تفسير القرآن
آل عمران / الآية 103

 الآية 103

الآيــة

{واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النَّار فأنقذكم منها كذلك يبيِّن اللّه لكم آياته لعلّكم تهتدون} (103).

* * *

معاني المفردات:

[فألَّف]: الإلف ـ كما قال الراغب ـ اجتماع مع التئام[1].

[شَفَا]: طرف وحرف، وشفا الحفرة حرفها، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك، لما كان بينهم من الحروب والمنازعات والصراعات المستمرة الدامية التي تضعهم على حافة الهاوية التي تتأجج بالنَّار في الدُّنيا وفي الآخرة.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في مجمع البيان، قال مقاتل: «افتخر رجلان من الأوس والخزرج، ثعلبة بن غنم من الأوس، وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضي اللّه بحكمه في بني قريظة. وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم. فجرى الحديث بينهما، فغضبا وتفاخرا وناديا، فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السّلاح، فبلغ ذلك النبيّ(ص)، فركب حماراً وأتاهم، فأنزل اللّه هذه الآيات[2]، فقرأها عليهم فاصطلحوا»[3].

قد تكون هذه القصة سبباً للنـزول، كمنطلق للنهي عن التفرّق من حيث المبدأ بقطع النظر عن أسبابه الضرورية والاجتماعية، ولكنَّنا نلاحظ أنَّ جوّ الآية يوحي بأنَّ المناسبة قد تعبّر عن ظاهرة بارزة في المجتمع الإسلامي آنذاك، بحيث تؤدّي إلى اهتزاز الواقع المسلم تحت تأثير المشاكل الحادّة التي قد تهدم الهيكل على رؤوس الجميع، ما يعني أنَّ الحادثة أكبر من هذه الحادثة الفردية التي لا تمثِّل أيّة مشكلة كبيرة، لا سيّما أنَّ المتفاخرين لـم يخرجا ـ في مفردات فخرهما ـ عن الواقع الإسلامي، باعتبار أنَّ الأشخاص الذين تحدّثوا عنهم كانوا من وجهاء المسلمين، الأمر الذي يعني أنَّ الخلاف في داخل الجوّ الإسلامي، الذي يُحاول فيه كلّ واحد أن يؤكّد عمق عشيرته في الإسلام من خلال تأثير الشخصيات المهمة في إغناء تجربته وثقافته، مما لا يسبب انحرافاً في الشعور ولا في الموقف.

وقد لا تكون هذه الآية مفصلة من مناسبة معينة، بل ربَّما تكون واردة للتحذير مما قد يحدث من الاهتزازات في الواقع الإسلامي على أساس العصبيات المعقّدة التي قد تؤدّي بالمسلمين إلى الاستغراق في عصبياتهم العائلية التي تؤدّي إلى الحمية الجاهلية.

* * *

أساس الوحدة:

في هذه الآية يُتابع القرآن تأكيد الأساس الذي تنطلق منه الوحدة في أسلوب إيحائي يربط الهدف بالقاعدة، في مسار لا يترك مجالاً للانحراف أو الضلال... ثُمَّ في توجيه المجتمع المؤمن إلى أن يدخل في عملية مقارنةٍ بين الماضي والحاضر، فقد كان الماضي يحمل في داخله الحقد والعداوة والبغضاء، بينما يتحرّك الحاضر على أساس المحبة والإلفة والأخوّة... وكان ذلك الواقع المظلم خاضعاً لممارسات تقف به على مشارف النَّار، فأنقذه اللّه منها برحمته في ما أنزله من وحي، وما أطلقه من مفاهيم، وما وجّهه من تعاليم.

وقد ورد أنَّ "حبل الله" كناية عن كتاب اللّه الذي هو حبل ممدود من السَّماء إلى الأرض، ما يجعل من الدعوة إلى الاستمساك به انطلاقة للاعتصام بالإسلام كأساس للوحدة بعيداً عن كلّ الجهات الأخرى من عائلية وإقليمية وقومية. وفي ضوء ذلك، نعرف أنَّ وحدة المجتمع في الإسلام ليست مطلباً فارغاً من المضمون، كما يفعله المندفعون مع الشعارات التي تلتقي مع أيّ مضمون، لأنَّ القضية تتّخذ لنفسها صفة الإطار الذي يعيش مع أيّة صورة، أمّا الإسلام فهو الإطار والصورة معاً، فلا مجال معه لأي طرح آخر خارج حدود إطاره الطبيعي...

