تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 96 إلى الآية 97

 من الآية 96 الى الآية 97

الآيتـان

{إنَّ أوَّل بيتٍ وضع للنَّاس ببكَّة مباركاً وهدى للعالمين * فيه آيات بيِّناتٌ مقامُ إبراهيم ومن دخله كان آمناً وللّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنَّ اللّه غنيٌّ عن العالمين} (96ـ97).

* * *

معاني المفردات:

[أوَّلَ]: أوّل الشيء: ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر ويجوز أن لا يكون آخر له، لأنَّ الواحد أوّل العدد ولا نهاية لآخره، ونعيم أهل الجنّة له أوّل ولا نهاية له.

[ببكَّة]: أي بمكّة، وأصل بكّة: البك وهو الزحم. يُقال: بكّه يبكّه بكّاً إذا زحمه، ويباكّ النَّاس إذا ازدحموا، فبكّة مزدحم النَّاس للطواف، وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، وقيل: سميت بكّة لأنَّها تبكّ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم ولم يمهلوا، والبكّ: دقّ العنق. وأمّا مكّة فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكّة وإبدال الميم من الباء كقوله: «ضربة لازب ولازم»، ويجوز أن يكون من قولهم: امتك الفصيل في ما ضرع الناقة: إذا مصّ مصّاً شديداً حتّى لا يبقى منه شيء، ومكّ المشاش مكّاً: إذا تمشش بفيه، فسميت مكّة بذلك لقلة مائها[1].

[مباركاً]: البركة: الثبوت، من قولهم: برك بروكاً أو بركاً إذا ثبت على حاله، فالبركة ثبوت الخير بنموّه، ومنه البِرْكة شبه الحوض يمسك الماء لثبوته فيه، ومنه قول النَّاس: تبارك اللّه لثبوته لـم يزل ولا يزال وحده.

[كفر]: كفر في العمل لا في العقيدة، لأنَّه ترك الحج رغم استطاعته واجتماع شروط الوجوب عنده، فلم يقم بما فرضه اللّه عليه. قال صاحب المجمع: كفر، يعني «جحد فرض الحج ولـم يره واجباً، عن ابن عباس والحسن»[2]، وعلى ضوء هذا فيكون كافراً حكماً باعتبار إنكاره ضرورياً من ضروريات الدين وهو وجوب الحج، ما يستلزم تكذيب الرسول الموجب للكفر.

* * *

تحويل القبلة إلى الكعبة:

ربَّما تكون هذه الآيات ردّاً على ما حاول أن يثيره اليهود على الإسلام والمسلمين من شبهات في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، لأنَّ بيت المقدس هو الذي أُمِر النَّاس بالتوجه إليه أوّلاً لقدمه وعبادة الأنبياء فيه. فجاءت هذه الآيات لتذكرهم بأنَّ هذا البيت هو [أوَّل بيت وضع للنَّاس] لعبادة اللّه، وليكون مصدر بركة وهدي للعالمين، و [فيه آيات بيِّناتٌ مقامُ إبراهيم] الذي كان يتعبّد فيه كدلالة على أقدميته، لأنَّ بيت المقدس كان من بناء سليمان (ع)، الذي هو متأخر بزمان كثير عن إبراهيم(ع)، وقد جعله اللّه آمناً للنّاس [ومن دخله كان آمنا] لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه مهما كان وضعه. وقد تعبد اللّه النَّاس بقصده والحج إليه لكلّ من استطاع إلى ذلك سبيلاً، ما يوحي بأنَّه محل عناية اللّه ورعايته واهتمامه به، فلا مانع ـ من هذه الجهة ـ أن يحوّل القبلة إليه، ليتوجه النَّاس إليه في صلاتهم كما يتوجهون إليه بالقدوم إليه في حجّهم.

