تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 104 إلى الآية 109

سورة آل عمران

 

من الآية 104 إلى الآية 109

 

الآيات

 

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۗ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ* وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [آل عمران: 104-109].

 

معاني المفردات

{أمّة}: جماعة قائدة ورائدة لما يملكون من الوعي والعلم والحركة والمسؤوليّة. قال الراغب: جماعة يتخيّرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوةٌ لغيرهم[1]. والأمة اشتقاقها من الأم الذي هو القصد  في اللغة، تستعمل على ثمانية اوجه، (منها) الجماعة، (ومنها): أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد، (ومنها): القدوة لأنّه يأتم به الجماعة، (ومنها): الدين والملّة، كقوله: {إنّا وجدنا ءابآءنا على أمّةٍ} [الزخرف:22]، (ومنها): الحين والزمان، كقوله تعالى: {واّكر بعد أمّة} [يوسف:45] وإلى أمّة معدودة، (ومنها): القامة، يُقال: رجل حسن الأمّة أيّ: القامة، (ومنها): النعمة، (ومنها) الأمّة بمعنى الأمّ[2].

 

{تبيّض}: كناية عن المسرّة والفرح والحبور لما يلاقون من الثواب على الطاعة والإيمان. فابيضاض الوجوه: عبارة عن المسرّة، واسودادها: عن الغمّ والمساءة.

 

مسؤوليّة الدعوة إلى الخير

 

كانت الآيات السابقة دعوة للاعتصام بحبل الله في خطّ التقوى الذي يقتضي ضبط المسيرة الذاتية للمجتمع الإسلاميّ، وتأكيد الوحدة الروحيّة والأخوّة العمليّة في حركة هذا المجتمع، وذلك من خلال المفاهيم الإسلاميّة التي تربط الإنسان المسلم باللّه في الفكر والشعور والعمل..

أمّا هذه الآيات فقد بدأت في تحويل المجتمع إلى مجتمع منفتح على آفاق الدعوة إلى الخير في الداخل والخارج، لأنّ ذلك هو دور الأمّة المسلمة القائدة التي تقود العالم إلى ما فيه الخير والصلاح، لأنّها لا تمثّل القوّة التي تختزن في نفسها عناصر القوة ثم تنغلق على ذاتها في عمليّة ذاتية محدودة لا تشعر فيها بالمسؤوليّة عن فكرها وقيمها وأهدافها، فلا تعمل من أجل تحريكها في حياة الآخرين، وتوسيع مداها في حركة الإنسان الصاعدة، بل تمثّل القوّة المسؤولة التي تعتبر مسؤوليّة صنع الخير والدعوة إليه جزءاً من شخصيّتها الممتدة التي ترى في امتدادها في الزمن معنى وجودها في الحاضر، وتؤمن بأنّ حركتها ـ بعيداً عن الحدود الضيّقةـ في سرّ حيويّتها وتجدّدها ومعنى إيمانها، لأنّ الإيمان بالله وبرسالاته لا يتجمّد في زمن ولا يقف عند حدّ، إذ إنّ الإنسان هو عبد الله وخليفته في دوره الإنسانيّ في الأرض، فلا بد من أن يستوعب كلّ عناصر الرسالة في كلّ دور من أدوار حياته، وفي كلّ مجتمع من مجتمعاته من خلال ما يبلغه رسل الله من رسالات.

 

من هم الأمّة؟

 

وإذا كانت الدعوة إلى الخير هدفاً من أهداف الإسلام من أجل شمول الخير للحياة، فإنّ من اللازم أن تبررّ من داخل الأمّة طليعة واعية تتبنّى خطّ الدعوة إلى الله حسب حاجة الساحة إليها، فقد تحتاج إلى عدد محدود قليل، وقد يزيد هذا العدد، وربما يشمل الأمّة كلّها إذا كبرت التحديات الشريرة المضادة من قوى الكفر والشر.

