تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 113 إلى الآية 117

 من الآية 113 الى الآية 117

الآيــات

{ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمَّةٌ قائمةٌ يتلون آيات اللّه أناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون باللّه واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُسارعون في الخيرات وأولئك من الصَّالحين * وما يفعلوا من خيرٍ فلن يكفروه واللّه عليمٌ بالمتَّقين * إنَّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئاً وأولئك أصحاب النَّار هم فيها خالدون * مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدُّنيا كمثل ريح فيها صِرٌّ أصابـت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم اللّه ولكن أنفسهم يظلمون}(113ـ117).

* * *

معاني المفردات:

[آناء]: قيل في واحد آناء قولان: أحدهما: إنيٌ مثل نِحْيٌ، والآخر: أنـىً مثل معـىً، قال الشاعر:

حلو ومرّ كعطف القِدح مُرَّتُهُ بكلِّ إني قضاء الليل ينتعل

وحكى الأخفش أنو بالواو[1].

[يُسارعون]: المسارعة: المبادرة، وهي من السرعة، والفرق بين السرعة والعجلة أنَّ السرعة هي التقدّم في ما يجوز أن يتقدّم فيه وهي محمودة، وضدَّها الإبطاء وهو مذموم، والعجلة هي التقدّم في ما لا ينبغي أن يتقدّم فيه، وهي مذمومة، وضدَّها الأناة وهي محمودة.

[يكفَروهُ]: يُمنع عنهم جزاؤه. قال صاحب المجمع: وسمي منع الجزاء كفراً على الاتساع لأنَّه بمنـزلة الجحد والستر له[2]، وأصل الكفر الستر، وضدَّه الشكر: وهو الإظهار، وقد مرّ سابقاً.

[تغني]: يُقال: أغنى عنه: إذا دفع عنه ضرراً لولاه لنـزل به، وإذا قيل أغناه كذا عن كذا: أفاد أنَّ أحد الشيئين صار بدلاً عن الأمر في نفي الحاجة. والغنى: الاختصاص بما ينفي الحاجة، فإن اختص بمال ينفي الحاجة فذلك غنى، وكذلك الغنى بالجاه والأصحاب وغير ذلك. فأمّا الغنى في صفات اللّه فهو اختصاصه بكونه قادراً على وجه لا يعجزه شيء. وقولنـا فيه: إنَّه غني معناه: أنَّه لا تجوز عليه الحاجة ـ هذا ما جاء في مجمع البيان[3].

[صِرٌّ]: برد شديد.

* * *

مناسبة النـزول:

قيل ـ كما في مجمع البيان ـ: «سبب نزول هذه الآية أنَّه لما أسلم عبد اللّه بن سلام وجماعة، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمَّد إلاَّ شرارنا، فأنزل اللّه: [ليسوا سواء] إلى قوله: [من الصَّالحين] عن ابن عباس وقتادة وابن جريج. وقيل: إنَّها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم، كانوا على عهد عيسى (ع) فصدّقوا بمحمَّد (ص) عن عطاء»[4].

* * *

أهل الكتاب ليسوا سواء:

لقد أشار القرآن في ما سبق من آيات إلى أنَّ هناك من أهل الكتاب فئة مؤمنة استطاعت أن تتحرر من العقدة اليهودية التاريخية ضدَّ الرسالات، ولكنَّها فئة قليلة، وذلك قوله تعالى: [ليسوا سواء من أهل الكتاب]. وفي هذه الآية حديث عن خصائص هذه الفئة وعن الامتيازات التي يمنحها اللّه لها في مقابل الفئة الأخرى المتمرّدة الكافرة: [أمَّةٌ قائمةٌ يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون]. فهذه الفئة الطيبة تتميّز بالقيام للّه في عباداتها الخاشعة في جوف الليل المتمثّلة في السجود الخاشع المتبتل، [يؤمنون باللّه واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُسارعون في الخيرات]، في إيمانها الحقّ باللّه واليوم الآخر، وفي انطلاقها من موقع المسؤولية الدينية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يفرضه الإسلام على النَّاس المؤمنين به، وفي مسارعتها في الخيرات انطلاقاً من التوجيه الإلهي الذي يوحي للإنسان بأنَّ عليه أن يُسارع إلى فرص الخير باعتبارها الفرص التي قد لا تعوّض. ولهذا يظلّ المسلم في سباقٍ دائم وسرعة مستمرة للحصول على الخير وتقديمه للآخرين في كلّ وقتٍ وفي كلّ مكان.

