تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 121 إلى الآية 122

 من الآية 121 الى الآية 122

الآيتـان

{وإذ غدوت من أهلك تبوئُ المؤمنين مقاعد للقتال واللّه سميعٌ عليمٌ* إذ همَّت طائفتان منكم أن تفشلا واللّه وليُّهما وعلى اللّه فليتوكَّل المؤمنون} (121ـ122).

* * *

معاني المفردات:

[غَدَوْتَ]: خرجت من أوّل النهار. وقوبل الغدوّ بالآصال كما في قوله تعالى: [واذكر ربَّك في نفسك تضرُّعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال] (الأعراف:205)؛ وقوبل الغداة بالعشي: [ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشيّ] (الأنعام:52).

[تبوِّئُ]: تعدّ وتهيئ، والتبوئة: اتخاذ الموضع للغير. وفي قولهم: حيّاك اللّه وبيّاك، أنَّ أصله ـ كما يقول الراغب ـ بوّأك منـزلاً، فغيّر لازدواج الكلمة[1]. وفي المجمع: يُقال بوّأت القوم منازلهم وبوّأت لهم أيضاً، أي: أوطنتهم وأسكنتهم إياها... ومنه: المباءة المراح لأنَّه رجوع إلى المستقر المتخذ، ومنه: بوّأت بالذنب، أي: رجعت به محتملاً له[2].

[تفشلا]: تضعفا وتجبنا، قال الراغب: الفشل ضعف مع جُبن[3].

* * *

النبيّ يخطّط لمعركة أُحد:

كانت واقعة أُحد من أهمّ الوقائع الإسلامية الحربية التي عاش المسلمون فيها حالة النصر كأفضل ما يكون، ثُمَّ حوّلوها إلى هزيمة منكرة بفعل الممارسات الخاطئة التي انحرف فيها الكثيرون من المقاتلين عن الهدف الذي يفرض عليهم الانضباط في ما تقتضيه خطّة الحرب من مواقع ومواقف...

وفي هذه المعركة انطلقت قريش إلى حرب النبيّ (ص) بعد هزيمتها الساحقة في بدر من أجل الثأر لكرامتها وقتلاها، والقضاء على قوّة الإسلام المتنامية المتصاعدة في بداياتها. عندما عرف النبيّ (ص) بالخبر استعد لقتالهم وخرج في ألف مقاتل، ولكن عبد اللّه بن أُبَي ـ رأس المنافقين في المدينة ـ استطاع أن يدفع ثلاثمائة منهم إلى التراجع... وحاول ذلك مع حيّين من الأنصار، وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، فلم يفلح بعد أن كاد يصل إلى خطّته...

ورسم النبيّ (ص) الخطّة للمعركة، وكان من ضروراتها سدّ بعض الثغرات التي تطل على أرض المعركة مما يعتبر نقطة ضعف في دفاعات المسلمين، فجعل على تلك الثغرة الواقعة في جبل خلف جيش المسلمين خمسين من الرماة، بقيادة عبد اللّه بن جبير، وأمرهم بالثبات في كلّ الحالات، سواء كانت الغلبة للمسلمين أو للكافرين... ودارت المعركة التي تروي تفاصيلها كتب السيرة، وهُزِمَ المشركون وتغلّب المسلمون عليهم واندفعوا في جمع الغنائم... واعتبر الرماة الواقفون على الجبل أنَّ المعركة انتهت، وخافوا أن تفوتهم فرصة الحصول على نصيبهم من الغنائم، وبدأوا يخلون أماكنهم؛ وناشدهم قائدهم أن يلتزموا بأوامر النبيّ (ص)، فلم يسمع له إلاَّ عشرة رجال منهم...

وحانت من خالد بن الوليد التفاتة ـ وكان من المنهزمين مع المشركين ـ فرأى خلوّ الثغرة، فقصدهم بكتيبةٍ من المشركين فقتل العشرة بأجمعهم، وانضمت فلول المشركين إلى خالد، فانطلقوا في عملية التفافٍ مباغتة، فدارت الدائرة على المسلمين حتّى تعرّضت حياة الرسول (ص) للخطر، إذ أصابته حجارة من المشركين، فكُسرت رباعيته، وشُجّ في وجهه، وجُرحت جبهته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجهه... وفرّ المسلمون عنه، ولـم يبقَ معه إلاَّ نفر قليل كان في طليعتهم عليّ بن أبي طالب(ع)، وأبو دجانة، وسهل ابن حنيف، فدافعوا عنه دفاع المستميت... وقتل حمزة في المعركة بحربة وحشي، وذلك بإغراء هند له، واستخرجت كبده فلاكتها... وكان عدد القتلى من المشركين اثنين وعشرين قتيلاً، وعدد شهداء المسلمين سبعين...