وهذا هو معنى الأمّة في قوله: {ولتكن منكم امّة يدعون إلى الخير}...؟؟؟؟ أيّ جماعة من المسلمين الذين يمكن لهم أن يحقّقوا الهدف، ويسدّوا الثغرة بالجهود المبذولة في هذا الاتجاه. وفي ضوء ذلك نعرف عدم إرادة "الأمّة" بالمعنى المصطلح الذي يتسع ليتحدّد في معنى القوميّة الشاملة التي تنطلق من وحدة اللغة والأرض والتاريخ أو العادات والتقاليد، ممّا يوحي به المعنى الاجتماعيّ والسياسيّ للكلمة، لأنّ ذلك لا مجال له في هذه الآية التي تؤكّد على الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر بحجم الحاجة، فقد تشمل المسلمين كلّهم إذا كانت التحدّيات الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة بالمستوى الكبير الذي لا يكفيه أيّة جماعة محدودة، وقد يضيق عن ذلك إذا كان بالحجم محدوداً يكفيه قسم معيّن منهم.

وقد يتنوع الموضوع حسب الحاجة الواقعيّة بين الجهود الفرديّة التي يدعو فيها بعضهم بعضاً بشكل فرديٍ، وبين الجهود الجماعيّة التي تنطلق لرعاية الواقع كلّه ومراقبته وتوجيهه في القضايا العامة التي تحتاج إلى الأمة الإسلاميّة كلّها، تبعاً لاتساع حدودها وكثرة جماعتها وتنوع أوضاعها.

وقد كان الواقع التاريخيّ لهذه الجماعة يتمثّل في الدائرة الاجتماعيّة في البلاد الإسلاميّة تحت اسم دائرة الحسبة، ويسمى أفرادها بالمحتسبين.

وقد يطلق عليهم اسم "لجنة الآمرين بالمعروف"، وكانت مهمتهم ملاحقة ظاهرة الانحراف الدينيّ والفساد الاجتماعيّ والسياسيّ في واقع الناس والدولة، وهكذا نجد أن حجم الجماعة لا يختصّ بعد محدود، فقد يشمل المسلمين كلّهم في الدائرة العامة للحاجة.

 

الدعوة إلى الخير مسؤوليّة كلّ مسلم

 

... أمّا حجم الخير ومداه ونوعيّته، فإنّه يتسع سعة الإسلام في عقيدته وشريعته وحركته الشاملة للحياة، وذلك قوله تعالى: {يدعون إلى الخير}، وبذلك كانت الدعوة مسؤوليّة كلّ مسلم يحتاج الإسلام إلى فكره وأسلوبه في الدعوة، فليس لأيّ إنسان من أمثال هؤلاء أن يتقاعس ويجمّد نفسه في دائرة ضيّقة أو عزلة خانقة، أو هروب من خطّ المسؤوليّة، تماماً كما لا يجوز له أن يفعل ذلك في ما يتعلّق بعباداته وفروضه الأخرى. وقد شاركت عصور التخلّف في خلق ذهنيّة سلبيّة كسولة لا شغل لها إلاّ البحث والتدقيق في إيجاد المبرّرات للتراجع والتكاسل والبعد عن المسؤوليّة، الأمر الذي أدّى إلى ان يفقد الإسلام كثيراً من الطاقات والقابليّات ذات الفاعليّة الكبيرة في تعزيز الإسلام والمسلمين، ولا يزال بعض هؤلاء يتحرّك من أجل التنديد بالعاملين، لأنّهم يشكلّون التحدّي العمليّ لأمثاله في حمل المسؤوليّة الإسلاميّة في الساحة.

 

مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

أمّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد يلتقيان بالدعوة إلى الخير في الجانب الذي تفرضه الدعوة للمعروف وللبعد عن المنكر بالكلمة وأمثالها، مما يكون حركة إيجابيّة نحو الخير والمعروف وحركة سلبيّة نحو الشرّ والمنكر.. لأنّ ذلك من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد يتحرّكان في اتجاه الخطوات العمليّة التي تعمل على تغيير الواقع بالمواقف الحاسمة التي يقفها العاملون ضدّ المنكر في اتجاه المعروف، بالثورة عليه وبمواجهته بالضغوط القويّة، من أجل إزالته تارة، أو التخفيف من غلوائه أخرى، سواء في ذلك العمل الفرديّ المنكر المتمثّل في انحراف الفرد عن خطّ الإسلام، أو العمل الاجتماعيّ الذي يمثّله انحراف المجتمع ككلّ في الخطّ العمليّ بشكل عام، أو العمل السياسيّ الذي يواجه في الأمّة الحكم الظالم الذي يعمل على السير بقضاياها المصيريّة في الاتجاه المنحرف، على غير سيرة العدل في الحاكم والحاكمين، الأمر الذي قد يسيء إلى عزتها وكرامتها وذلك بإخضاع مقدراتها للكفر والكافرين بمختلف الوسائل الخفيّة التي تجعلها تحت سيطرة الاستعمار والمستعمرين، أو العمل الاقتصاديّ الذي ينحرف بالاقتصاد عن شريعة الله في مصادر الثروة ومواردها وطريقة توزيع الإنتاج، وإبقاء ثروة الأمّة تحت سيطرة الاحتكار الجشع في ما يريده وما لا يريده..