ربَّما تكون هذه الآيات واردة في هذا الجوّ ـ كما عن بعض المفسِّرين ـ وربَّما لـم تكن كذلك، بل كانت واردة في مقام تقرير هذه الحقيقة من ناحيةٍ مستقلة، كمقدّمة للحديث عن تشريع الحج من حيث إنَّ ذلك يلتقي بقيمة هذا البيت في ما استهدفه إبراهيم ـ بأمر اللّه ـ من بنائه، بأن يكون ملتقى للنّاس من كلّ مكانٍ لعبادة اللّه وللتعاون فيما بينهم على الخير والتَّقوى، وللنفع العميم الذي تمثّله كلمة البركة، وللهدى الذي يمتد منه للعالمين من خلال ما يهتدي به النَّاس عندهم إلى ما فيه صلاح أمر دنياهم وآخرتهم. وفي ضوء، ذلك يمكن أن نتوقف أمام عدّة أمور في هذه الآيات من أجل أن تتضح لنا معانيها التفصيلية.

* * *

ما معنى أوّل بيت؟

1 ـ إنَّ معنى قوله تعالى: [إنَّ أوّل بيتٍ وضِعَ للنَّاس للذي ببكَّةَ] ليس هو أنَّه أوّل ما بني على وجه الأرض، كما قد يتوهمه البعض، بل المراد به أوّل بيتٍ وضع للعبادة والهدى والبركة للنّاس... وهذا ما وردت به الرِّواية عن عليّ أمير المؤمنين (ع) في ما نقله ابن شهر آشوب عنه، في قوله تعالى: [إنَّ أوّل بيتٍ وضِعَ للنَّاس للذي ببكَّةَ] الآية، فقال له رجل: أهو أوّل بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت، ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم، ثُمَّ بناه قومٌ من العرب من جرهم، ثُمَّ هُدِّم فبنته العمالقة، ثُمَّ هُدِّم فبناه قريش[3]...

وفي الدر المنثور عن عليّ بن أبي طالب(ع) في قوله: [إنَّ أوّل بيتٍ وضِعَ للنَّاس ببكَّةَ] قال: كانت البيوت قبله، ولكنَّه كان أوّل بيت وضع لعبادة اللّه[4]. ونستوحي من هذا الحديث أنَّ الأنبياء السابقين مثل نوح، لم يبنوا بيوتاً للعبادة، ولذا لم يشر القرآن في آياته إلى ذلك، ولـم ينقل ذلك بطريقةٍ مفصلةٍ في التاريخ، وربَّما كان المراد بأنَّه أوّل بيتٍ للعبادة، المعنى الشموليّ الذي أراده اللّه للنّاس جميعاً، فهو البيت العالمي للعبادة؛ أمّا البيوت التي كانت قبله ـ لو كانت هناك بيوت للعبادة قبله ـ فهي بيوت محلّية خاصة بالمجتمع الذي يعيش حولها؛ واللّه العالم.

* * *

لماذا سميت مكّة بكّة؟

2 ـ ورد عن الإمام الصادق(ع): إنَّما سميت مكّة بكّة لأنَّ النَّاس يبكّون فيها، أي يزدحمون. وعن الإمام محمَّد الباقر(ع): إنَّما سميت مكّة بكّة لأنَّه يبكِ بها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك وعن شمالك ومعك، ولا بأس بذلك؛ إنَّما يكره في سائر البلدان[5]. وقد تقدّمت بعض الوجوه حول الموضوع في معاني المفردات.

* * *

بيت اللّه ودوره في رسالة الحياة:

3 ـ إنَّ الخصائص الأولى التي ذكرها اللّه لهذا البيت ـ الكعبة توحي بمعنى الشمول في ما يريده اللّه لبيته هذا، كما يوحي به لبقية البيوت، فقد وضعه اللّه للنَّاس ولـم يجعله لفئةٍ دون فئة، لأنَّه وُضع لعبادة اللّه التي لا يختص بها أحد، فلا معنى لاختصاصه بأحد معيّن. وقد نستوحي منه أن لا تشيد المساجد لتكون لعائلة معينة أو لجماعة معينة، بحيث تمنع منها بقيّة العائلات أو الجماعات، لأنَّ المسجد لـم يوضع ليتحدّد، بل ليكون شاملاً لكلّ النَّاس تبعاً لشمولية دوره في أن يكون محلاً لعبادة اللّه ربّ العالمين.

