تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 118 إلى الآية 120

 من الآية 118 الى الآية 120

الآيــات

{يا أيُّها الذين آمنوا لا تتَّخذوا بِطانةً من دونكم لا يألُونَكُم خَبَالاً ودُّوا ما عَنِتُّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيَّنَّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون* ها أنتم أولاء تحبُّونهم ولا يحبُّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنَّا وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنَّ اللّه عليمٌ بذاتِ الصدور* إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتَّقوا لا يضُرُّكم كيدهم شيئاً إنَّ اللّه بما يعملون محيطٌ} (118ـ120).

* * *

معاني المفردات:

[بِطانةً]: أولياء تختصونهم بالاطلاع على باطن أمركم، وتجعلونهم موضع ثقتكم وسرّكم، والبطانة ـ كما يقول صاحب المجمع ـ خاصّة الرّجل الذين يستبطنون أمره، مأخوذة من بطانة الثوب الذي يلي البدن لقربه منه، وهي نقيض الظهارة ويُسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث[1].

[لا يألُونَكُم]: لا يقصرون ولا يفترون في أمركم، فهم لا يقصرون في جلب الخبال لكم، ولا يتركون جهداً في إفساد أمركم، ولا يدّخرون وسعاً في الكيد والتآمر عليكم. قال صاحب المجمع: يُقال: ألا يألو ألواً إذا فتر وضعف وقصّر، وما ألوته خيراً وشراً، أي: ما قصرت في فعل ذلك[2]، وقال الراغب: ألوت في الأمر: قصّرت فيه... وألوت فلاناً، أي: أوليته تقصيراً[3].

[خَبَالاً]: شرّاً وفساداً واضطراباً في الرؤية والموقف، ومنه الخبل ـ بفتح الباء وسكونها ـ للجنون لأنَّه فساد العقل، ورجل مخبل الرأي، أي: فاسد الرأي، ومنه الاستخبال: طلب إعارة المال لفساد الزمان. والخبال ـ كما يقول الراغب ـ الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطراباً، كالجنون والمرض المؤثر في العقل والفكر[4]، وأصل الخبال: ذهاب الشيء.

[عَنِتُّم]: أصل العنت المشقة، يُقال: عنت الرّجل يعنت عنتاً: إذا دخلت عليه المشقة، وأعنت فلان فلاناً: حمله على المشقة الشديدة فيها.

[عضُّوا عليكم الأنامل]: كناية عن الغضب والحقد الكبير المتفجّر في صدورهم لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ووحدة صفوفهم، وقد يأتي التعبير كنايةً عن الندم، كما في قوله تعالى: [ويوم يعضُّ الظَّالِمُ على يديه يقول يا ليتني اتَّخذتُ مع الرَّسول سبيلاً] (الفرقان:27)؛ وقد جرت عادة النَّاس عند الغيظ والندم أن يعضُّوا أطراف أصابعهم ـ الأنامل ـ والعض: الإمساك القوي بالأسنان.

[الغيظ]: الغضب الشديد، من تغيظت الهاجرة: إذا اشتدّ حميمها.

* * *

مناسبة النـزول:

قال صاحب مجمع البيان: «نزلت في رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع، عن ابن عباس. وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين ويخالطونهم، عن مجاهد»[5].

* * *

وعي راصد بعيد عن السّذاجة:

في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من الاستسلام للثقة الساذجة بالفئات الأخرى التي تكيد للإسلام والمسلمين، وتحمل في داخلها الحقد والعداوة من موقع العقدة الحاقدة، وذلك بالكشف عن الخصائص الذاتية لهؤلاء في مواقفهم السلبية ضدَّ الإسلام وأتباعه. والظاهر أنَّ المراد بهم اليهود، فهم يعملون على الإضرار بالمسلمين ويجتهدون في إثارة كلّ عوامل الفساد والنقصان التي تحجب عنهم الرؤية الواضحة للأشياء، ويتمنون لهم التعب والمشقة في مواجهة قضايا الحياة، وتتفجّر صدورهم بالحقد الكبير الذي يتجه نحو التدمير، وتنطلق ألسنتهم بكلمات البغضاء والعداوة التي يوجهونها للمسلمين عندما يتحدّثون عنهم... ولا بُدَّ للمسلمين من أن يعوا ذلك كلّه في حركة وعي عميق راصدٍ للواقع بعيدٍ عن السذاجة في تقييمه للأشخاص والأشياء، فلا يفوته شيءٌ من الملاحظة، ولا يغيب عنه صفة من الصفات السلبية فيمن حوله، فإنَّ اللّه قد بيّن لهم الآيات التي يتمكنون من خلالها التمييز بين الأشياء التي تنفعهم والتي تضرّهم، من أجل أن يركّز أقدامهم على الأرض الصلبة ويواجهوا الواقع من منطق العقل الذي يرصد ويتأمّل ويفكّر...