وفي ضوء هذا المفهوم الشامل، نكتشف الخطّ الإسلاميّ للمسيرة الإسلاميّة تجاه رصد حركة الواقع في الجانب الإيجابيّ والسلبيّ، فنلاحظ أنّ الله يريد للأمّة أن تتحمّل مسيرة الخير بمعناه الواسع بالدعوة إليه حتى لا يبقى هناك أحد لم تبلغه الدعوة، مما يعني أن تراقب كلّ المناطق والمجالات التي ليس فيها دعاة او مرشدون لسدّ هذا النقص الكبير فيها، كما يريد للأمّة أن ترصد المعروف والمنكر في المجال التطبيقيّ للإسلام لتتحمّل مسؤوليّة الأمر بالأول والنهي عن الثاني بكلّ الإمكانات المتاحة لها، في منطقة الشعور الداخليّ بالرفض النفسيّ للمنكر، والتعاطف الروحيّ مع المعروف، وهو ما يعبّر عنه بالتغيير بالقلب،  أو في منطقة التعبير بإطلاق الكلمة القويّة التي تؤيّد أو ترفض وهو التغيير باللسان، أو في مجال المواجهة بالدخول إلى صميم الواقع والضغط عليه بشدّة وهو ما يعبّر عنه بالتغيير باليد... فلا مجال ـ بعد ذلك ـ للقول بأنّ الإسلام يوافق على السلبيّة الفرديّة والاجتماعيّة في هذا المجال، لأنّه يعزل الإنسان في النطاق الذاتي الذي لا يخلق له أية مشكلة مع الآخرين  على أساس أن كلّ فرد مسؤول عن نفسه  فلا مسؤوليّة له عن غيره إلاّ في نطاق النصائح والتوجيهات الأخلاقيّة العامة التي تلامس المشكلة من بعيد، بحيث لا تثير أي شعور سلبيّ لدى المنحرفين والكافرين والظالمين..

وقد ختمت الآية دعوة بإعطاء هؤلاء الذين يقومون بهذه المهمّة صفة الفلاح بقوله: {أولئك هم المفلحون} للإيحاء بأنّ هذه الدعوة إلى الخير  والممارسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل خط الفلاح للقائمين بها، من خلال أنّها تمثّل قيامهم بالمسؤوليّة العامة في ما يريد الله منهم القيام به، مقابل الخاسرين الذين يبتعدون عن مشاكل المسؤوليّة وأتعابها.

 

نهي عن السير في خطّ الاختلاف

 

وينهي القرآن عن السير في خط التفرق والاختلاف الذي يؤدي إلى انهيار المجتمعات وابتعادها عن خط الاستقامة، من خلال ما يحدثه من التمزق الأخلاقيّ والسقوط الاجتماعيّ، الذي يفقد فيه المجتمع توازنه الفكريّ والعمليّ، فيسيطر عليه المترفون الذين يعملون على إضلال الناس وإسقاط قيمهم الروحية والأخلاقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة لمصلحة امتيازاتهم الظالمة، أو يتولى أمره المستكبرون والكافرون الظالمون فيبتعدون به عن خطّه المستقيم وإيمانه القويم: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا} فلم يلتقوا على قاعدة فكريّة واحدة على مستوى العقيدة والمفاهيم العامّة والتصوّر الشامل الدقيق للأشياء، بل أخذ كلّ واحد منهم بشيء من الأفكار المختلفة التي يناقض بعضها بعضاً، مما يؤدّي إلى التنافر والتنازع والضلال {من بعد ما جاءهم البيّنات} فاختاروا الكفر على الإيمان بعد قيام الحجّة عليهم من الله سبحانه بالدلائل الواضحة والبيّنات القويّة، {وأولئك لهم عذاب عظيم} جزاء تمرّدهم على الله وانحرافهم عن خطّه المستقيم.