وقد جعله [مباركاً]، والبركة هي الخير الكثير الذي تمتد منه المنافع والمصالح للنّاس، ما يعني أنَّ دور المسجد لا يتحدّد بالعبادة، بل يتسع لكلّ منافع النَّاس، سواء كانت علميّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو غير ذلك من الأمور المتصلة بحياة النَّاس العامّة. وفي ضوء ذلك، كان الدور الإسلامي للمسجد هو أن يكون الملتقى الروحي للنّاس، فيعبدون اللّه ويتعلّمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلّقة بتنظيم حياتهم كما تنطلق منها صيحات الجهاد. وسارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا الخطّ، فكانت تجسيداً للمفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على اللّه سبحانه، لينفتح النَّاس من خلال ذلك على الحياة من مواقعها المضيئة المتحرّكة في سبيل الخير.

وجاءت عصور التخلّف التي جمّدت عقول المسلمين وأفكارهم فتجمّد كلّ شيء حولهم، ونالت المساجد حصّة من هذا التجميد، فإذا بهم، حكاماً وشعوباً، ينكرون على العالمين والمصلحين أن يتحدّثوا في المساجد بغير الشؤون الدينية الخاصة التي تتحدّث عن الجنّة والنّار والعبادات والأخلاقيات التجريدية... فإذا انطلقوا بالحديث إلى ما أمر اللّه به من مقاومة الظلم والانحراف في شؤون الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، اتهموهم بأنَّهم يستغلون بيوت اللّه لغير الأغراض التي وضعها، تماماً كما هي المعابد لدى اليهود والنصارى كما يزعمون؛ وأثاروا الثائرة عليهم، بأنَّهم يعملون على إدخال السياسة للمسجد وتسييس الدين، زعماً منهم بأنَّ الدين لا يلتقي بالسياسة التي لا دخل لها بالدين، مع أنَّ اللّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية، بأنَّ اللّه أنزل كتبه وأرسل رسله من أجل أن يقوم النَّاس بالقسط.

* * *

استيحاء كلمة «مباركاً»:

وقد نستوحي من كلمة [مباركاً] المعنى الممتد في حياة النَّاس الذين يقصدون هذا البيت من سائر أنحاء العالـم، ليجتمعوا حوله على أساس كلمة التوحيد التي توحدهم، والرسالة التي تجمعهم، والقضايا الحيوية التي تتحرّك في واقعهم الخاص والعام، لا سيّما القضايا المتصلة بالمصير السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والاجتماعي أمام التحدّيات الكبرى التي يواجهونها من قِبل الكفر والاستكبار العالميين، ليتعارفوا فيما بينهم وليتبادلوا المعلومات، وليستلهموا التجارب، وليخطّطوا للوحدة في الموقف، من حيث إحساسهم بوحدة أمتهم في خطِّها العقيدي والعملي، وفي مصيرها الواحد، وليتحاوروا في ما اختلفوا فيه من تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج، والأمور المتصلة بالواقع السياسي والأمني والاقتصادي في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالآخرين، وليحرّكوا أوضاعهم الاقتصادية على أساس خطّة سليمة تحقّق لهم الإنتاج مما يحتاجونه في حياتهم العامّة، بحيث يصلون إلى مستوى الاكتفاء الذاتي ليكونوا في موقع الاستقلال في إدارة أمورهم، وهكذا يتحوّل الحج إلى مؤتمر إسلامي عالمي يحقّق البركة للإسلام في فكره وحركته، وللمسلمين في وجودهم وامتدادهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة، وهذا ما نستوحيه من الكلمة المعبِّرة [مباركاً].