ثُمَّ يدخل الأسلوب القرآني في عملية مقارنة بين المشاعر الطاهرة التي يشعر بها المسلمون تجاه الآخرين الذين يخالفونهم في الرأي، وبين المشاعر الخبيثة التي يشعر بها الآخرون ضدَّهم؛ فالمسلمون يتحرّكون من موقع محبّة النَّاس الذين يعيشون معهم في الحدود التي رسمها اللّه لهم، فإذا لـم يصل الصراع إلى نتيجة، كان المجال واسعاً للتعايش القائم على التوازن بين مصلحة الحياة وبين احترام الإنسان في تحمّل مسؤوليته في الحدود التي لا تمثِّل ضرراً كبيراً على حركة الحياة، وهذا ما تدل عليه المجتمعات غير الإسلامية التي استطاعت العيش مع المجتمعات الإسلامية بكلّ احترام وعدالة ومحبّة في ضمن المواقع الإسلامية القانونية المنفتحة.

أمّا الآخرون من اليهود وغيرهم، فإنَّ الغالب فيهم هو الشعور بالحقد والبغض للمسلمين، فهم لا يحبّونهم ولا يتعاطفون معهم، لأنَّهم لا يؤمنون بالمقدسات الإسلامية من الكتاب والنبيّ وغيرهما من الحقائق الإسلامية، بينما يؤمن المسلمون بالكتاب كلّه في ما أنزله اللّه على أنبيائه من لدن إبراهيم (ع) إلى محمَّد (ص). فهم لا يتعقّدون من شخصية أيّ رسول، بل يؤمنون برسالته في مواقعها التي حدّدها اللّه من الزمان والمكان، فلا يتجاوزونها إلى أبعد من ذلك، ولا يقفون موقفاً سلبياً من أيّ كتاب من إنجيل وتوراة وغيرهما، وإن كانوا يتحفّظون في بعض النصوص التي وقع فيها التحريف. وإذا التقى هؤلاء مع المؤمنين، أعلنوا لهم الإيمان والانسجام مع خطّ الالتزام، وتظاهروا بكلّ ما يتظاهر به المؤمنون، وإذا خلوا إلى بعضهم البعض وملكوا حريتهم في التعبير عن حالتهم النفسية المعقّدة عضّوا أناملهم من الغيظ لما يعيشونه من مشاعر الحقد للمسلمين...

وهذه طريقة في التنفيس عن العقدة الداخلية السلبية عندما تقف الظروف حائلاً بين الإنسان وبين الوصول إلى تفجير غيظه على صعيد الواقع العملي.

ولكن اللّه سبحانه يواجههم بأنَّ هذا الغيظ سوف يتصاعد حتّى يدمّر أصحابه، لأنَّ المسيرة الصاعدة للإسلام في قوّته وانتصاره سوف تفوّت عليهم الفرصة التي يستطيعون من خلالها التنفيس عمّا بداخلهم من حقدٍ ورغبةٍ في التدمير؛ ويذكرهم بأنَّه عليم بذات الصدور فلا يخفى على اللّه من أمرهم شيء.

ثُمَّ يواجه المسلمين بمشاعر هؤلاء تجاه الأوضاع السلبية والإيجابية في داخل الحياة في المجتمع الإسلامي، فإذا واجهوا انتصاراً وخيراً وبركةً في ذلك المجتمع قابلوه بالألـم والسوء، أمّا إذا واجهوا الشر الذي يصيب المسلمين في أنفسهم ودنياهم، فإنَّهم يواجهونه بمشاعر الفرح والسرور، ولكن اللّه يُخاطب المسلمين بأنَّ ذلك لن يضرهم شيئاً إذا وقف المسلمون في مواقعهم المتقدّمة، وقابلوا التحدّيات والصعوبات بالصبر الواعي المنفتح، وبالتَّقوى التي تجعلهم يقفون عند حدود اللّه في العقيدة والعمل، فإنَّ اللّه محيط بما يعملونه، عالِمٌ بكلّ أسرارهم، فلا يخفى عليه شيء منها، ويكشف لرسوله منها ما يحميه من كلّ سوء.

