تفسير القرآن
آل عمران / الآية 110

 الآية 110

الآيــة

{كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهُمُ الفاسقون} (110).

* * *

معاني المفردات:

[كنتم]: قال الزمشخري في الكشاف: «كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماضٍ على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: [وكان اللّه غفوراً رحيماً] (النساء:96)؛ ومنه قوله تعالى: [كنتم خير أمَّةٍ]؛ كأنَّه قيل: وجدتـم خير أمّة، وقيل: كنتم ـ في علم اللّه ـ خير أمّة. وقيل: كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنَّكم خير أمّة، موصوفين به»[1].

[أُخرجت]: أظهرت، «ومزيّة هذه اللفظة ـ أي الإخراج ـ أنَّ فيها إشعاراً بالحدوث والتكوّن، قال تعالى: [والذي أخرج المرعى]» (الأعلى:4)؛ كما قال صاحب الميزان[2].

* * *

مناسبة النـزول:

جاء في أسباب النـزول ـ للواحدي ـ قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالـم مولى أبي حذيفة، وذلك أنَّ مالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا اليهوديين، قالا لهم: إنَّ ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن خير وأفضل منكم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية[3].

الأمّة الإسلامية أمّة قائدة:

إنَّ قيمة كلّ أمّة بالنسبة إلى الأمم الأخرى، هي في المبادئ التي تؤمن بها وفي الدور الكبير الذي تقوم به في حياة النَّاس. وعلى هذا الأساس، جاءت هذه الآية لتؤكّد أفضلية الأمّة الإسلامية على سائر الأمم، لا من خلال الجانب الذاتي الذي يقوم على تفضيل شعبٍ على شعب لصفاته الذاتية، أو لامتيازات غيبية خاصّة كما هو شأن اليهود في اعتقادهم بأنَّهم شعب اللّه المختار، بل من خلال الدور الذي أنيط بها في تغيير الواقع الفاسد بكلّ الوسائل الممكنة، سواء كان ذلك بالإقناع القائم على أساس المحبة، أو بالقوّة التي تحطّم الحواجز التي يقيمها الآخرون أمام حرية الإسلام في الدعوة، أو التي تواجه التمرّد المنحرف الذي يقوم به الأفراد في المجتمعات الإسلامية، فهي أمّة قائدة لمجتمعها ومجتمعات الآخرين من حيث الدور الذي أنيط بها، بينما كانت الرسالات الأخرى، في مـا حدّثنا القرآن عنه من حديث الأنبياء، تعمل على أساس التغيير بالموعظة والكلمة الطيبة والأساليب الهادئة ما يجعل منها رسالة دعوة مجرّدة، تماماً كما هي الآيـة الكريـمة: [وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس] (البقرة:143)؛ وإذا كانت قيمة الأمّة من حيث الدور لا من حيث الذات، فإنَّ الحكم على واقعها العملي تابع لقيامها بهذا الدور، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء هذه الصفة من حيث الخطّ الذي وُضع لها...

وقد أثار المفسِّرون ـ في تفسير هذه الآية ـ الحديث حول كلمة «كان»، هل هي متضمنة للزمان في معناها، فيكون الحديث عن التفضيل في زمان سابق، أو هي غير متضمنة له، فتكون واردة لبيان أصل المبدأ؟! وقد اختار بعض المحقّقين من المفسِّرين الوجه الأوّل، واستظهر أنَّ «الآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والمراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل اللّه وعدم التفرّق فيه في مقابل الكفر به، على ما يدلّ عليه قوله قبل: [أكفرتـم بعد إيمانكم] الآية، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضاً، فيُؤول المعنى إلى أنَّكم معاشر أمّة الإسلام كنتم في أوّل ما تكوّنتم وظهرتـم للنَّاس خير أمّة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر...»[4].