ولكن الأوضاع المعقدة التي طرأت على الواقع الإسلامي السياسي، جعلت مواقع المسلمين تحت سيطرة الكافرين المستكبرين، وجمّدت كلّ حيوية مفاهيمهم في دينهم وحركتهم، فأصبحت مجرّد صور جامدة في الفكر، وطقوسٍ ميتة في الواقع، وأبعدت الحج عن امتداده الحضاري الحركي في حياة المسلمين، فلا فرصة لأي اجتماع عام للبحث في القضايا الحيوية المصيرية المتصلة بحياة النَّاس وللتخطيط للمستقبل في اتجاه حلّ مشاكل الحاضر بالطريقة الحكيمة، وذلك تحت شعار أنَّ الحج عبادة لا سياسة، تماماً كما لو كان معنى السياسة معنى بعيداً عن معنى العبادة التي أراد اللّه لها في الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، بالمعنى العام للكلمتين الذي يتسع لكلّ مواقع الانحراف في حياة الإنسان، وفي الصوم الذي أراده اللّه أن يكون سبيلاً من سُبُل تحقيق التَّقوى الروحيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، وفي الحج الذي أراده اللّه للنّاس ليشهدوا منافع لهم في كلّ الأمور التي تتصل بالنفع العام لحياتهم المنفتحة على كلّ خيرٍ وكلّ جديد، ولا يتحقّق ذلك إلاَّ بالسياسة المنفتحة على أمور النَّاس بالحقّ.

* * *

بيت اللّه هدى للعالمين:

وقد جعله الله [وهدى للعالمين] من خلال ما يهدي إليه من سعادة الدُّنيا والآخرة، ما يوحي بأنَّ مهمّة المساجد للقائمين عليها هي هداية النَّاس بالممارسة من خلال عبادة اللّه فيها، وبالتوجيه من خلال توجيه النَّاس وتعليمهم وتثقيفهم بأمور دينهم في كلِّ ما يتصل بحياتهم، لينطلق المسلمون من المساجد إلى حياتهم من خلال الانفتاح على كلّ المعاني الكبيرة التي يستهدفها الإسلام للحياة، وليحمل كلّ واحد منهم المعرفة الشاملة لشريعة اللّه في كلّ أحكامها المتصلة بالحياة الخاصّة والعامّة، لتكون الشريعة ومفاهيم الإسلام المنبثقة عنها في كلّ فكرٍ وعلى كلّ لسان، فلا تبقى محتكرةً على فئة معينة من النَّاس، لنستطيع من خلال ذلك أن نجعل من كلّ مسلم إنساناً واعياً متحرّكاً يعمل في حياته الخاصّة لإسلامه من موقع الوعي، ويدعو إليه بطريقة واعية من قاعدة الحركة. وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نؤكّد بأنَّ القائمين على شؤون المساجد الذين يقتصرون فيها على إقامة الجماعة، ولا يقومون بمهمة التوجيه والهداية، ويحولونها إلى منطقة نفوذ يتوارثها الأبناء عن الآباء، هم من المنحرفين عن رسالة المسجد التي هي الهدى للنَّاس بحسب ما يتسع له المسجد من ذلك، فليتقوا اللّه وليقولوا قولاً سديداً.

* * *

ما هي الآيات البيّنات؟

4 ـ [فيه آياتٌ بيّناتٌ]. لقد تحدّثت الآية عن الآيات البيّنات ولم تفصّلها، ولم تذكر طبيعتها، ولـم يُعرف أنَّ التعقيب بـ [مقامِ إبراهيم] هل هو ذكر نموذج منها باعتبار الأثر البارز الذي يؤكّد انتساب البيت لإبراهيم، لأنَّه كان يصلّي فيه بدلالة وجود مقامه الذي لا يشك أحدٌ فيه، لأنَّه مما توارثه الأبناء عن الآباء، فيكون التقدير: منها مقام إبراهيم، أو يكون بدلاً منها فيكون التقدير: فيه مقام إبراهيم... ويرى بعض المفسِّرين أنَّ الآيات هي مقام إبراهيم والأمن لمن دخله والحج لمن استطاع إليه سبيلاً.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: «ولا ريب في كون كلّ واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على اللّه سبحانه، مذكرة لمقامه، إذ ليست الآية إلاَّ العلامة الدالّة على الشيء بوجه، وأيّ علامة دالة عليه ـ تعالى ـ مذكرة لمقامة أعظم وأجلى في نظر أهل الدُّنيا من موقف إبراهيم، ومن حرم آمن يأمن من دخله، ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من النَّاس تتكرر بتكرر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام؟! وأمّا كون كلّ آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً لسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى: [ما ننسخ من آية أو نُنسها] (البقرة:106) الآية؛ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً، وقال تعالى: [أتبنونَ بكلِّ ريعٍ آيةً تعبثُونَ] (الشعراء:128)، إلى غير ذلك من الآيات»[6].

