من الآية 128 الى الآية 129
الآيتـان
{ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوبَ عليهم أو يُعذِّبهُم فإنَّهُم ظالمونَ * وللّه ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ يغفِرُ لمن يشاءُ ويُعذِّبُ من يشاءُ واللّه غفورٌ رحيمٌ} (128ـ129).
* * *
معاني المفردات:
[ما في السَّموات]: جاء في المجمع: إنَّما ذكر لفظ «ما» لأنَّها أعمّ من «مَن»، فإنَّها تتناول ما يُعقل وما لا يُعقل، لأنَّها تفيد الجنس، ولو قال: من في السَّموات لـم يدخل فيه إلاَّ العقلاء، إلاَّ أن يحمل على التغليب، وذلك ليس بحقيقة[1].
* * *
مناسبة النـزول:
اختلف في سبب نزولها، «فروي عن أنس بن مالك، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، أنَّه لما كان من المشركين يوم أحد ما كان من كسر رباعيّة الرَّسول (ص) وشجّه حتّى جرت الدماء على وجهه قال: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيّهم (ص) وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربّهم؟ فأعلمه اللّه أنَّه ليس إليه فلاحهم، وأنَّه ليس إليه إلاَّ أن يبلغ الرسالة ويُجاهد حتّى يظهر الدّين، وإنَّما ذلك إلى اللّه تعالى.
وكان الذي كسر رباعيته وشجّه في وجهه عتبة بن أبي وقاص، فدعا عليه بأن لا يحول عليه الحول حتّى يموت كافراً، فمات كافراً قبل أن يحول الحول، وأدمى وجهه رجل من هذيل يُقال له عبد اللّه بن قمية، فدعا عليه، فكان حتفه أن سلّط اللّه عليه تيساً فنطحه حتّى قتله، وروي أنَّه كان يمسح الدم على وجهه ويقول: اللّهمَّ اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون، فعلى هذا يمكن أن يكون على وجل من عنادهم وإصرارهم على الكفر، فأخبره تعالى أنَّه ليس إلاَّ ما أمر به من تبليغ الرسالة ودعوتهم إلى الهدى، وذلك مثل قوله تعالى: [لعلَّك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين] (الشعراء:3).
وقيل: إنَّه استأذن ربّه في يوم أحد في الدُّعاء عليهم، فنـزلت الآية، فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال، وإنَّما لـم يؤذن له فيه لما كان في المعلوم من توبة بعض عن أبي علي الجبائي. وقيل: أراد رسول اللّه (ص) أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد، فنهـاه اللّه عن ذلك وتـاب عليهم، عن عبد اللّه بن مسعود. وقيـل: لما رأى رسول اللّه(ص) والمسلمون ما فُعلَ بأصحابه وبعمّه حمزة من المثلة، من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا اللّه منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثّلن بهم مثلةً لـم يمثّلها أحد من العرب بأحد قطّ، فنـزلت الآية، عن محمَّد بن إسحاق والشعبي.
وقيل: نزلت في أهل بئر معونة، وهم سبعون رجلاً من قرّاء أصحاب رسول اللّه (ص) وأميرهم المنذر بن عمرو، بعثهم رسول اللّه (ص) إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحُد ليُعلِّموا النَّاس القرآن والعلم، فقتلهم جميعاً عامر بن الطفيل، وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فوجد رسول اللّه (ص) من ذلك وجداً شديداً، وقنت عليهم شهراً، فنـزل: [ليس لك من الأمر شيء]، عن مقاتل»[2].
والظاهر ـ كما جاء في مجمع البيان ـ «قال: والأصح أنَّها نزلت في أحد، لأنَّ أكثر العلماء عليه ويقتضيه سياق الكلام، وإنَّما قال: [ليس لـك من الأمر شـيء] مع أنَّ له (ص) أن يدعوهم إلى اللّه ويؤدّي إليهم بتبليغهم، لأنَّ معناه: ليس لك من أمر عقابهم واستئصالهم أو الدعاء عليهم أو لعنهم حتّى تقع إنابتهم، فجاء الكلام على الإيجاز، لأنَّ المعنى مفهوم لدلالة الكلام عليه»[3].
