تفسير القرآن
آل عمران / الآية 102

 الآية 102

الآيــة

{يا أيُّها الذين آمنوا اتَّقوا اللّه حقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون}(102).

* * *

طريقة التُّقى:

... ولما كانت المواقف المضادّة للإسلام والمسلمين التي يقفها أهل الكتاب من اليهود ومن غيرهم، في إضلالهم عن دينهم الحقّ، تتحرّك في حالات الضعف الداخلي، والوهن الروحي، والغفلة عن اللّه، ما يجعلهم يندفعون للسير في المخططات الخبيثة التي تُرسَمُ لهم لإبعادهم عن الإسلام، جاءت هذه الآية لتدلهم على السبيل الذي يمكنهم من خلاله أن يحصلوا على قوّة الموقف في العقيدة والإصرار على سلامة الخطّ، وذلك بالدعوة إلى أن يتّقوا اللّه حقّ تُقاته، في ما توحيه هذه الكلمة من الانضباط الواعي أمام خطّ اللّه في ما يأمر به وما ينهى عنه في حالات الاهتزاز النفسي أمام الشهوات، والضعف الروحي أمام التحدّيات، والارتباك الفكري أمام الشبهات...

أمّا كيف يتّقي الإنسان اللّه حقّ تُقاته؟ فقد جاء تفسيره في حديث الإمام جعفر الصادق (ع) في ما رواه عنه أبو بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عن قول اللّه عزَّ وجلّ: [اتَّقوا اللّه حقَّ تُقاته] قال: يُطاع فلا يُعصى، ويذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يكفر»[1]. ورواه في الدر المنثور عن ابن مسعود، مسنداً إلى رسول اللّه(ص)[2]... وهذا المعنى هو التعبير الحركي للحضور الدائم للّه في وعي الإنسان، بحيثُ لا يغيب عن خاطره في كلّ شيء يحيط به، وفي كلّ وجه يتوجه إليه... ونستوحي من ذلك أنَّ التَّقوى، حقّ التَّقوى، هي السير على خطّ العبودية التي تعيش الحضور الدائم للّه في الفكر والحركة والشعور، لأنَّها تنطلق في الحياة على أساس ما تمثِّله من ارتباطها باللّه، فلا شيء فيها إلاَّ وهو مظهر من مظاهر قدرته، ودليل واضح على وجوده، ولطفٌ من ألطاف نعمته. فإذا عاش الإنسان ذلك في نفسه، كانت الطاعة حركة حياته تبعاً للشعور العميق بالعبوديّة، وكان الوعي لوجود اللّه شعوره الدائم انطلاقاً من وضوح الرؤية في وجدانه، وكان الإحساس بالنعمة سبيلاً روحياً للشعور بالحاجة إلى شكره من خلال ما توحيه الإنسانية المنفتحة على اللّه بالاعتراف الجميل بالنعمة.

وهذا هو الخطّ الواعي للتَّقوى الذي يمكن أن يكلّف به الإنسان من خلال قدراته المحدودة، التي لا تستطيع أن تدرك سرّ اللّه في عمقه وامتداده، لترتفع إلى المستوى الأعلى من معرفته.. وهذا هو التكليف الذي تنوّعت الآيات القرآنية في التأكيد عليه من خلال ما جاء من آيات قرآنية تتحدّث عن إطاعة اللّه ورسوله (ص)، وعن ذكر اللّه في جميع الحالات، وعن استحضار نِعم اللّه في نفس الإنسان وشكره عليها بالعمل فيها بما يرضيه والابتعاد بها عمَّا يسخطه.