ولكن ذلك غير ظاهر، وذلك بلحاظ أنَّ الآيات البيّنات ليست من قبيل المظروف بالنسبة إلى الظرف، ما يعني وجوده فيه تماماً كما هو مقام إبراهيم (ع)، أمّا الأمن لمن دخل والحجّ إليه فهو من أحكامه وخصائصه الشرعيّة...

وربَّما يوجه ذلك بأنَّ الظرفية ليست واردة على سبيل الحقيقة، بل على سبيل المجاز، لا سيّما إذا عرفنا أنَّ مقام إبراهيم ليس جزءاً من البيت ـ الكعبة، بل هو خارج عنها، كما أنَّ السياق جارٍ على أساس بيان مميزات هذا البيت عن البيوت الأخرى، مما يُحتمل ـ معه ـ أن تكون كلمة «في» واردة بمعنى الموازنة والمقايسة، وربَّما يؤكّد كلام العلامة الطباطبائي، من نفي إرادة المعجزة من الآية، أنَّ اللّه أشار إلى مقام إبراهيم من دون بيان لما ذكره المفسِّرون من تأثير قدّمه في الصخرة التي وقف عليها، بل ربَّما كانت الإشارة إلى القيمة الإيحائية لهذا المقام الذي يمنحنا وعي الشخصية الإبراهيمية في عناصرها المميزة الموحية بكلّ الخطّ التوحيدي الذي يريد اللّه للنَّاس السير عليه، ما يجعل منها في موقعها العبادي آية تدل على الطريق إلى اللّه في الأسلوب التأمّلي والالتزامي والعملي. وفي ضوء ذلك، يمكن أن نتمثّل الآية في الخصائص التي جعلها اللّه للبيت الحرام في التشريعات التي تتحرّك لتصنع واقعاً يعيشه النَّاس في أمنهم في المنطقة الحرام، وعبادتهم المتحرّكة المنفتحة على أكثر من أفقٍ في حياتهم حول الكعبة الحرام، الأمر الذي يؤدّي إلى التذكير باللّه والارتباط به، والدلالة عليه، من خلال الوضوح في الرؤية، والعمق في التفكير، والاستقامة في الخطّ؛ واللّه العالـم.

* * *

الكعبة أرض سلام:

[ومن دخله كان آمناً] وهذا واردٌ في مقام التشريع لا الإخبار، فإنَّ الواقع غير هذا في كثير من حوادث التاريخ التي استبيحت فيها حرمة البيت، فقتل فيه ناس كثيرون من قِبَل الطغاة والظالمين تمرّداً على الأمر الإلهي الذي اعتبره واحة سلام، فلا يجوز لأحد أن يعتدي فيه على أحد حتّى لو كان غريماً له في قتل أو مال أو عرض أو غير ذلك، بل ينتظر حتّى يخرج. وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت (ع) أنَّه يمنع من السوق ولا يُباع ولا يُطعم ولا يُسقى ولا يُكلم حتّى يخرج فيما إذا أحدث جريمة في غير الحرم ثُمَّ فرّ إلى الحرم، أمّا إذا أحدث جريمة في الحرم أخذ فيه، لأنَّه اعتدى على حرمة الحرم فلا يبقى له حرمة فيه[7].