* * *

القرآن يركّز على نقاط الضعف:

وقد عالجت هذه السّورة تجربة المعركة، وتحدّثت عن نقاط الضعف والقوّة فيها، وأثارت في وعي المسلمين الكثير من المفاهيم الإسلامية المتعلّقة بحركة المعركة وموقع القيادة في خطّ السير ومدى تأثير وجودها وغيابها، في موضوع الالتزام بالمسيرة والاستمرار على المبدأ، وتابعت المسلمين في المعركة وهم يتأمّلون ويخافون ويندفعون ويواجهون الأعداء وينهزمون أمامهم... ولاحظت كيف تتحكم بهم جوانب الضعف البشري، ووقفت معهم لتدفعهم إلى مواجهتها بشجاعة المؤمن الذي يعترف بها بصراحةٍ في محاولةٍ لتحويلها إلى نقاط قوّة بالجهد والإيمان والمعاناة... وأعطتنا درساً عمليّاً في التأكيد على الجانب السلبي في الشخصية التاريخية بالقوّة نفسها التي تؤكّد على الجانب الإيجابي فيها، على أساس الواقعية الإنسانية في الإنسان، وعدم إغفال الضعف في التجربة الحيّة بحجّة أنَّ ذلك يسيء إلى قداسة التاريخ وعظمة أبطاله، ما يترك انطباعاً سلبيّاً عند الأجيال المقبلة بفقدان النماذج الكثيرة التي تصلح للقدوة البشرية، فلا يبقى لنا إلاَّ الأنبياء والأولياء الذين يتميزون بميزة العصمة في ملكاتهم وطاقاتهم الروحيّة، الأمر الذي يوحي للأجيال بأنَّ تكليف الأنبياء يختلف عن تكليفهم، فإذا تميّزوا بخُلُقٍ أو عمل، فليس معنى ذلك أنَّ علينا أن نلتزم بهذا الخلق أو ذلك العمل، لأنَّنا لا نملك ما يملكون من طاقات... فلا بُدَّ لنا من تاريخ أبيض ناصع يؤرخ للبطولات البشرية العادية التي تنطلق فيها الإيجابيات بدون سلبيات، لتتصاعد لدينا الثقة بالإمكانيات التي تُكمن في داخل الإنسان العادي للارتفاع إلى المستوى الأعلى...

ولكنَّنا نعتقد أنَّ هذه الحجّة لا ترتكز على أساس إسلامي واقعي، وذلك من خلال ملاحظتين:

الأولى: إنَّ الفكرة القائلة بأنَّ سيرة الأنبياء والأولياء لا تعتبر أساساً للدعوة إلى القدوة لأنَّهم فوق مستوانا غير صحيحة، لأنَّ الأنبياء في ممارساتهم الروحيّة والعمليّة لا يتحرّكون من مستوى فوق مستوى البشر، بل يعيشون في الحياة بالطاقات البشرية العادية التي تتكامل وتتصاعد بالوعي والمعاناة، وهذا ما أكّده القرآن في أكثر من آية، في حديثه عن بشرية الأنبياء وخطأ العقيدة التي تفرض لهم شيئاً فوق هذا في تكوينهم الذاتي، وفي هذا الاتجاه كانت الدعوة الإلهية إلى التأسي برسول اللّه (ص) في قوله تعالى:[ لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنةٌ] (الأحزاب:21).

الثانية: إنَّ قيمة القدوة في التجربة الإنسانية تُكمن في واقعيتها التي توحي بأنَّ الخطأ والانحراف في بعض مراحل العمل، لا يعني سقوط الإنسان ونهايته في حساب العقيدة والمصير، بل يمكن له أن يقوم من سقطته ويصحّح خطأه ويقوِّم انحرافه واعوجاجه، ليستقيم له الطريق نحو الهدف، ما يعني أنَّ على الإنسان السعي الدائب في خطّ التكامل في حالات النقصان وعدم الانسحاق أمام الحالات السلبية... وهذا ما أكده القرآن الكريـم في قوله تعالى: [إنَّ الذين اتَّقوا إذا مسَّهم طائفٌ من الشَّيطان تذكَّروا فإذا هم مبصرون] (الأعراف:201)، فلا مانع من أن يطوف بك الشَّيطان ـ وأنت تقيّ ـ، لأنَّ المهمّ هو أن لا تظلّ مع الشَّيطان في وحيه وانحرافه؛ وبذلك يكون التاريخ تاريخاً للتجربة الإنسانية الناجحة التي تدفع إلى الأخذ بأسباب النجاح، وتمنعنا من تقديس الأخطاء والخطايا باسم عصمة الخاطئين المخطئين...