* * *

نعمة الإسلام:

[واعتصموا بحبل اللّه جميعاً] فهو في مضمونه الشامل الذي يشمل الإسلام كلّه، في مضمون الكتاب وحركة القيادة في خططها العملية، يمثِّل العروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع، فلا بُدَّ لكم من التمسك به والارتباط به، واعتباره الخطّ الذي يتواصل به الجميع والرابط الذي يربط بين الأفراد الذين قد يختلفون في خصوصياتهم ومواقعهم، [ولا تفرَّقوا] ليقف كلّ واحدٍ منكم في ناحية بعيدة عن الناحية التي يقف فيها الآخر على أساس العصبية الذاتية أو العائلية أو القومية أو العرقية أو الوطنية أو الإقليمية... وغير ذلك مما يختلف عليه النَّاس في قضاياهم العامّة والخاصّة، فإنَّ التفرّق والاختلاف يؤدّيان إلى الضعف تارةً وإلى السقوط أخرى، وإلى الابتعاد عن الخطّ المستقيم ثالثة، [واذكروا نعمة اللّه عليكم] بالإسلام الذي هداكم إليه، وما كنتم لتهتدوا لولا أن هداكم اللّه، وجمعكم بعد فرقة ووحّدكم بعد تمزّق، [إذ كنتم أعداء] لا تلتقون على موقف، ولا ترتكزون على قاعدةٍ، يحقد بعضكم على بعض، ويلعن بعضكم بعضاً [فألَّف بين قلوبكم] بما أودعه في داخلها من الإسلام المنفتح على اللّه الذي يشيع الإلفة الروحية من خلال العقيدة الواحدة والشريعة الواحدة والخطّ الواحد والهدف الواحد، [فأصبحتم بنعمته إخواناً] متراحمين، متناصحين، مجتمعين على أمرٍ واحدٍ، متحابين خاضعين لعنوان واحد، وهو الأخوّة في اللّه التي تفتح القلوب على بعضها البعض، وتزيل الحقد والعداوة والبغضاء.

[وكنتم على شفا حفرةٍ من النَّار] أي: على حافة الهاوية التي تكاد أن تسقطكم في النَّار، من خلال الكفر الذي كنتم تقيمون عليه، وتتحرّكون في دائرته، وتختلفون فيما بينكم من خلال نوازعه وأوضاعه، [فأنقذكم منها] بالإسلام الذي فتح لكم أبواب الخير كلّه وأبواب رضوانه الذي ينتهي بكم إلى الجنَّة ويُبعدكم عن النَّار، [كذلك يبيِّن اللّه لكم آياته] التي توضح لكم سبيل السّلامة في الدُّنيا والآخرة، وموارد الهلاك، لتأخذوا تلك وتتركوا هذه [لعلَّكم تهتدون] إلى الحقّ والصواب، بالمعرفة الواضحة والحجّة القوية والمنهج القويـم.

* * *

من وحي «الاعتصام بحبل اللّه»:

وقد نستوحي من كلمة «الاعتصام بحبل اللّه» وإلحاقها بكلمة: [ولا تفرَّقوا]، أنَّ من الضروري للمسلمين أن يتلمسوا الركائز التي ترتكز عليها الوحدة من خلال ما يلتقون عليه من مبادئ الإسلام ومفاهيمه العامّة، ليشعروا بالوحدة الفكرية والعملية التي تجمعهم، ويتركوا ما اختلفوا فيه من ذلك، فيرجعوا فيه إلى اللّه والرسول في ما أفاض فيه القرآن من أساليب وقواعد للحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة، ويبتعدوا عن الاستغراق في خلافاتهم من مواقع العقدة الطائفية المشبعة بالحقد والضغينة ومختلف عوامل الإثارة... فإنَّ السير على هذا الخطّ ينطلق من الاعتصام بحبل اللّه، الذي يجمع ولا يفرّق. وقد يبدو للبعض أنَّ مفهوم «الاعتصام بحبل اللّه» يفرض الالتقاء على المبادئ الأصيلة في الكتاب والسنة، فلا يشمل الحالات التي يشعر فيها كلّ فريق بأنَّ الفريق الآخر لا يصدُر عن الحقيقة في عقيدته وفي علمه، ما يجعل الالتقاء به ـ على هذا الصعيد ـ التقاءً مع الانحراف والضلال...