وقد نستوحي من هذا الحكم الشرعي في حرمة هذه المنطقة المسمّاة بالحرام التي كانت الكعبة البيت الحرام أساساً لحرمتها، أنَّ اللّه سبحانه أراد أن يجعل موقعاً من الأرض منطقة سلام يتخفف النَّاس فيها من أحقادهم وعداواتهم، ويعيشون في داخلها أعلى درجات الصبر في السيطرة على نوازع النفس الممتلئة بالحقد والعداوة والبغضاء، بحيثُ إنَّ الإنسان يرى قاتل أبيه أو ولده فيُقابله وجهاً لوجه فلا يعرض له، بالرغم من ضغط التقاليد العشائرية الجاهلية القائمة على الأخذ بالثأر، احتراماً للّه في بيته المحرّم، فلا يسيء إليه، ولا ينقص من حرمته، مهما كانت الحالة النفسية ضاغطة عليه، ما يجعل الإنسان يعيش تجربةً روحية فريدة تمنحه الفرصة للتأمّل في النتائج السلبية المترتبة على الثأر، أو في طبيعة المسألة في خلفياتها وامتداداتها، ليتعرف وجه الصواب والخطأ في انطباعاته التي كوّنها تجاه الموضوع، فقد تكون النتيجة أن يتحوّل هذا السَّلام النفسي ـ ولو في هذه المنطقة ـ إلى حالة سلام في الواقع عندما يكتشف هذا الإنسان أنَّ العفو أقرب للتَّقوى، وأنَّ الصبر خيرٌ للصابرين، وأنَّ حلّ المشكلة بالوسائل السلمية هو الأفضل في مواجهة سلبيات الواقع.

وربَّما يحتاج الإنسان إلى أن يدخل في منطقة سلام في المواقع الحارّة من الصراع بموجب المعاهدات والمواثيق بين النَّاس، ليعيش النَّاس فيها بعضاً من الهدوء النفسي والسَّلام العملي، ليكون ذلك بمثابة المنطقة التي يستريح فيها أبناء الخير من أجل تجديد الروح المندفعة نحو الخير في الدرب الطويل.

* * *

شروط الحج

[وللّه على النَّاس حِجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلاً]. لقد تحدّثت الأحاديث عن تحديد الاستطاعة بالتمكن من الزاد والراحلة في ضمن شروط شرعية معينة مذكورة في كتب الفقه، وبالقدرة البدنية على ذلك مما هو محدّد في محلّه.

ولا بأس بالحديث عن عدّة نقاط حول الموضوع:

الأولى: وردت عدّة أحاديث مأثورة عن أهل البيت (ع) في عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج، فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: كان علي يقول لولده: «اللّه اللّه في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنَّه إن ترك لـم تُناظروا»[8]. وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه ـ جعفر الصادق (ع) ـ يقول: «أمّا إنَّ النَّاس لو تركوا حج هذا البيت لنـزل بهم العذاب وما نوظروا»[9].

وجاء عن الإمام الصادق في رواية عبد اللّه بن سنان قال: «لو عطل النَّاس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج إن شاءوا وإن أبوا، لأنَّ هذا البيت إنَّما وضع للحج»[10].

الثانية: يجب الحج مع الاستطاعة على الفور، فيحرم تأخيره وتركه، فقد جاء في رواية معاوية بن عمّار عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنَّه قال: «قال اللّه تعالى: [وللّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً] قال: هذا لمن كان عنده مال وصحة، فإن سوّفه للتجارة فلا يسعه ذلك، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام إذا ترك الحج وهو يجد ما يحجّ به»[11].

الثالثة: لا بُدَّ في تحقّق الاستطاعة الموجبة للحجّ من القدرة عليه مالياً وبدنياً مع حرية الوصول إلى المناسك، فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (ع) ـ في ما رواه عنه محمَّد بن يحيى الخثعمي ـ قال: «سأل حفص الكناسي أبا عبد اللّه جعفر الصادق(ع) وأنا عنده عن قوله اللّه عزَّ وجلّ: [وللّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً] ما يعني بذلك؟ قال: من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحج. أو قال: مَنْ كان له مال، فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه، مخلّى في سِربه، له زاد وراحلة فلم يحج، فهو ممن يستطيع الحج؟ قال: نعم»[12].

