تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 98 إلى الآية 99

 من الآية 98 الى الآية 99

الآيتـان

{قل يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات اللّه واللّه شهيدٌ على ما تعملونَ * قل يا أهل الكتاب لِمَ تصُدُّونَ عن سبيل اللّه من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداءُ وما اللّه بغافلٍ عمَّا تعملونَ} (98ـ99).

* * *

معاني المفردات:

[تَبْغُونَهَا]: البغية: الطلب، يُقال: بغيت الشيء أبغيه. قال عبد بني الحسحاس:

بغاك وما تبغيه حتّى وجدته كأنَّك قد واعدته أمس موعدا

أي طلبك وما تطلبه، ويُقال: ابغني بكذا ـ بكسر الهمزة ـ أي: اطلبه لي، وأصله: ابغِ لي، فحذفت اللام لكثرة الاستعمال، وإذا قلت: أبغني: بفتح الهمزة ـ فمعناه: أعنّي على طَلَبه[1].

[عِوَجا]: بكسر العين: انحرافاً عن الحقّ، وانعطافاً إلى الباطل، والعوج: هو الميل عن طريق الاستواء في الدين وفي القول وفي الأرض. والفرق بين العَوج ـ بالفتح ـ والعِوج ـ بالكسر ـ أنَّ الأول يُقال في ما يدرك بالبصر، والثاني في ما يدرك بالفكر والبصيرة.

* * *

لوم مشوب بإنكار:

في هاتين الآيتين دعوة إلى الحديث مع أهل الكتاب بأسلوب يحمل طابع العتاب الهادئ الذي يتحوّل في نهاية الآية إلى تهديد خفيّ حازم، فهو يواجههم في الآية الأولى بالآيات البارزة التي أقامها اللّه ـ من خلال وحيه ـ على كثيرٍ من أحكامه وشرائعه في ما تحدّثت به الآيات السابقة وغيرها، ويتساءل في لهجة اللوم المشوب بالإنكار عن الأساس في جحودهم لها، ثُمَّ يتركهم أمام السؤال ليواجهوا أنفسهم بالجواب الذي لا بُدَّ من أن يكتشفوا من خلاله ضلالهم وتمرّدهم وعنادهم، لأنَّهم لا يجدون أساساً لذلك من خلال ما لديهم من فكر أو برهان، بل يجدون بدلاً من ذلك مزيداً من الشعور بالحقارة الشديدة في داخل نفوسهم. ويختم الآية بأنَّهم إذا استطاعوا أن يخفوا أعمالهم الباطنة عن النَّاس، فإنَّهم لا يستطيعون إخفاءها عن اللّه، فإنَّه الشهيد على كلّ ما يعلمون في سرّهم وعلانيتهم، وبذلك يضعهم وجهاً لوجهٍ أمام مواقع المسؤولية في يوم القيامة.

[قل يا أهل الكتاب] من اليهود الذي كانوا في المدينة في مواقفهم المنحرفة المعقّدة المتحرّكة في الخطّ العدواني ضدّ النبيّ (ص) والمسلمين معه في مواجهة الإسلام [لِمَ تكفرون بآيات اللّه] التي أنزلها على محمَّد (ص) مما قرأتموه في التوراة أو شاهدتموه من علامات النبوّة فيه، فلم تكن لكم أيّة حجّة في الكفر والإنكار [واللّهُ شهيدٌ على ما تعملونَ] مما تكيدون فيه وتضمرونه من الحقد والعداوة والبغضاء، فهو المطلع على سرّكم وعلانيتكم، وسيجازيكم على ذلك بما تستحقونه من العذاب.