 

دعوة عامّة أم خاصّة؟

 

وقد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنّ الله سبحانه لم يطلب من المسلمين كافة القيام بهذا الدور، بل دعاهم إلى أن يكون منهم جماعة مخصوصة لتقوم بذلك، فكيف نفهم ذلك؟

الظاهر أنّ القضيّة ليست في مجال التحديد، بل هي في مجال تقرير المبدأ، فلا بدّ للأمّة من دعاة للخير ومن آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، بالمستوى الذي تتحرّك فيه دعوة الخير ويتأكّد فيه المعروف ويزول فيه المنكر، وبذلك يختلف حجم هؤلاء حسب اختلاف حاجة الساحة إلى تحقيق هذا الهدف، فقد تمرّ الأمّة بمرحلة عاديّة لا تحتاج فيها إلى النشاط الطبيعيّ الذي تقتضيه طبيعة الأشياء، مما لا ضرورة فيه لاستنفاء الأمّة بطاقاتها الكاملة... ولكنها قد تمرّ بحالة طوارئ من التحديات الصعبة العنيفة التي يثيرها دعاة الكفر والضلال، بالمستوى الذي تحتاج فيه الأمّة إلى كلّ طاقاتها لمواجهة ذلك كلّه، ويتحوّل فيه الموقف إلى "الوجوب العينيّ" الذي يتوجه إلى كلّ فرد بنفسه من دون أن يقوم فيه إنسان عن الآخرين، بدلاً من "الوجوب الكفائيّ" الذي إذا ما قام به البعض سقط الكلّ، وإذا لم يقم به الكلّ أثموا جميعاً.

وفي ضوء ذلك، انطلقت الآيات والأحاديث الشريفة في التأكيد على الإبلاغ والتذكير، والدعوة إلى الله، والتنديد بالعلماء الذين يكتمون علمهم في الحالات التي تظهر فيها البدع وتتكاثر في المجتمع، لأنّ ذلك هو السبيل إلى استمرار الرسالة حيّة نامية في حياة الناس، وقويّة صلبة أمام التحديات الفكريّة والعمليّة، مما يجعل من السكوت في حالة القدرة على الكلام خيانة للإسلام والمسلمين، لأنّ ذلك يُفقد الموقف قوّة من قواه الجاهزة في صعيد الواقع.. وقد لا نستطيع اعتبار مواقف النبيّ والصحابة والأئمة (عليهم السلام)، محصورة في نطاق حياتهم ومرحلتهم في مجال الدعوة، بل هي مواقف ممتدّة في الحياة امتداد الرسالة في الزمن، مما يجعل من الدعوة إليها أمانة الأجيال المسلمة في كلّ زمان ومكان.

وقد نستطيع التأكيد في هذا المجال على أنّ الرسالة الإسلاميّة لم تصل إلينا بهذا المستوى الكبير من القوّة والوضوح والامتداد إلاّ بفضل المواقف الرساليّة التي وقفها العلماء والمجاهدون في مراحل التاريخ في دعوتهم إلى الخير، وفي أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ومواجهتهم للقوى الكافرة والضالة، حتى سقط منهم الشهداء في خط المسيرة الطويل.. وهكذا يظلّ الإسلام دين الدعوة للفكر والإيمان، وتوجيه للعمل والتطبيق في عمليّة توعية وانفتاح.