وذهب أكثر المفسِّرين إلى الوجه الثاني، وقالوا: إنَّ كلمة «كان» قد تتجرّد عن الزمان في بعض الحالات، كما في الآيات التي تتحدّث عن صفات اللّه، مثل: [وكان اللّه غفوراً رحيماً] (النساء:96). ولكنَّنا نلاحظ على هذا الموضوع، أنَّ الظاهر من الآية هو ورودها لبيان دور الأمّة وقيمتها من خلال ذلك، وهذا قرينة على أنَّ القضية لا تتصل بالزمن، لأنَّ خصوصية الزمان في مثل هذه الأمور تابعة للجانب الواقعي العملي الذي تختلف فيه الأمّة من زمنٍ إلى زمن، وهذا غير مُراد من الآية ـ في ما يظهر ـ. أمّا ما ذكره صاحب تفسير الميزان فهو مخالف للظاهر، من خلال ما استظهرناه من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ الآية نزلت في الوقت الذي كانت حركة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجودة مستمرة في حياة المسلمين ولـم تكن منفصلة عن ذلك الجوّ، فكيف يمكن أن تتكلّم عن الموضوع بصفة الماضي، الذي قد يوحي بتبدّل الصفة إلى نقيضها؟! أمّا تفسير الإيمان باللّه، بالاعتصام بحبل اللّه وعدم التفرّق، فغير واضح، بل ربَّما كان من القريب جداً أن يكون المراد منه معناه الحقيقي، على أساس ارتباط الدور بالجانب العقيدي الفكري الذي يمثِّله الإيمان باللّه، وبالجانب التطبيقي العملي الذي يمثِّله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[كنتم] أيُّها المسلمون في انطلاقكم في الحياة كجماعةٍ موحدة على أساس الخطّ الفكري والعملي من خلال رسالة اللّه التي أراد للنَّاس ـ من خلالها ـ أن يتوحدوا في أوضاعهم العامّة والخاصّة، [خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس] أي خير جماعةٍ ظهرت للنَّاس في وجودها الحركي القيادي الذي يتحوّل فيه كلّ مسلم إلى داعيةٍ للّه، وعاملٍ في خطّ التغيير الفردي والاجتماعي، بعيداً عن الفردية الذاتية في اهتماماتها الخاصّة على أساس عبادتها وأخلاقيتها في خطّ الإيمان، لأنَّ الإسلام يريد للمسلم أن يحمل في داخل شخصيته شخصية الأمّة في حركة مسؤوليته عن الأمّة كلّها في حدود استطاعته، وبهذا تكون الأفضلية أو «الخيرية» منطلقةً من خصوصية المضمون الفكري والدور العملي لهذه الجماعة، لا من خصوصية الذات في ذاتية الانتماء من حيث ذاته.

وقد تعدّدت التطبيقات في التفاسير في مصداق هذه الجماعة من حيث اختصاصها بأشخاص معينين، أو شمولها للمسلمين كلّهم، فقيل[5]: هم المهاجرون خاصّة، عن ابن عبـاس والسدّي؛ وقيل: نزلت في ابن مسعود وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالـم مولى أبـي حذيفة ـ كما تقدّم في أسباب النـزول ـ وقيل: أراد بهم أصحاب رسول اللّه (ص) خاصّة، عن الضحاك؛ وقيل: هو خطاب للصحابة ولكنَّه يعمّ سائر الأمّة؛ وقيل ـ كما في الدر المنثور ـ: أخرج ابن أبي حاتـم عن أبي جعفر: [كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس] قال: أهل بيت النبيّ[6]. وجاء في قوله تعالى: [كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس] الآية، عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق(ع) قال: يعني الأمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (ع)، وهم الأمّة التي بعث اللّه فيها ومنها وإليها، وهم الأمّة الوسطى، وهم خير أمَّة أخرجت للنَّاس[7]. والظاهر أنَّ المراد بالكلمة: الجماعة المسلمة المميزة بالتزامها الرسالة في إيمانها وفي حركيّة الدعوة إلى اللّه، ومن الطبيعي أن يكون مصداقها منطبقاً على الصحابة المجاهدين وعلى الأئمة الطيبين من أهل البيت (ع)، كما هي منطبقة على المسلمين السائرين في خطِّ الإيمان باللّه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون التفسير الوارد في هذه المصاديق تفسيراً بالمصداق أو المصداق النموذجي الأعلى، لا تفسيراً بالخصوصية المعينة المنحصرة في هذه الفئة أو تلك، لأنَّ الصفات المتأخرة المذكورة في الآية: [تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه] تشمل المسلمين كلّهم.

* * *

هل الآية محرّفة؟!