ولكنَّنا نحسب أنَّ هذه الفكرة غير دقيقة، لأنَّ المفهوم من «الاعتصام بحبل اللّه» هو اعتبار الكتاب أساساً للوحدة في المبادئ المتفق عليها، وفي أسلوب الوصول إلى الوفاق في المبادئ المختلف عليها، لأنَّ الرجوع إلى الكتاب يعني الالتزام بقواعده وتشريعاته في طبيعة الفكرة وفي أسلوب الوصول إليها. وإنَّنا نعتقد أنَّ السبب في ما وصل إليه المسلمون من تناحر واختلاف وتفرّق هو أنَّهم انطلقوا من موقع العقد الذاتية التي تتحكم بأعصابهم وانفعالاتهم، ولـم ينطلقوا في مواجهة خلافاتهم من موقع الحوار الإسلامي على هدي القرآن وطريقه...

* * *

ما هو حبل اللّه؟

وقد اختلف المفسِّرون في المراد بـ «حبل اللّه» على أقوال: أحدها: إنَّه القرآن، وثانيها: إنَّـه دين اللّه الإسلام، وثالثها: ما وراه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمَّد الصادق(ع) قال: نحن حبل اللّه[4]. والأولى ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ «حمله على الجميع، والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبيّ (ص)، أنَّه قال: أيُّها النّاس، إنّي قد تركت فيكم حبلين إن أخذتـم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السَّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنَّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»[5].

وقد يؤيد هذا الوجه أنَّ أهل البيت(ع) قد قالوا في كثير من رواياتهم، إنّا إذا حدّثنا حدّثنا بموافقة الكتاب، فلا تقبلوا علينا حديثاً إلاَّ ما وافق كتاب اللّه، ما يعني أنَّ كلامهم ينطلق من خلال كتاب اللّه لفظاً ومضموناً، بحيث يكون التمسك بهم من خلال الالتزام بكلامهم تمسكاً بكتاب اللّه تعالى.

* * *

المقارنة الواعية بين الماضي والحاضر:

ثُمَّ تنطلق الآية في تعميق الفكرة في داخلهم من خلال ربط المبدأ بالتجربة الحيّة في حركة الواقع، وذلك بالمقارنة بين الحياة التي كانوا يحيونها، حيثُ كانت علاقاتهم خاضعةً للعوامل الذاتية المنطلقة من المصالح والأنانيات والنوازع الشريرة، التي يفقد الإنسان معها الحسّ العميق بالروابط الطاهرة التي تربطه بالآخرين، فتدفعه إلى رعايتهم والتفكير بهم والشعور بآلامهم ومشاكلهم والتعاون على مواجهة الواقع، وقد تؤدّي بالإنسان إلى أن يعيش روح العداوة والبغضاء تجاه إخوانه إذا اصطدمت مصالحه بمصالحهم أو مشاعره بمشاعرهم، ويتحرّك نحو التقاتل والتباغض... وبين الحياة التي يعيشونها الآن، حيثُ بدأوا يشعرون بالرابطة الوثيقة التي تحكم علاقاتهم الروحيّة والاجتماعيّة من خلال العقيدة الواحدة والمصالح المشتركة والهدف الواحد والمسيرة الواحدة، فلم يعد الإنسان في ظلّ هذا الواقع فرداً مستقلاً يملك مصالح خاصة تتصل بأنانيته، بل تحوّل إلى جزءٍ من أمّة تتشابك قضاياها ومصالحها في قضية واحدة، وتعيش فيها المشاعر في وحدة شعورية رائعة. وهذا ما عبّرت عنه الآية بقوله تعالى: [فألَّف بين قلوبِكُم]، فإنَّ هذا التأليف بين القلوب لـم ينطلق من حالةٍ طارئة ساذجة في حساب العواطف، ولـم يخضع لمعجزة إلهية خارجة عن النواميس الطبيعية للعلاقات؛ بل انطلق من القاعدة الفكرية الروحية الجديدة المرتكزة على أساس فكر الإسلام وروحه، وتلك هي القاعدة الأساسية التي تبني للمجتمع شخصيته الاجتماعية المتكاملة على صعيد العلاقات العامّة والخاصّة.