وعلى ضوء هذا الاستعراض الوافي للصفات السلبية التي يتّصف بها أعداء الإسلام، فإنَّ القرآن يريد لهم أن لا يتخذوهم بطانة في ما يكلّفونهم به من أعمال وأدوار تتصل بالقضايا المصيرية للإسلام والمسلمين، فيطلعون من خلال ذلك على الأسرار الخفية للواقع الإسلامي، فيستغلون هذه المعرفة في الكيد والتآمر على الإسلام والمسلمين... وهذا خطّ عام في حركة المجتمع الإسلامي مع الفئات الأخرى المعادية من أهل الكتاب وغيرهم، بالمحافظة على دراسة الواقع الداخلي للأشخاص الذين يتسلّمون مراكز المسؤولية الكبيرة في القضايا الإسلامية العامّة. ولكن ذلك لا يمنع من التعايش والتعاون في الأمور الأخرى التي يمكن فيها توفير بعض الحماية للأسرار، لأنَّها لا تتضمن سرّاً ولا تمثِّل خطراً من قريبٍ أو من بعيدٍ.

* * *

مشاعرهم ليست خالصة:

[يا أيُّها الذين آمنوا لا تتَّخذوا بطانةً] واجهوا الواقع بمنطق الواعين الذين يتحرّكون في علاقاتهم على أساس الوعي العميق لانتماءات أصحابهم الذين تفرض عليهم الأوضاع العائلية والاجتماعية صحبتهم والتعامل معهم، في دراسة شاملة لكلّ منطلقاتهم والتزاماتهم وخلفياتهم الدينيّة والسياسيّة، لتكونوا حذرين في أحاديثكم معهم، في أسراركم التي تتحدّثون بها معهم، وفي أوضاع المسلمين التي تثيرونها معهم، وفي الأجواء الداخلية والخارجية التي يُدخلونكم فيها من أجل مختلف التأثيرات السلبية والإيجابية مما يعملون على إثارته في ساحاتكم.

فإنَّ اختلاف الانتماء ـ لا سيّما في حالات الصراع المرير ـ قد يؤدّي إلى الاختلاف في النوايا والدوافع والمواقف، الأمر الذي قد يكون موضع استغلال للعلاقات الحميمة من قِبل أيّ طرف ضدَّ الطرف الآخر للإساءة إلى فريقه لحساب الفريق الآخر.

[من دونكم] من هؤلاء الذين يختلفون معكم في الإسلام على مستوى الانتماء إلى الدِّين الآخر، أو إلى الخطّ الآخر ممن تخوضون معهم الصراع الحادّ على جميع المستويات أو على مستوى انتمائهم الإسلامي الظاهري مع استبطانهم الكفر، فلا تدخلوهم في الأجواء الخفية التي يتحرّك فيها الواقع الإسلامي الداخلي، ولا تفسحوا لهم المجال ليكونوا في المواقع المتقدّمة من الساحة الإسلامية في الوظائف التي توظفونهم فيها، والأماكن التي تضعونهم فيها بفعل علاقاتكم الخاصّة بهم، [لا يألُونَكُم خَبَالاً] فهم قد يظهرون لكم المحبة بطريقة شخصية؛ ولكنَّهم يخفون في أنفسهم العزيمة على الإيقاع بكم، والإضرار بمصالحكم، وإفساد أموركم، وتوجيه عقولكم في اتجاه الغفلة والجنون الفكري والشعوري والسياسي... لأنَّ الخطّة الموضوعة لديهم في مواجهة الإسلام تفرض عليهم السير في هذا الاتجاه.

[وَدُّوا ما عَنِتُّم] فهم يحبّون لكم الوقوع في المشقة والعناء في حربكم وسلمكم، فلا يريدون لكم الراحة في مشاريعكم الداخلية وفي أوضاعكم الخارجية، ما يجعل الصداقة غير ذات موضوع لديهم أمام الشخصية الاجتماعية التي تفرض عليهم المحافظة على وجودهم وامتيازاتهم في هذا الجوّ الإسلامي الجديد الذي قد يُصادر بعض مصالحهم ويؤكّد انتصاره عليهم، بحيث يؤدّي إلى التعقيد في حالاتهم النفسية وأوضاعهم الخارجية، فـ [قد بدت البغضاء من أفواههم] من خلال ما يظهر من فلتات ألسنتهم المعبّرة ـ تلقائياً ـ عمّا يضمرونه في داخلهم، لأنَّه من الصعب على الإنسان ـ حتّى في حالات الحذر ـ إخفاء ما يضمره في نفسه، من خلال كلمة تنطلق هنا ـ من غير شعور ـ أو كلمة تقفز هنا في موقف انفصال أو نحوه، فتلك بعض دخائل النفس وغوامض الشعور، وهذا ما قرره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) في قوله: «ما أضمر أحدٌ شيئاً إلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»[6].