* * *

دور تخريبي مكشوف:

أمّا في الآية الثانية، فتبرز لنا صورة أخرى من نشاطاتهم التخريبية ضدَّ الإسلام من خلال ما كانوا يقومون به من صدّ المؤمنين عن سبيل اللّه، لينحرفوا بهم إلى السبيل الأعوج؛ وذلك بما يثيرونه في حياتهم من الشبهات التي تربك إيمانهم، والعصبيات القديمة التي تُفسد عليهم وحدتهم وتماسكهم في خطّ الإسلام، والمشاكل الجزئية التي تُشغلهم عن الاندفاع في العمل الجادّ في سبيل اللّه، ثُمَّ يؤكّد لهم أنَّ هذا السلوك المضادّ للحقّ لـم ينطلق من شبهة طارئة في نفوسهم، أو من انكشاف خلاف ذلك لديهم؛ بل القضية التي تفرض نفسها على الواقع، أنَّهم شهداء على الحقّ، فهم يعرفونه في التوراة التي يقرأونها، وفي القرآن الذي سمعوه، وفي الأساليب التي كان النبيّ محمَّد (ص) يتبعها معهم في سبيل إقناعهم بالحقّ... وبذلك كان دورهم التخريبـي واضحاً كلّ الوضوح، ما جعل من الموقف الإلهي في نهاية الآية تهديداً حاسماً ينذرهم بأنَّ اللّه ليس بغافلٍ عمَّا يعملون، ولا بُدَّ لذلك من نتائج عملية على قضية المصير في الدُّنيا والآخرة.

[قل يا أهل الكتاب لِمَ تصُدُّونَ عن سبيل اللّه من آمن] لتنحرفوا بهم عن الخطّ المستقيم، من خلال الفتنة التي تثيرونها في داخل المجتمع المؤمن من العصبيات العشائرية وغيرها، أو التعقيدات الفكرية أو العملية التي تحرّكونها، [تبغونها عوجاً] منحرفة عن خطّ الحقّ، لأنَّكم لا تريدون للإسلام مواصلة طريقه في الاتجاه الصحيح الذي يؤدّي إلى تغيير الواقع وتحرير الإنسان من نقاط ضعفه، [وأنتم شهداء] تعرفون الحقيقة الأصيلة المنفتحة على المضمون الرّسالي الذي يتمثّل في رسالة النبيّ محمَّد(ص) من خلال البشارة به في التوراة والإنجيل، وتملكون الفكر الذي تتعرفون من خلاله عمق الأشياء في أسرارها وخلفياتها وامتداداتها، بما يجعلكم في موقع الشهادة للحقّ من قاعدة المعرفة التفصيلية للفارق بين الحقّ والباطل، ما يفرض عليكم تحمّل مسؤولياتكم العملية في هذه القضية لتواجهوا الموقف الحاسم بين يدي اللّه، فإنَّه المطّلع على سرّكم وعلانيتكم، وتلك هي الحقيقة الإيمانية التي تفرض نفسها على وجدان كلّ مؤمن باللّه، أو كلّ إنسانٍ واعٍ للمعنى الإلهي في معنى الربوبية، [وما اللّه بغافلٍ عمَّا تعملونَ] الأمر الذي يجعلكم في موقع الحذر من تهديده في اطلاعه على كلّ شيء وقدرته على كلّ شيء.

ومن خلال هاتين الآيتين نكتشف طبيعة الأسلوب التقريري، الذي يريد أن يقرّر الحقيقة للآخرين في نوعية مواقفهم بطريقة توجيه الخطاب إليهم، لتنكشف اللعبة من خلال كشف اللاعبين أمام أنفسهم وأمام الآخرين، في جوّ من التهديد الخفيّ الذي يشعرون معه بأنَّ أعين اللّه النفاذة إلى الأعماق لا تغفل عن كلّ ذلك، مهما كان حجمه ومهما كانت نتائجه، ليعيشوا القلق الروحي الذي قد يدفعهم إلى التراجع عن مواقفهم، ويمنعهم عن الامتداد بعيداً في ما يمتدون به من خطوات الغيّ والضلال، أو يفضحهم في عيون الآخرين، فلا يستطيعون أن يُضللوا ويُفسدوا في أقوالهم وأفعالهم.

ـــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:20، ص:800.