لقد عالجت هذه الآية كثيراً من الجوانب الإنسانية المتحرّكة في المعركة، وأثارت كثيراً من الأجواء... ونعتقد أنَّ من واجب الباحثين الإسلاميين الذين يدرسون طبائع المعارك الإسلامية أن لا يكتفوا بالتاريخ العادي الذي يدرس الجوانب الظاهرة في الحادثة ولا ينفذ إلى تحليل الحالات الإنسانية الداخلية في التجربة، بل عليهم أن يحاولوا الانطلاق إلى القرآن الذي هو كلام اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليعرفوا حجم المعركة بأسلوب عميق شامل، وسنحاول ـ بعون اللّه ـ أن نتابع دراسة معركة أحد من خلال هذه الآيات الكريمة...

* * *

معركة أُحد: بين تخطيط الرسول (ص) وحركة النفاق:

وتبدأ الآيات بهاتين الآيتين اللتين قدّمناهما أمام الحديث: [وإذ غدوت من أهلك تُبوئُ المؤمنين مقاعد للقتال] لقد بدأ الرَّسول (ص) يدبّر أمر المعركة في بداية النهار، وهو معنى الغدوة الذي يمثِّل الفترة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ فقد انطلق (ص) لتحديد مواقع المسلمين في المعركة من أجل الإعداد للنصر، [واللّه سميعٌ عليمٌ] فهو الذي لا يعزب عن علمه شيء مما يحتاج إلى أن يُسمع أو يُبصر، لأنَّه محيط بذلك كلّه...

وبدأت حركة النفاق تعمل لتخذل المؤمنين وتبعدهم عن المشاركة في القتال من أجل إضعاف الجبهة الإيمانية، كوسيلة من وسائل تقوية خطّ الشرك وسلطته، لأنَّ ذلك هو الذي يمنحهم فرصة استعادة نفوذهم التي فقدوها عند ظهور الإسلام... واستطاعوا أن يزلزلوا بعض النفوس ويضعفوا بعض العزائم... فـ [همَّت طائفتان منكم أن تفشلا] وتتراجعا، وقد نلاحظ في هذه الفقرة من الآية، أنَّها لـم تتحدّث عمّا تحدّث به المؤرّخون من انسحاب ثلاثمائة رجل من الذين أعدّهم الرَّسول(ص) للمعركة، ما يوحي بأنَّ ذلك غير صحيح، لأنَّ الآية تحدّثت عن حالة التردّد ومحاولة الانسحاب كظاهرة من ظواهر الضعف الموجودة في المجتمع الإسلامي آنذاك، ولتنبّه المؤمنين إلى مثل هذه الحالة من أجل المستقبل. ولو كان ما نقله المؤرخون صحيحاً، لكان ذلك أشدّ خطورة على المسيرة، وأكثر حاجة للتأكيد عليه، لأنَّه يمثّل حالة التراجع التي تعني الانسحاب من مسؤولية الإيمان بطريقة حاسمة.

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالتأمّل، وهي أنَّ التعبير القرآني عبّر عن الانسحاب بكلمة «الفشل»، ما يوحي بأنَّ الجانب العملي من حياة المسلم يعتبر حالة فشلٍ بالنسبة إلى إيمان المؤمن. فالإيمان الذي لا يعبّر عن نفسه بالعمل في خطّ الطاعة هو إيمان فاشل، لأنَّه لـم ينجح في التجربة المرّة في صراع الإنسان مع الشَّيطان. وهذه نقطة لا بُدَّ من التركيز عليها في أساليب التربية، بالإيحاء بأنَّ الإيمان يمرّ ـ في الحياة ـ بتجربة النجاح والفشل، كما هو الحال في كلّ قضية تستتبع المعاناة، ما يرفع من درجة استعداد المؤمن في المجاهدة من أجل الحفاظ على نجاحه في خطّ الإيمان.

أمّا كلمة [واللّه وليُّهما] فتحمل في داخلها تعميق الشعور للمؤمن بالرعاية الإلهية له في حالات الضعف والزلزال النفسي الناتج عن الضغوط الصعبة المحيطة به، ما يجعله يحسُّ بالأمن والطمأنينة بحماية اللّه له في أوقات الغفلة. وربَّما كان في التعبير بكلمة «الولي» من الحنان والحميميّة ما يملأ النفس بأصفى المشاعر وأنقاها وأسماها في علاقة الإنسان باللّه...

[وعلى اللّه فليتوكَّل المؤمنون] وهي دعوة للمؤمنين أن يتحرّكوا من فكرة [واللّه وليُّ المؤمنين] (آل عمران:68) ليتوجهوا إليه في حالات الضعف، أو في الأوضاع التي يخافون أن يضعفوا أمامها مستقبلاً، فإنَّ التوكل على اللّه يمثِّل أرقى أنواع الإيمان، لأنَّه يمثِّل الاستسلام للّه من خلال الثقة المطلقة به في أوقات الشدّة والرخاء واليُسر والعُسر، الأمر الذي يزرع في نفسه الثقة بالحاضر والمستقبل في كلّ عمل من أعمال الدُّنيا والآخرة.

ـــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:63.

(2) مجمع البيان، ج:2، ص:823.

(3) مفردات الراغب، ص:394.