تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 111 إلى الآية 112

 من الآية 111 الى الآية 112

الآيتـان

{لن يضُرُّوكم إلاَّ أذى وإن يُقاتلوكم يؤلُّوكم الأدبار ثُمَّ لا ينصرون * ضربت عليهم الذِّلَّة أين ما ثقفوا إلاَّ بحبل من اللّه وحبل من النَّاس وباءوا بغضبٍ من اللّه وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنَّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} (111ـ112).

* * *

معاني المفردات:

]أذى[: ضرر في النفس أو الجسم، وجاء نكرةً تصويراً لتفاهته وحقارته وعدم ضرره على المسيرة الإسلامية الصاعدة، لأنَّه يقتصر ـ كما في الكشاف ـ «على أذًى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك»[1].

]ضربت[: أثبتت عليهم وأنزلت بهم، وكتبت لهم مصيراً.  والضرب ـ كما يقول الراغب ـ: إيقاع شيء على شيء... وضرب الخيمة: بضرب أوتادها بالمطرقة، وتشبيهاً بالخيمة قال: ]ضربت عليهم الذِّلَّة[ أي: التحفتهم الذِّلَّة التحاف الخيمة بمن ضربت عليه[2]. قال صاحب مجمع البيان: «أثبتت عليهم الذِّلَّة وأنزلت بهم وجُعلت محيطة بهم، وهو استعارة من ضرب القباب والخيام»[3].

]ثُقِفوا[: وجدوا وظفر بهم.  وقد مرّ سابقاً.

]بحبلٍ[: بسبب يُعتصَم به، وقد استعير ـ كما يقول صاحب الميزان ـ لكلّ ما يوجب نوعاً من الأمن والعصمة والوقاية، كالعهد والذمة والأمان[4]. وسمّي العهد حبلاً ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ لأنَّه يُعقد به الأمان كما يُعقد الشيء بالحبل[5]، واستعير الحبل ـ كما يقول الراغب ـ للوصل ولكلّ ما يُتَوَصَّل به إلى شيء[6].

]وباءوا[: بلعنة اللّه وعقابه، قال الراغب: أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان، خلاف النَّبْوة الذي هو منافاة الأجزاء.  يُقال: مكان بواء إذا لـم يكن نابياً بنازله.  وبوّأت له مكاناً سوّيته فتبوّأ[7]. وقد مرّ سابقاً.  وباء بغضب من اللّه، أي: حلّ مَبْوَأً ومعه غضب اللّه، أي: عقوبته.

]المسكَنَةُ[: الذِّلَّة والخضوع والهوان والشعور بالهزيمة النفسية والروحية.  قال صاحب الميزان: «الظاهر أنَّ المسكنة أن لا يجد الإنسان سبيلاً إلى النجاة والخلاص عمّا يهدّده من فقر أو أيّ عُدم»[8].

* * *

مناسبة النـزول:

قال مقاتل: إنَّ رؤوس اليهود، كعب ويحرى والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية[9].

* * *

عقابٌ عادل:

]لن يضُرُّوكم إلاَّ أذى[ وتعود الآيات إلى حديث أهل الكتاب، من أجل توضيح الصورة للمسلمين الذين كانوا يخوضون معهم معركة الإسلام في قضية الوجود والاستمرار، وذلك لتفريغ أفكارهم من أيّ شعور بالخوف منهم، بالإيحاء لهم بأنَّهم لن يستطيعوا الإضرار بالمسلمين بالمستوى الذي يمثِّل التحدّي للوجود، بل كلّ ما هناك أنَّهم يثيرون المشاكل والمنازعات الكلامية والشبهات التي قد تزلزل العقيدة لبعض البسطاء، مما يدخل في نطاق الإيذاء والإزعاج في حركة الوضع الاجتماعي وملابساته... ]وإن يقاتلوكم[ أمّا إذا امتدت القضية إلى القتال، فلن يستطيعوا الثبات أمام قوّة المسلمين لأنَّهم يعيشون الزلزال النفسي إزاء قوّة المسلمين، المتعاظمة، فينطلقون إلى الحرب بهزيمة داخلية قبل الهزيمة في المعركة، ]يولوُّكُم الأدبار[ ويهربون من الساحـة، ]ثُمَّ لا ينصرون[ لأنَّهم لا يملكون مقوّمات النصر والغلبة.