 

في الآخرة وجوه تبيضّ وأخرى تسودّ

 

... وليست القضيّة قضيّة صفة ذاتية عاديّة يراد منها تقييم الإنسان من ناحية ذاتية، لأنّ طبيعة القضيّة تتصل بالجانب العام الشامل لحياة الإنسان، أمّا ذلك الفلاح وهذا العذاب فإنّهما يبرزان بأعلى صفاتهما في مواجهة الإنسان للمصير في موقفه أمام الله عندما يتحدّد للإنسان مصيره من خلال انطباع أعماله على وجهه، فهناك الناس الذي تبيضّ وجوههم بما عملوا من خير، من خلال ما يمثّله من صفاء ونقاء وبياض ناصع، وهناك الذين تسودّ وجوههم بما عملوا من شرّ، من خلال ما يمثلّه من سواد وظلمة وقلق، وذلك هو قوله تعالى: {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودُ وجوهٌ} وهذا تعبير إيحائيّ عن الحالة الروحيّة التي تترك تأثيراتها على الصورة البارزة للإنسان من خلال عناصرها الخاصّة في الذات، فإذا كانت الروح منفتحة على الجانب المشرق من النيّات الخيّرة والأعمال الصالحة، فإنّ ذلك ينعكس على إشراقة الوجه نوراً وإشراقاً وبشراً، لأنّ هذا الإنسان لا يشكو من عقدة تثقل روحه وتشوّه صورته. وأما إذا كانت الروح منغلقة على الخير ومنفتحة على الشرّ في الدوافع والأعمال، فإنّ الإنسان يبدو من خلالها شيطاناً في ملامحه، معبّراً في وجهه، مظلماً في ذاته. وهذا ما يوحي بالحقيقة الإنسانيّة في تأثير الواقع الداخليّ في صورة الواقع الخارجيّ للإنسان، بحيث تتمثّل ملامحه الداخليّة في ملامحه الخارجيّة في الصورة تارة، وفي النظرة العامة لحركته تارة أخرى. وقد عبّر الله عن ذلك بطريقة أخرى في صورة المؤمنين يوم القيامة في النور الذي يسعى بين أيديهم وبإيمانهم وذلك هو قوله تعالى: {يوم تبيضُّ وجوه} وبإزاء هؤلاء نرى المنافقين والمنافقات غارقين في الظلمة يستجدون النور من المؤمنين والمؤمنات {وتسودُّ وجوه}.

وتزداد الثورة وضوحاً في مواجهة الموقف، فيبدو لنا هؤلاء الذين اسودّت وجوههم، فإذا بنا نلمح في أوضاعهم وتقارير أعمالهم وطبيعة السؤال الإنكاريّ الذي يوجّه إليهم: {فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} صورة الناس الذين ساروا في خطّ الإيمان فترة من الزمن، ولكنهم وقعوا تحت تأثير الضغوط الذاتيّة من الشهوات والأطماع والأضاليل فانحرفوا عن الخطّ، ثم تحوّل انحرافهم إلى مواجهة مضادة للخطّ نفسه عندما فرضت عليهم ذاتيّاتهم أن يقاوموه ليرضى عنهم أولياؤهم من الكافرين والضالين..

وفي إيحاء دقيق من بعيد بأنّ على الإنسان أن لا يستسلم للثقة بإيمانه في استرخاء كسول، يؤمن معه بأنّه لا يتزعزع مهما كانت الظروف والضغوط، بل ينبغي له أن يحرسه بالفكر والتأمّل والقراءة والحوار والعمل، لأنّ الكثيرين من الناس قد ضلّوا بعد الهدى وكفروا بعد الإيمان تحت تأثير العوامل السلبيّة المتنوعة المحيطة بهم... فحاق بهم العذاب نتيجة ذلك كلّه، وواجهوا النداء الحاسم من الله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.

{وأما الذين ابيضّت وجوههم} فقد عاشوا حياتهم مع الله، فإذا فكّروا كان الله أوّل ما يفكّرون به في عظمة خلقه وكرمه في نعمه، وفي كلّ شيء يحيط بهم، وإذا خطّطوا لحياتهم كان الله هو الذي يستلهمونه في رسم تلك المخططات، وإذا واجهتهم الشهوات، وقفوا منها وقفة التوازن التي تأخذ منها ما يبني للإنسان كيانه في ما يضرّهما، أمّا إذا عاشوا مع الناس، فإنّهم لا يفكّرون بأنفسهم في سجن الأنانية بل ينفتحون على الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للآخرين كمنطلق لممارسة المسؤوليّة المفروضة عليهم من الله في أن تكون حياتهم خيراً وبركة للآخرين، فلا يصدر منهم أيّ ضرر أو فساد لأيّ إنسان، وإذا وقفوا مع أنفسهم تذكّروا الله قبل ذلك فعلموا أنّهم عبيد له وعرفوا أنّ من واجبهم أن يعبدوه حقّ عبادة ويطيعوه حقّ طاعته في كلّ ما يستطيعونه ويقدرون عليه من ذلك.. فكانوا قريبين من الله في فكرهم وشعورهم وعملهم فاستحقّوا رحمته الخالدة التي يمنحها للصالحين والمجاهدين من عباده {ففي رحمة الله هم فيها خالدون}.