وقد جاء في بعض الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (ع) تبديل كلمة أمة بكلمة أئمة من قراءة خاصّة، فقد جاء في رواية عليّ بن إبراهيم قال: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير، عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه (ع)، قال: قرئت عند أبي عبد اللّه (ع): [كنتم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس] الآية، فقال أبو عبد اللّه(ع): خير أمّة تقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني عليّ (ع)؟ فقال القارئ: جعلتُ فداك كيف نزلت؟ قال: نزلت: «كنتم خير أئمة أخرجت للنَّاس»، ألا ترى مدح اللّه لهم: [تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه]. وجاء في تفسير العياشي عن حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه (ع) قرأ في قراءة عليّ: «كُنْتُم خَيْرَ أَئِمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ»، قال: هم آل محمَّد[8].

ونلاحظ على ذلك، أوّلاً: سند الرِّوايتين، فإنَّ المراد في الأولى بابن سنان ـ على الظاهر ـ محمَّد بن سنان، الذي لا يعتمد الأكثر على روايته، أمّا في الثانية فهي مرسلة.

وثانياً: إنَّ إسناد ضمير [أُخْرِجَتْ] إلى الأئمة قد يكون خطأ من الناحية العربية، لأنَّ الجمع المذكّر لا بُدَّ من أن يسند إليه الضمير في الفعل بنحو المذكّر لا بنحو المؤنث، فلا بُدَّ من أن يقول: «أخرجوا» وإنَّما يجوز الإسناد إليه بنحو التأنيث إذا كان إسناد الفعل إلى الظاهر، كما تقول جاء الأئمة بتقدير كلمة «جمع»، وجاءت الأئمة بتقدير كلمة «جماعة»، وإذا لـم يكن ذلك فليس بليغاً على الأقل.

وثالثاً: إنَّه وردت الرِّواية المتقدّمة عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه الصادق بالتأكيد على القراءة المشهورة: [خير أمَّةٍ] وتفسيرها بأنَّها الأمَّة الوسطى مما يعارض القراءة المذكورة في الرِّوايتين بكلمة «أئمَّة».

ورابعاً: إنَّ الرِّواية الأولى ضعيفة الدلالة، لأنَّ استنكار الصادق ـ على تقدير صدق الرِّواية ـ أن يكون الذين قتلوا عليّاً والحسنين (ع) مشمولين بهذه الآية، وذلك من خلال ورود الصفات الثلاثة التي لا تنطبق عليهم، لا يعني عدم ملاءمة ورود كلمة «الأمّة» في الآية، لأنَّ المفروض أنَّ هذه الصفات توحي بانحصار الأمّة المفضلة بالأمّة الواجدة لهذه الصفات، ولا تشمل كلّ المسلمين، لأنَّ الوصف يوحي بالتقييد، فالتعليل لا ينطبق على التبديل.

وفي ضوء هذا، فقد تكون المسألة في الرِّواية واردةً على سبيل التفسير بأنَّ المراد بهم الأئمة (ع) ومن يماثلهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمؤمنين باللّه بمعنى التفسير بالمصداق، ولكن التعبير ورد على هذا الشكل.

وقد حاول المستشرق اليهودي «جولد تسيهر» أن يفسِّر مثل هذا التبديل للأمّة بالأئمَّة بأنَّ الشيعة ـ من خلال أئمتهم ـ لا يوافقون على أن يكون للأمَّة دور في القرآن، فلذلك عمدوا إلى تبديل كلّ كلمة للأمَّة بالأئمَّة، ونحن نردّ على كلامه بأنَّ المسألة ليست كما يراها، لأنَّ الرِّواية الواردة بهذا المضمون قد تكون واحدة أو اثنتين ولكنَّها ليست بهذا الشمول، مع ملاحظة مهمة، وهي أنَّ الشيعة لـم يعترفوا بهذه الرِّوايات ولـم يلتزموها في المصاحف التي كتبوها، لأنَّهم ـ بأجمعهم ـ لا يرون صحة نسبة التحريف إلى القرآن، بل يرون أنَّه هو القرآن الموجود بين الدفتين الذي يتداوله المسلمون من دون أيّة زيادة أو نقصان، لأنَّه الكتاب الذي: [لا يأتيه الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفِهِ] (فصلت:42)، لأنَّ اللّه قال: [إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظونَ] (الحجر:9) وإذا كان بعض علمائهم، وهو الشيخ حسين النوري (رحمه اللّه)، قد ألّف كتاباً في إثبات التحريف، فإنَّ العلماء المتأخرين من بعده قد ردّوا عليه أبلغ ردّ، ومنهم السيِّد أبو القاسم الخوئي ـ قدس سرّه ـ في كتابه «البيان في تفسير القرآن»، وقد تحدّث فيه أنَّ الرِّوايات الواردة في هذا المجال بين ضعيفة السند أو ضعيفة الدلالة، أو محمولة على التفسير لا على التنـزيل، ولعلّ أبلغ دليل على رفض المسلمين الشيعة وأئمتهم للتحريف أمران:

الأول: أنَّ الأحاديث تواترت عن أئمَّة أهل البيت (ع) بإرجاع النَّاس إلى كتاب اللّه في توثيق الرِّوايات من حيث المضمون، فقالوا: «ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف»[9]، وفيه توجيه إلى أن لا نقبل عليهم ما خالف كتاب اللّه، وكانوا يشيرون إلى الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين، فإنَّه ليس لدى الشيعة في كلّ عصورهم كتاب قرآني من نوع آخر.

الثاني: إنَّ الشيعة الذين كتبوا نسخ القرآن في الماضي أو طبعوه في المستقبل لـم يختلفوا في كتابتهم وفي طباعتهم عن المسلمين، ولذلك فإنَّ إي إنسان يملك أيّة قوّة أو سيطرة في الاطلاع على أسرار الواقع الداخلي للشيعة في عملية هجوم أو اقتحام لـم يجد ولا يجد أيّة نسخة قرآنية مختلفة عمّا هو لدى النَّاس.

* * *

الأمر والنهي موقف قيادي تغييري:

[تأمرون بالمعروف وتنهونَ عن المنكر] باعتبارهما الصفتين اللتين توحيان بالموقع القيادي التغييري الذي تقف فيه الجماعة المسلمة لتعمل على قيادة النَّاس من خلال خطّ الدعوة تارة، والحركة أخرى، والموقف ثالثة، إلى الأخذ بالمعروف والابتعاد عن المنكر، وعدم الاكتفاء ـ في ذلك ـ بالكلمة المعبّرة، ثُمَّ أن لا ننكفئ عن الواقع إلى العزلة والبُعد عن ساحة الصراع. وإذا كانت الأفضلية التي توحي بالتقدّم على الآخرين في الموقع والدور تنطلق من هاتين الصفتين، فلا بُدَّ من أن يكون لها دور القاعدة في استمرار هذا الموقع: [خير أمَّةٍ]، فإذا أهملوا ذلك فتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سقطوا كما سقط الآخرون، لأنَّهم لا يمثِّلون ـ آنذاك ـ أيّة فائدةٍ للإنسان.

* * *

وتؤمنون باللّه:

[وتؤمنون باللّه] فإنَّ الإيمان باللّه الواحد يكون في العقيدة التوحيدية التي تحرّر الإنسان من عبوديته للإنسان الآخر وللأصنام وللظواهر الكونية كالشمس والقمر والكواكب وغير ذلك، فيبقى ـ في موقع إنسانيته ـ الأصيل الذي يتعامل مع النَّاس الآخرين ومع الكون كلّه كتعامل الندّ للند، والمخلوق مع المخلوق، في عملية تكامل في خصوصيات الوجود التي تجعل الإنسان يسير في خطّ الكمال الإنساني الشامل في دائرة النظام الكوني الواسع، فيُعطي الكون من عقله وجهده كما يأخذ منه، كما يقدّم للإنسان الآخر جهده الذي ينتفع به في مقابل ما يأخذه من جهده لحاجته في حياته الخاصّة والعامّة.

وقد جاء في تفسير الكشاف للزمخشري تعليق على هذه الفقرة: [وتؤمنون باللّه] قال: «جعل الإيمان بكلّ ما يجب الإيمان به إيماناً باللّه، لأنَّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لـم يعتدّ بإيمانه فكأنَّه غير مؤمن باللّه، [ويقولون نؤمن ببعض ونكفُرُ ببعض ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقّاً] (النساء:150ـ151) والدليل عليه قوله تعالى: [ولو آمن أهل الكتاب] مع إيمانهم باللّه [لكان خيراً لهم] لكان الإيمان خيراً لهم مما هم عليه»[10].