ويُضيف القرآن إلى ذلك الصفة التي تعتبر كالنتيجة الطبيعية لهذه الأعمال: [وأولئك من الصَّالحين] لأنَّ الصلاح الإنساني يمثِّل القاعدة الفكرية على الخطّ الصحيح، والسلوك العملي المنسجم مع تلك القاعدة. ثُمَّ يؤكّد القرآن لهؤلاء أنَّ كلّ أعمالهم الخيّرة لن تُكفَر، أي لن تُجحَد في النتائج الطيبة التي يقدّمها اللّه سبحانه للعاملين خيراً من الجنّة والنعيم والقُرب من رحمته ورضوانه: [وما يفعلوا من خيرٍ فلن يكفروه واللّه عليمٌ بالمتَّقين] الذين يعيشون الخوف من اللّه والحبّ له في أعماق وجدانهم، فيدفعهم ذلك إلى طاعته في أوامره ونواهيه، والإخلاص له في كلّ أموره ما يجعلهم قريبين إلى اللّه محبوبين عنده، منفتحين على رضاه، فيجزيهم أحسن جزاء المتَّقين.

* * *

الكافرون هم أصحاب النَّار:

أمّا الكافرون فإنَّهم فقدوا الاتصال باللّه من خلال كفرهم، ففقدوا بذلك موقع القوّة الكبير، فلا قيمة بعد ذلك لما حصلوا عليه من أموال وأولاد، لأنَّها لا تغني عنهم شيئاً في مجال الإنقاذ والنصرة؛ فإنَّ النَّار تنتظرهم بعذابها الخالد جزاءً على كفرهم وعتوّهم وطغيانهم، وذلك هو قوله تعالى: [إنَّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئاً] لأنَّ اللّه هو الذي أعطاهم ذلك كلّه، فليس لهم في ذاتهم أيّ دخل فيه، ليحقّق لهم امتيازاً ذاتياً أو قرباً عملياً من اللّه، فكيف يحصلون على القيمة الإلهية من خلاله؟! فلا يدفع عنهم ما يملكونه من ذلك أيّ نوع من العذاب الذي يستحقونه جزاء أعمالهم، [وأولئك أصحاب النَّار هم فيها خالدون] لأنَّ ذلك هو عقوبة الكفر الذي يبعد الإنسان عن التعلّق باللّه بأيّ سبب، في الوقت الذي لا يملك فيه عذراً لذلك.

أمّا إذا أنفقوا في سبيل الخير، فإنَّ إنفاقهم لا يعود عليهم بشيء، فمثله [مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدُّنيا كمثل ريح فيها صِرٌّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم] لأنَّه لا يرتكز على قاعدة التَّقوى باللّه، فهم كمثل قوم كان لهم حرث يوحي بالنتائج المثمرة وكانت آمالهم تعيش معه، فجاءت ريح فيه صِرّ أي برد شديد [فأهلكته] وذلك كعقاب من اللّه لهم على أساس ظلمهم لأنفسهم بالتمرّد والعصيان، وذلك هو جزاؤهم الطبيعي الذي جعله اللّه لكلّ إنسان كافر متمرّد، [وما ظلمهم اللّه] لأنَّه جعل لهم الإرادة الحرّة التي يستطيعون من خلالها أن يختـاروا جانب الخيـر ويتركوا جانب الشر، [ولكن أنفسهم يظلمون] بما اختاروا اتباعاً لشهواتهم وأطماعهم، فهم لم يقصدوا بهذا الإنفاق الخير، بل قصدوا به الوصول إلى أغراضهم المنحرفة؛ فكانت نتيجته السلبية طبيعية، تماماً كما هي قضية المقدّمات والنتائج.

ـــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:814.

(2) (م.ن)، ج:2، ص:818. 848ـ849.

(3) انظر: (م.ن)، ج:2، ص:817.

(4) (م.س)، ج:2، ص:815.