وقد اشترط في استكمال شروطه أن يكون له ـ بالإضافة إلى ذلك ـ مال يقوت عياله حتّى يرجع إليهم، من خلال مسؤوليته في الإنفاق عليهم. فقد روي عن أبي الربيع الشامي قال: «سُئِلَ أبو عبد اللّه ـ جعفر الصادق(ع) ـ عن قول اللّه عزَّ وجلّ: [وللّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً] فقال: ما يقول النَّاس؟ قال: فقلت له: الزاد والراحلة، فقال أبو عبد اللّه: قد سُئِلَ أبو جعفر ـ محمَّد الباقر(ع) ـ عن هذا فقال: هلك النَّاس إذاً لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن النَّاس، ينطلق إليهم فيسلبهم إياه لقد هلكوا إذاً، فقيل له: فما السبيل؟ قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويبقي بعضاً لقوت عياله، أليس قد فرض اللّه الزكاة، فلم يجعلها إلاَّ على من يملك مائتي درهم؟!»[13].

وإذا استدان الإنسان مالاً ـ وكان قادراً على الوفاء به في موعده ـ وحجّ البيت كان حجّه حجّ الإسلام، لتحقّق عنوان الاستطاعة لديه، مع كونه صحيح البدن بمعنى القدرة على أداء المناسك بشكل طبيعي صحي ومخلّى السرب، وخالف في ذلك بعض.

وإذا بذل له أحد مصاريف حجّه كان مستطيعاً.

الرابعة: إنَّ الحجّ واجبٌ على النَّاس كلّهم من دون تخصيص بجماعة دون جماعة، فوزانه ـ في ذلك مع استجماع الشروط ـ وزان العبادات جميعاً.

* * *

ما معنى الوصف بالكفر لتارك الحجّ؟

[ومن كفر فإنَّ اللّه غنيٌّ عن العالمين]، الظاهر أنَّ المراد به من لـم يحجّ كما وردت به بعض الأحاديث، وقد تكرّر فيها ذلك كما في الحديث عن الصادق(ع): «من مات ولـم يحجّ حجّ الإسلام ولـم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً»[14]. وهذا أسلوب قرآني شائع في القرآن، للإيحاء بأنَّ قضية الإيمان والكفر ليست قضية فكرية فحسب، بل هي قضية عملية تتصل بالموقف العملي للإنسان، فقد يكون الإنسان مؤمناً في العقيدة، ولكنَّه كافر في العمل إذا كان لا يقوم بما فرضه اللّه عليه من الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرّمات. وقد تحدّث اللّه عن غناه عن العالمين، للإيحاء بأنَّ الطاعة لا تزيد في ملكه شيئاً، لأنَّ اللّه هو الذي خلق العبد ومكّنه من الطاعة، فهو الغني عن وجوده، كما هو الغني عن طاعته، فهي مصلحة للإنسان من خلال نتائجها الإيجابية عليه في حياته. كما أنَّ هناك بعض الإيحاء من الناحية التغييرية بالسخط الإلهي لهؤلاء الذين يتركون الحجّ فيكفرون باللّه كفراً عملياً.

ــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:79.

(2) (م.ن)، ج:2، ص:799.

(3) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:3، ص:407.

(4) السيوطي، أبو عبد الرحمن جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1414هـ ـ 1993م، ج:2، ص:265.

(5) البحار، م:29، ج:80، باب:29، ص:197، رواية:2.

(6) تفسير الميزان، ج:3، ص:405.

(7) انظر: البحار، م:35، ج:96، باب:7، ص:297، رواية:15.

(8) نهج البلاغة، الكتاب/47.

(9) البحار، م:35، ج:96، ص:261، باب:2، رواية:69.

(10) (م.س)، م:35، ج:96، باب:2، ص:260، رواية:65.

(11) (م.ن)، م:35، ج:96، باب:13، ص:319ـ320، رواية:15.

(12) الكافي، ج:4، ص:267، رواية:2.

(13) الكافي، ج:4، ص:267، رواية:3.

(14) التهذيب، ج:5، باب:1، ص:17، رواية:؟؟