ونلاحظ عليه هنا أنَّ التعايش ليس في كون الإيمان الكامل في الإسلام هو الإيمان بكلّ التفاصيل العقيدية والخطوط العامّة للإسلام، إذ إنَّ الآية ليست ـ على الظاهر ـ واردة في مقام الحديث عن التفاصيل، بل هي ـ واللّه العالـم ـ واردةٌ في مقام بيان النقطتين البارزتين في الخطّ الإسلامي الذي يلتزمه المسلمون في خطّهم العملي: [تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر]، باعتبارهما العنوانين لحركية الإنسان المسلم في دوره القيادي، الذي يجعله في مركز القيادة للإنسان وللحياة، وفي مركز الإشراف على الواقع لتغييره من الفساد إلى الصلاح، ومن المنكر إلى المعروف والإيمان باللّه الذي يفتح عقله وقلبه وحياته على اللّه، ليلتزم المنهج التوحيدي في مواجهة الشرك كلّه.

أمّا الاستدلال بقوله تعالى: [وتؤمنون باللّه] فلعلّ المراد منه إيمانهم باللّه في مقابل الذين يلتزمون الكتاب اسماً وانتساباً ولا يلتزمونه مضموناً ممن تحدّث القرآن عنهم بقوله تعالى: [ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم] ما يوحي بوجود مثل هذه الفئة، ومما يؤيّد ذلك قوله تعالى في الآية: [منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون] فليس المراد منهم الداخلين في دين الإسلام ـ على الظاهر ـ المؤمنين باللّه السائرين على نهجه؛ واللّه العالـم.

أمّا الحديث عن أهل الكتاب فينطلق من انحرافهم عن الخطّ الإلهي في أكثر نماذجهم، ما يفقدهم الدور الكبير الذي يتخيلونه لأنفسهم، بينما لو كانوا منسجمين مع خطّ الإيمان بالرسول والرسالة، لكانوا جزءاً من هـذه الأمّة القائدة التي أوكل اللّه إليها هذا الـدور، و [لكان] ذلك [خيراً لهم] في الدُّنيا والآخرة، ولكن القليليـن [منهم المؤمنون]، بينما ركبت الكثرة الكاثرة رؤوسها واختارت جانب الفسق والضلال [وأكثرهم الفاسقون].

ولا تزال الآية تفرض نفسها على الساحة لتدعو المسلمين إلى أن يرتفعوا إلى هذا المستوى من خلال انسجامهم مع خطّ الإيمان وقيامهم بهذا الدور... ولكن الواقع الإسلامي في أكثر نماذجه قد ابتعد عن ذلك بالسير مع الدعوات القومية والعنصرية والإقليمية، وغيرها من الاتجاهات المنحرفة عن خطّ الإسلام، ما جعل الفكرة المطروحة في الساحة هي رفض الإسلام كأساس للشخصية، وكنظام للحياة ومنطلق للحركة، والاكتفاء به كإطار للعبادات والأخلاقيات العامّة التي لا تُلامس الحياة إلاَّ من بعيد. وبذلك فقدت الأمّة دورها الرائد بابتعادها عن شخصيتها الحقيقية وخطّها الأصيل.

إنَّ الآية تؤكّد على جانب الخطّ إلى جانب الحركة؛ فلا قيمة للحركة بدون القاعدة؛ كما أنَّ القاعدة لا تمثِّل مركز قوّة إذا لـم تتحرك في اتجاه تحريك الساحة من حولها على أساس المفاهيم الأساسية للفكر والعمل.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف، ج:1، ص:454.

(2) تفسير الميزان، ج:3، ص:430.

(3) أسباب النزول، ص:66.

(4) تفسير الميزان، ج:3، ص:431.

(5) انظر: مجمع البيان، ج:2، ص:811.

(6) الدر المنثور، ج:2، ص:294.

(7) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج :3، ص:436.

(8) البحراني، السيد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت ـ لبنان، ط:4، 1412هـ ـ 1992م، ج:1، ص:308 ـ 309.

(9) الكافي، ج:1، ص:69، رواية:3.

(10) تفسير الكشاف، ج:1، ص:454.