إنَّ الآية تدعوهم إلى الدخول في عملية المقارنة الواعية بين علاقات الماضي والحاضر، ليعرفوا النتائج الإيجابية والسلبية، ليعمّقوا الإيجابيات التي تفرضها العلاقات الجديدة، ويخففوا السلبيات المتحرّكة في حياتهم من خلال علاقات الماضي، ليكونوا على وعي كامل عميق لكلّ الأساليب التي يُراد منها إثارة النوازع والعصبيات القديمة من خلال الرواسب الكامنة في الأعماق، مما قد يُعيد للماضي في نفوسهم ضراوته وشدّته. فإنَّ وعي الأمّة للواقع من خلال المبادئ العامّة يمنح التحرّك في نطاق العلاقات قوّة كبيرةً وامتداداً عميقاً نحو الهدف الكبير الشامل... وهذا ما أراد اللّه للأمّة أن تعيه جيّداً، لتفهم أنَّ الحالة الماضية كانت تضع المجتمع على حافّة الهاوية التي تشتعل وتتأجج بالنَّار التي تحرقهم في الدُّنيا والآخرة، وأنَّ المسيرة الجديدة في خطّة العقيدة الجديدة تعتبر عملية إنقاذ من ذلك كلّه، ليعيش النَّاس روحيّة الجنَّة في علاقاتهم ومصيرهم... وتختم الآية الحديث بالإشارة إلى أنَّ هذه هي آيات اللّه التي يريد منها أن يضع للأمّة العلامات الواضحة البيّنة على مفارق الطريق في مسيرة الحقّ أو الباطل، لتكون الهدى للنَّاس عندما تضيع الخطوط أمام الرمال المتحرّكة التي تخفي عن النَّاس معالـم الطريق، ويريد للنَّاس أن يجدوا الهدى في خطواتهم العملية التي تحوّل الفكرة إلى موقف، وتركّز الموقف على أساس التَّقوى والإيمان.

إنَّ الآية تعود إلى الحديث عن الاعتصام باللّه، ولكن بأسلوب آخر، وهو الاعتصام بحبل اللّه، لأنَّ القضية التي تعالجها هذه الآية ليست قضية المسلم الفرد في ما يلتزم به ويحقّق له سلامة المصير الفردي، كما هو الحال في الآية السابقة، ولكنَّها قضية المسلمين في حياتهم الاجتماعية، في وحدتهم وتضامنهم على الخطّ الواحد؛ ولهذا كان الحديث ينطلق في ما تتمثّل به هذه الوحدة التي يرتبط بها الجميع، أو يُراد للجميع أن يعيشوا روح الارتباط بها من ناحية عملية لا من ناحية فكريّة مجرّدة، لأنَّ الاقتصار على الجانب الفكري الذاتي لا يوحي بوحدة الحركة أو الموقف في كثير من الحالات، بل يبقى مجرّد حالة فكريّة توحي بالتعاطف والتلاقي في مجال الحوار والتأمّل، ولذلك كان لا بُدَّ من أن يتحوّل الفكر إلى ممارسة ومعاناةٍ وحركةٍ تعيش في ساحة الواقع، وتتدخل في المشاعر والعلاقات والانتماءات والحركة.. حتّى يشعر الجميع بأنَّ حياتهم تخضع للفكر في حالة اليقظة والنوم، والحرب والسلم، وفي الحياة الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، فلا ينفصل جانب عن جانب، كما لا يبتعد إنسان عن آخر في مصالحه ومشاكله وآماله وآلامه، فليست هناك مصلحة قومية لبعض المسلمين تصطدم بمصلحة قومية أخرى، وليست هناك مشكلة لبعضهم تصطدم بمشكلة خاصّة للبعض الآخر، بل لا بُدَّ من أن تكون الخطّة متكاملة في النطاق الإسلامي الشامل الذي يرتفع عن الخصوصية إلى التعميم، ويُعالج الخصوصية بروح الشمول؛ ولهذا كان التعبير بـ «حبل اللّه» الذي يمثِّل التجسيد الحيّ للخطّ الواحد الذي يتمسك به كلّ الذين يخافون من الوقوع في الهاوية. وقد أكّـد الفكرة بكلمة [ولا تفرَّقوا] التي هي الوجه السلبي للتعبير عن الفكرة الإيجابية للوحدة.