وإذا كانوا يعيشون هذه الهزيمة النفسية في حياتهم، فإنَّ ذلك يوحي لهم بعدم الثقة بالنفس، ما يدفعهم إلى الابتعاد عن الاندماج في المجتمعات الأخرى خوفاً من عواقب التحدّي، فيظلّون على الهامش من ناحية ذاتية، وهذا ما تعبّر عنه الآية: ]ضربت عليهم الذِّلَّةُ أين ما ثقفوا[ أي وجدوا، لأنَّ قضية العزّ والذل لا تنبع من خارج الذات بل تنطلق من داخلها، من خلال الشعور بالقوّة والاكتفاء والاستقرار الروحي، فإذا فقدت ذلك كنت ذليلاً في نفسك وإن أحاطت بك مظاهر العزّ من حولك، وهذا ما عاشه اليهود في مختلف العصور مع سائر الأمم، فقد كانوا يعيشون هاجس الخوف من الآخرين، ما جعلهم يعيشون العزلة، ويوحون لغيرهم ـ من خلال ذلك ـ باضطهادهم نتيجة فقدان روح المقاومة التي تتحدّى الموت عندهم.  وهكذا كانت القضية في التاريخ، ولكن ذلك لا يمنع من أن يملكوا بعض زمام القوّة في مراحل أخرى من الحاضر والمستقبل، لأنَّ الظروف الموضوعية التي تحيط بحركة الحياة، ربَّما تفسح المجال للذليل أن يكون عزيزاً، وللضعيف أن يكون قوياً، لا من جهة العزّة والقوّة الداخليتين، بل من جهة ضعف الآخرين، ووقوفهم في مواقع الذِّلَّة، وبذلك تمتد لهؤلاء الفرصة ]إلاَّ بحبل من اللّه[ في ما تقدّره من ارتباط المسببّات بأسبابها، ]وحبل من النَّاس[ في ما يهيّئونه لهم من وسائل القوّة الخارجية السياسية والعسكرية وغير ذلك.

* * *

بين ضرب الذِّلَّة على اليهود وسيطرتهم على مقدرات العالـم:

وبهذا كانت المسألة في الآية في موضوع ضرب الذّلّة على اليهود خاضعةً للحالة الذاتية التي يعيشونها على أساس عقدتهم التاريخية في الشعور بالانفصال عن الآخرين، ما يوحي بالانكماش والعزلة الروحيّة التي تختزن الخوف والذّلّة النفسية، فلا مانع من أن يحصلوا على القوّة من خارج.  ومن هنا، لا تبقى أمامنا مشكلة الواقع الذي يعيشه اليهود الآن في سيطرتهم على مقدرات العالـم السياسيّة والماليّة من خلال ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من مراكز القوى في مختلف أنحاء العالـم، الأمر الذي أدّى إلى سيطرتهم على أرض فلسطين وتشريدهم أهلها منها؛ فإنَّ ذلك كان من خلال المعادلات السياسيّة العالميّة التي تمكنوا من استغلالها واللعب على تناقضاتها بمختلف أساليب اللف والدوران، التي كانت تصل بهم إلى أهدافهم من مواقع إثارة حالة الاضطهاد التي عانوها، ما جعل العالـم الأوروبي يعيش عقدة الذنب تجاه مشكلتهم... هذا بالإضافة إلى ضعف المسلمين وانسحابهم من الساحة وتخاذلهم وابتعادهم عن القاعدة الفكرية التي تمنحهم قوّة الروح والموقف؛ ما جعل كلّ فئةٍ تعيش مشاكلها الخاصّة بعيداً عن مشاكل بقية المسلمين، وذلك من خلال الحدود والشخصيات المصطنعة التي وضعت لكلّ جماعة منهم، فلم يواجهوا المخططات اليهودية بوجهٍ واحد قويّ، بل واجهوها بالأساليب المهزومة الضعيفة؛ وربَّما حاول الكثيرون منهم أن يشاركوا في دعم تلك المخططات لحساب القوى الاستعمارية الكافرة التي يرتبطون بها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً...

إنَّ خلاصة الفكرة القرآنية هي أنَّ اليهود شعب معقّد معزول عن العالـم من خلال العقد التاريخية والجرائم الكثيرة التي قام بها تجاه الحياة في مقدساتها وقضاياها... فلا يمكن له أن يستقل ويتقدّم ويأخذ بأسباب العزّة من ناحية ذاتية، بل لا بُدَّ في ذلك من وجود ظروف للآخرين تسهّل لهم مهمة القفز إلى المواقع التي تركها الآخرون أو سهلوا لهم أمر السيطرة عليها...

]وباءوا بغضبٍ من اللّه وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنَّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون[ في ضعف الروح التي تعيش الهزيمة.  إنَّ السبب في ذلك هو الكفر المستمر بآيات اللّه التي يظهرها على أيدي أنبيائه الذين لا يتعاطفون معهم، وجرائمهم الكثيرة في قتل الأنبياء بغير حقّ ومعصيتهم وعدوانهم، الأمر الذي فرض عليهم العقوبة في الدُّنيا والآخرة.