[وما تُخْفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ] من الحقد الدفين الكامن في نفوسهم، انطلاقاً من إحساسهم الذاتي الفئوي بأنَّكم قادمون لإلغاء مواقعهم المتقدّمة في امتدادهم الديني في ساحة الواقع، وتحطيم عنصريتهم المعقّدة.

[قد بيَّنَّا لكم الآياتِ] بما أظهرناه لكم من الدّلالات الواضحة على الخطّ الفاصل بين العدوّ والوليّ، سواء على مستوى اختلاف الانتماء الديني أو اهتزاز الحالات النفاقية الشريرة، ما يفرض عليكم الأخذ بأسباب الحذر في علاقتكم بهم، والتحرّك من موقع الوعي في حركتكم معهم، [إن كنتم تعقِلون] فتتحرّكون في أوضاعكم وعلاقاتكم من قاعدة العقل الباحث عن أسرار الأشياء بما يكتشفه من حالة العمق العميق فيها، ليدفع الإنسان إلى التحرّك في دائرة دفع الضرر وجلب النفع، فإنَّ الإنسان السائر على هدى العقل لا يُخطئ طريقه غالباً، ولا يلقي بنفسه في مواقع الهلاك.

* * *

حقد دفين:

[هَآ أَنتُمْ أُوْلآء تُحِبُّونَهُمْ] لأنَّ اللّه أرادكم ـ من خلال الإسلام المنفتح على النّاس كلّهم ـ أن تفتحوا قلوبكم بالمحبة للآخرين، لأنَّ المسلم هو الذي يتحرّك في حياته مع الآخرين على أساس الإخلاص الباحث عن حركة الحقيقة في الوجدان العام من مواقع التفكير والحوار، فهو يعمل على أن يهدي الآخر بالدخول إلى قلبه من خلال الشعور الطاهر، ليدخل إلى عقله من خلال الجوّ الملائم الذي لا يحمل في داخله أيّة حالة لرفض الآخر، [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] من خلال أنَّهم تحرّكوا ـ في تربيتهم ـ من قاعدة العنصرية التي توحي إليهم بأنَّهم هم الذين يملكون الدرجة العليا في الإنسانية، وأنَّ الآخرين لا يمثّلون شيئاً في حساباتهم إلاَّ كما يمثّله العبد أمام سيِّده. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّهم لا يرون فيكم إلاَّ الفئة المضادة لتطلّعاتهم ومخططاتهم من أجل السيطرة على العالـم، ما يجعلهم لا يطيقون وجودكم ـ بالذات ـ فكيف يمكن أن يحملوا لكم الحبّ؟

[وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ] لأنَّ القرآن جاء مصدّقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وداعياً كلّ أتباعه إلى الإيمان بالكتاب الذي أنزله اللّه على رسوله موزعاً بينهم في حاجات النّاس، بحسب المراحل، من دون تفريقٍ بين كتابٍ وكتاب، ورسول ورسول. أمّا هم فلا يؤمنون بكتابكم، لأنَّهم لا يؤمنون بأنَّ محمَّداً صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رسول اللّه وأنَّ القرآن وحي من اللّه، [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا] لتؤمّنوا لهم فتعتبروهم منكم فتدخلوهم في عمق خصوصياتكم، فيطلعوا على أسراركم التي تمنحهم الفرصة لاستغلالها في الإضرار بكم وتعطيل خططكم المعتمدة على بعض الأمور السرية في مواجهة العدوّ، [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ] في تعبير صارخ عن الحقد الدفين في نفوسهم من خلال هذا الانتصار الكبير للدعوة الإسلامية الذي أغلق عنهم الكثير من الساحات التي كانوا يتحرّكون فيها، محقّقين فيها مصالحهم ومآربهم الخاصّة من خلال علاقاتهم المدروسة مع أهلها.

[قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ] فلن ينفعكم ذلك شيئاً في إنجاح ما تخطّطون له من الكيد للإسلام والمسلمين، ولن يضرّ المسلمين شيئاً في رعاية اللّه لهم في انتصاراتهم وفتوحاتهم وغلبتهم على الشرك كلّه، فلن يخفى أمركم على اللّه، [إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] فهو المطّلع على أعماق عباده، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

[إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ] وتحزنهم عندما يرون من لطف اللّه بكم بما تفتحونه للإسلام من ساحات جديدة وفتح جديد، [وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا] فإذا أصابكم العدوّ بسوء أو هزيمة أو حدث في داخلكم مشكلة أو فتنة، فإنَّهم يظهرون الشماتة والفرح بذلك، ولكن ذلك كلّه لا يحقّق لهم أيّة غاية مما يريدونها، ولا ينـزل بكم شرّاً لأنَّهم لا يملكون لكم أيّ ضرر إلاَّ بمشيئة اللّه، [وَإِن تَصْبِرُواْ] على هذه المرحلة انتظاراً للنتائج الأخيرة التي أعدّها اللّه لكم بالنصر الذي يحتاج إلى بعض الجهد والوقت، [وَتَتَّقُواْ] بالالتزام بأوامره ونواهيه في حالة الحرب والسلم والشدّة والرخاء، [لا يضُّرُّكُمْ كَيْدُهُم شَيْئاً]، لأنَّ اللّه هو الذي يملك النفع والضرر، فلا يحدث منهما شيء إلاَّ بإذنـه، ]إِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[ فلا يغيب عنه شيء من أمرهم أو مخططاتهم، وهو القادر على دفع ذلك عنكم أيُّها المؤمنون الموحّدون.

مفهوم إسلامي للعمل:

إنَّ فكرة هذه الآيات تُعطينا مفهوماً إسلامياً للعمل في نطاق العلاقات الاجتماعية، وخلاصته أنَّ على المؤمنين أن يدرسوا طبيعة المواقف الفكرية المبدئية التي يتخذها الآخرون تجاههم، ويعملوا على التمييز بين الخلافات الطارئة والخلافات المعقّدة، وعلى التفريق بين الأشخاص الذين يعيشون الخلاف الفكري والعملي كمبدأ، وبين الذين يعيشونه كعقدةٍ، ويتابعوا التجربة في دراسة المشاعر الذاتية التي تحكم تصرّف هؤلاء وتصرّف أولئك، ليحدّدوا ـ من خلال ذلك ـ مواقفهم ومواقعهم في الساحة العامّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري، لئلا يقعوا تحت تأثير الأوضاع العاطفية التي تتمثّل في البسمات المشرقة، والعيون اللامعة، والوجوه التي تتلوّن بحسب الألوان المتحرّكة تبعاً للمزاج والشعور والتخيّل، فيثقوا بمن ليس في مستوى الثقة، فيؤدّي ذلك إلى الوقوع في قبضة الكفر والضلال...

وقد عاش المسلمون في تاريخهم الماضي وفي تاريخهم المعاصر كثيراً من الحالات العاطفية التي تحوّلت إلى نكسات وهزائم اجتماعية وسياسية، لأنَّهم خضعوا للأجواء السطحية، فانقادوا في خطوات المجاملة، وتخلّوا عن كثير من مواقعهم انطلاقاً من المحافظة على علاقات مشبوهة وصداقات كاذبة. فأساءوا بذلك إلى أنفسهم وإلى الإسلام بشكل عام... كما واجهنا ذلك في الركض وراء حملة الشعارات الغائمة التي يُثيرها البعض تحت ستار وحدة الأديان، أو وحدة الإنسانية، أو الوحدة الوطنية والقومية، وربَّما الإسلامية، من أجل أن يحقّقوا من خلال ذلك لأنفسهم ولمخططاتهم الفرص الكثيرة التي تتيح لهم القفز على المواقع، لأنَّهم يملكون في هذه الساحة قوّة لا يملكها أهل الحقّ، ولأنَّهم يرسمون هنا خطّة خفيّة لا يعرف أسرارها الطيبون من المسلمين، فينفّذون لهم ما يريدون باسم الوحدة مما لا يتيسر لهم الحصول عليه بدون ذلك.

ولا تزال الخطّة تتقدّم في كثير من المظاهر التي تخفي في داخلها الكثير من سياسة اللف والدوران واللعب على الحبال الكثيرة المطروحة في الساحة في حقل الدِّين والسياسة والاجتماع. وذلك هو ما يجب أن نستوحيه من الآيات لننطلق من خلالها إلى الأفق الرحب للعلاقات الإنسانية في الحياة، فلا نتجمد معها في نماذجها الخاصّة، بل نعتبر الموضوع مجرّد نموذج يفتح الطريق إلى مواجهة الواقع ـ من خلالها ـ في كلّ نموذج مماثل يحمل الخصائص والسمات نفسها، لينطلق المسلمون من نقطة الانفتاح الواعي الذي يستوعب كلّ التجارب، ويرصد كلّ النماذج، ليأخذوا منها الفكرة القائدة الرائدة التي تقود الحياة إلى اللّه على خطّ الرسالة والإسلام.

ــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:819.

(2) (م.ن)، ج:2، ص:819.

(3) مفردات الراغب، ص:18.

(4) (م.ن)، ص:143.

(5) مجمع البيان، ج:2، ص:820.

(6) نهج البلاغة، قصار الحكم/26، ص:357.