* * *

الآية وواقع المسلمين الممزّق:

وربَّما نستوحي من هذه الآية في واقعنا الإسلامي، الفكرة التي تدفع المسلمين إلى دراسة الواقع الممزّق الذليل الذي يجعلهم فِرَقاً متباعدة متشاحنة خاضعة لقوى الكفر والطغيان في أوضاعها الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة... حتّى تحوّلوا إلى لعبةٍ بيد تلك القوى في صراعاتها مع بعضها البعض، وفي تخطيطاتها لأساليب السيطرة على ثرواتها ومواردها، ما يحوّل البلاد الإسلامية إلى سوق استهلاكية لمنتوجاتها. ومن هنا تأتي الدعوة إلى الوقوف ضدَّ أيّة نزعةٍ استقلالية في المجال السياسي أو الاقتصادي، بل في كلّ المجالات الأخرى... وقد يتّجه التخطيط إلى إثارة المشاكل الطائفية والسياسية بين المسلمين من أجل استنـزاف طاقاتهم وتعطيل فعاليتهم بغية إبقاء السيطرة كاملةً عليهم من خلال حاجتهم إلى الاستعانة بهذه الجهة أو تلك في التغلب على بعضهم البعض...

ربَّما يحتاج المسلمون إلى وقفة تأمّل أمام هذا الواقع كلّه، ليفكّروا في حبل اللّه الذي يجب أن يعتصموا به ويرجعوا إليه في هذه الفوضى الفكرية والسياسية التي يعيشون فيها، ليعرفوا مواطن الوفاق فيلتقوا عليها، ويكتشفوا عناصر الخلاف فيتفاهموا عليها، ويتفهموا طبيعة الساحة التي يدور حولها الصراع من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بها، ونوعية القوى الطاغية الكافرة المتحرّكة فيها وعلاقتها بتفجير الواقع الإسلامي من الداخل ضدَّ المصالح الحقيقية للإسلام والمسلمين... فقد يجد المسلمون في ذلك كلّه سبيلاً للقاء على أساس الاعتصام بحبل اللّه، وقد يقف الواعون منهم وقفة مقارنةٍ بين ماضي الإسلام وحاضره، ولكن بطريقة معكوسة، لأنَّ الآية تدفع إلى الإصرار على الإخلاص للواقع الحاضر على أساس دراسة تجربة الماضي، بينما يفرض علينا الواقع أن نتخلص من واقعنا السيئ على أساس التجربة التي عاشها الإسلام في الماضي...

إنَّ الاعتصام بحبل اللّه يمثِّل القاعدة الصلبة التي يمكن للمسلمين أن يستندوا إليها من أجل توحيد المسيرة وتوحيد الهدف في نطاق توحيد الأمّة، وذلك في ظلّ التخطيط الواعي الذي يتجاوز السلبيات إلى الإيجابيات، ويقف مع السلبيات وقفة فكر لا وقفة عاطفة، ويعتبر أنَّ وضوح الرؤية لدى أيّة جهة لا يعني وضوحها لدى الآخرين، ما يستدعي مزيداً من الصبر والتحمّل في سبيل الوصول إلى وحدة الرؤية للأشياء وللمواقف في اتجاه وحدة الهدف الكبير، وذلك هو ما يبعدنا عن متاهات النظريات والتحليلات التي يثيرها الآخرون في أجواء غير إسلامية مما استحدثوه واستنتجوه من تجارب ذاتية، أو أهواء منحرفة... ففي القرآن الكثير الكثير مما نستطيع أن نتعلّمه ونعمل به، وفيه الكثير الكثير مما يمكن أن يحل لنا مشاكلنا الفكرية والعملية إذا أحسنّا النظرة والأسلوب في كيفية التعامل مع الأشياء من خلال الأجواء القرآنية الواقعية.

ــــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:16.

(2) هكذا وردت، والصحيح: هذه الآية، والله العالم.

(3) مجمع البيان، ج:2، ص:804.

(4) انظر: مجمع البيان، ج:2، ص:805.

(5) (م.ن)، ج:2، ص:805.