالة التوحيد الإبراهيمية، فكانت هذه الآية بعد الخطاب الذي وجهه القرآن إليهم إعلاناً للزيف الذي يتحرّكون فيه على مستوى العقيدة والعبادة.
ــــــــــــــــ
(1) أسباب النزول، ص:64.
تفسير القرآن