* * *

فهم الآية:

وقد يجد الإنسان في بعض الكلمات المرويّة عن أئمة أهل البيت (ع)، وهو الإمام جعفر الصادق (ع)، حيث يروى عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن قول اللّه: [اتَّقوا اللّه حقَّ تُقاتـه]؟ قال: منسوخة، قلت: وما نسختها؟ قـال: قول اللّـه: [فاتَّقوا اللّه ما استطعتم]»[3]. قد يجد البعض في مثل هذه الرِّواية دلالة على أنَّ هناك تنافياً بين هذه الآية وبين قوله تعالى: [فاتَّقوا اللّه ما استطعتم]، في اعتبار الآية الثانية ناسخة للأولى، ولكنَّنا، مع التحفظ في سند الرِّواية، نشعر أنَّ النسخ هنا لا يُراد به ظاهره من تبديل المفهوم إلى مفهوم آخر، لأنَّ الآية الأولى تتحدّث عن حدود التَّقوى التي تدفع الإنسان إلى تحويلها إلى موقف عملي في الحياة، بينما تتحدّث الآية الثانية عن الدعوة إلى مواجهتها من موقع القدرة في كلّ مراحلها التصاعدية، وهذا ما يجعل كلّ واحدة تتخذ لنفسها مساراً غير ما تتخذه الثانية.

وقد لا نستطيع ـ في هذا المجال ـ أن نفهم القضية كما فهمها صاحب تفسير الميزان، من أنَّ حقّ التَّقوى «ليس في وسع كثير من النّاس، فإنَّ في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلاَّ العالمون، ودقائق ولطائف لا ينتبه لها إلاَّ المخلصون»[4]. أمّا اتقاء اللّه في حدود الاستطاعة، فإنَّها تختلف ـ عنده ـ باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم[5]. إنَّنا لا نفهم منها هذا الفهم، بل كلّ ما في الأمر أنَّ هناك اتجاهاً في الدعوة إلى التَّقوى من خلال طبيعتها، واتجاهاً إلى الدعوة إليها من خلال القدرات التي نملكها، كقضية التحرّك، فهما بمثابة الآيتين اللتين تكلّم إحداهما الأخرى بحسب المعنى الذي استوحيناه، ولا يظهر منها إرادة الحدّ الأقصى من التَّقوى. أمّا الرِّواية التي أشرنا إليها فقد يمكن توجيهها بأنَّ الآية الأولى قد توحي بما يقرب من الجوّ الأعلى للتَّقوى، وذلك من خلال الاستغراق في كلمة: [حقَّ تُقاته] التي قد تعطي الانطباع بما ينبغي للّه من التَّقوى، فكانت الآية الثانية مفسِّرة لذلك بأنَّ القضية لا تتجاوز القدرة البشرية لكلّ إنسان بحسب ظروفه وأوضاعه...

* * *

خطّ للحياة ومسار للنهاية:

أمّا قوله تعالى: [ولا تَمُوتُنَّ إلاّ وأنتم مُسلمون] فقد تكون نتيجةً طبيعية للسير على خطّ التَّقوى في الحياة، لأنَّ ذلك هو الذي يعمّق وعي الإنسان للإسلام في الداخل، ويركّز خطواته على الصراط المستقيم، فلا يبقى في حياته اهتزاز أو ارتباك يبتعد به عن الإسلام، لأنَّه لا يمثِّل في حياته كلمة تُقال وتقليداً يتجمّد، بل يمثِّل الفكر والعاطفة والحركة التي تجعل من الإسلام طابعاً للحياة ومعنى يتحرّك في أعماق الإنسان من خلالها في امتدادٍ وشمولٍ يختم حياته كما بدأها، حيثُ يلاقي ربّه بإسلام الوجه والقلب واللسان...

إنَّها الدعوة إلى أن لا تكون التَّقوى مزاجاً طارئاً يمرّ بالحياة مروراً خفيفاً، بل تكون قاعدة ثابتة للفكر والحياة لتمثِّل خطّ البداية والمسار والنهاية... وهذا هو ما نستوحيه من هذا النداء الإلهي الذي يحسّ الإنسان فيه بمعنى الرحمة الذي يمتزج بأسلوب التوجيه والدعوة.

ـــــــــــــــــ

(1) البحار، م:24، ج:67، ص:170، رواية:31.

(2) انظر: الدر المنثور، ج:2، باب:56، ص:282.

(3) البحار، م:24، ج:67، باب:56، ص:168، رواية:12.

(4) تفسير الميزان، ج:3، ص:420.

(5) انظر: (م.ن)، ج:3، ص:421.