 

الشعور بالحضور الإلهي ضرورة تربويّة

 

وماذا بعد ذلك؟

إن الله يختم الموقف بآيتين، ففي الأولى قوله تعالى: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ وما الله يريد ظلماً للعالمين} فقد بيّن الله للناس الأمور كلّها ودلّهم على العلاقات التي تحدّد لهم خطوط الحياة والمصير على أساس الحقّ، ووضع كلّ إنسان منهم مسؤوليته، ليختار ـ بعد إقامة الحجّة عليه ـ الخط الذي يتجه به إلى الجنة أو الخط الذي يتجه به إلى النار. فإذا عاقبه بانحرافه وظلمه لنفسه فإنّه يواجه بأعلى مواقف العدل، فإنّ الله لا يريد ظلماً للعالمين، لأنّه العدل الذي تعالى شأنه عن الظلم، فهو غنيّ عنهم في كلّ شيء، فلا حاجة به إلى الظلم الذي لن يحتاجه صاحبه إلا على أساس عقدة داخليّة يُعاني منها في ذاته..

أمّا في الآية الثانية: {ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور}، فإنّها تثير الغنى المطلق لله من جهة ما يمثّله ملك القوى والطاقات والأشياء الموجودة في السموات والأرض، مما يجعله مهيمناً على الأمر كلّه من دون عقدة ضعف أو حاجة، كما تثير في داخل الإنسان الشعور بعظمة الله في أسلوب تربويّ يدفع بالإنسان نحو التفكير بالارتباط به، لأنّه مصدر القوّة في كلّ من حوله وما حوله، فإنّه يملك الأمر فيها جميعاً، كما أنّ مرجع الامور إليه في المصير في نهاياتها، كما كانت كذلك في بداياتها.

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان أنّه لا يجوز تعليل نفي إرادة الظلم من الله سبحانه بغناه عنه، لأنّ ظاهر الآية هو التأكيد على ملكه عرش السموات والأرض، لأنّه إذا كان يملك جميع الأشياء من جميع الجهات، فله أن يتصرّف فيها بما يشاء فلا يتصوّر في حقّه التصرف في ما لا يملكه حتى يكون ظلماً وتعدّياً.[3]

ولكنا نلاحظ أن الله تحدّث عن الظلم من حيث إنّه لا يتناسب مع عظمته ورحمته وانطلاق إرادته من قاعدة الحق، لأنّه ليس بحاجة إليه بالطريقة التي يحتاج فيها الظالمون إلى الظلم على أساس ضعف وعقدة او خوف او ما إلى ذلك.. وليس ظاهراً في الحديث عن تحقيق موضوع الظلم، باعتبار أنّه يتصرّف في ملكه، وعلى ضوء هذا فإنّ الآية الثانية تعرّضت للملك الشامل الذي يجعل الأمور في تصرّفه، مما يؤدّي إلى أنّه ـ وحده ـ المتصرّف، فيها المسلّط عليها مما يقتضي رجوعها إليه، والله العالم.

وقد نلاحظ تنوّع الأساليب المماثلة في القرآن الكريم من أجل تربية الشعور بالحضور الإلهي في كلّ مظاهر الحياة المحيطة به، مما يدخل في عمليّة البناء الداخليّ للشخصيّة الإسلاميّة، وليس مجرّد إبراز حقيقة من حقائق العقيدة وفي ضوء ذلك لابدّ للعاملين في حقل تربية الناشئة الإسلاميّة من أن يؤكّدوا على استشارة هذا الأسلوب في تربية العقيدة في نفس الإنسان المسلم.

 


[1] - مفردات الراغب، ص:19.

[2] - مجمع البيان، ج2، ص806.

[3] ـ انظر: تفسير الميزان، ج3، ص: 430.