وقد نلاحظ على هذه الرِّوايات الواردة في أسباب النـزول أنَّها كانت اجتهادات تفسيرية من أصحابها، فقد ركزت في أكثرها على مسألة دعاء الرَّسول (ص) على الأعداء في معركة أحد ولعنهم، أو على التمثيل بهم في جولة أخرى، بينما نجد الآيتين في مقام بيان حقيقة إيمانيةٍ كلية، في سنة اللّه في الكافرين الظالمين، وفي قدرته الشاملة التي تجعل له السلطة الكاملة عليهم في المغفرة أو العذاب، للتأكيد على أنَّ النبيّ (ص) ـ في ذاته وفي دوره ـ لا يملك من الأمر في ذلك شيئاً، لأنَّ الأشياء في نتائجها الحاسمة تنطلق من إرادة اللّه، فلا دور للأنبياء إلاَّ تهيئة الأجواء الملائمة للهداية أو المتحرّكة في مواقع التحدّي من أجل تنفيذ أوامر اللّه في الأخذ بالوسائل التي يملكونها، مما أعطاهم اللّه القدرة فيه، لأنَّ النتائج مربوطة بالحركة العامّة للأوضاع والوسائل التي قد يملك النَّاس بعض القدرة على تحريكها بإرادة اللّه، ولكنَّهم لا يملكون كلّ شيء فيها من الداخل والخارج، واللّه العالـم.
* * *
الأمر للّه والشفاعة للرسل:
[ليس لك من الأمر شيء] في مصير هؤلاء النَّاس الذين حاربوك، لتحدّد ـ أنت ـ ذلك بطريقتك الخاصّة، لأنَّ اللّه لـم يجعل للأنبياء ذلك إلاَّ في دائرة خاصّة من خلال وسيلة الدُّعاء تارةً والشفاعة أخرى، فهما يتحرّكان من خلال ما حدّده اللّه من منهجٍ ومواقع، فليس لك أن تشفع إلاَّ لمن ارتضى أو تدعو إلاَّ لمن يريد اللّه لك أن تدعو له، ويبقى الأمر للّه أن يعذبهم إن شاء أو يتوب عليهم ويغفر لهم إذا أراد، [أو يتوب عليهم أو يعذِّبهم] انطلاقاً من حكمته العميقة الشاملة في العذاب والمغفرة اللذين لا ينطلقان من حالة طارئةٍ أو الخضوع لضغط معيّن كما هو عند النَّاس، بل ينطلقان من السنّة الإلهية من موقع الحكمة في ذلك كلّه، فله أن يغفر لهم ويتوب عليهم وله أن يعذّبـهم، [فإنَّهم ظالمون] يستحقون العذاب، كما يمكن أن تنالهم المغفرة عند توفر عناصرهم فيهم من خلال إنابتهم إلى اللّه وعودتهم إليه.
[وللّه ما في السَّموات وما في الأرض] فله الكلمة العليا في شؤون مخلوقاته, له الإرادة الحاسمة الفاعلة في مصيرهم في الدار الآخرة، لأنَّه يملك الأمر كلّه في الدُّنيا والآخرة، [يغفر لمن يشاء] المغفرة له [ويُعذِّب من يشاء] عذابه، [واللّه غفورٌ رحيمٌ] فقد سبقت رحمته غضبه، فيبقى الأمل لكلّ المذنبين في التعلّق برحمته ليستريحوا في ساحة غفرانه، ولا مجال لليأس من ذلك كلّه، ولكن المسألة تبقى متحرّكة بين الخوف والرجاء، لا سيّما أنَّ اللّه لـم يعيّن مواقع المغفرة والعذاب. وقد قيل: إنَّما علّق الغفران والعذاب بالمشيئة، لأنَّ المشيئة مطابقة للحكمة، فلا يشاء إلاَّ ما تقتضي الحكمة مشيئةً. وسُئل بعضهم: كيف يعذب اللّه عباده بالإجرام مع سعة رحمته؟ فقال: رحمته لا تغلب حكمته، إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون الرحمة منّا[3].
الرسول جندي خاضع للّه:
لقد عالجت هاتان الآيتان دور النبيّ في الشؤون العامّة من قضايا الحرب والقتال، فليس هو قائداً يتصرّف بمزاج القائد الذي يملك الأمر كلّه، فيعفو عندما تدفعه نوازعه الذاتية إلى العفو، ويعاقب ويعذب عندما يوحي إليه مزاجه بذلك، بل هو رسول ينذر ويبشر، وجنديّ للّه في ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا انطلق في حياته من خلال الدور القيادي، فإنَّه يتسلم خطّة القيادة من ربّه في ما يشرّعه اللّه له من أحكام، وما يخطّط له من خطط. فهو القائد الذي يتحرّك من خلال دور الجندية الخاضعة للقيادة العليا..
وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ للمسلمين من أن يفهموا المسألة من هذا المنطلق الذي يوحي بأنَّ الرسول لا يملك أمر التصرّف من ناحية ذاتيّة ليمكن لهم أن يقدّموا إليه اقتراحات العفو من حيث يريدون العفو لبعض الأسرى، أو يحاوروه في موضوع العذاب من حيث يريدون العذاب لبعض آخر، بل كلّ ما هناك أنَّه يتلقى الأمر من اللّه ـ ربّه وربّ العالمين ـ فيصدر العفو عندما يقرر اللّه العفو عن إنسان ما، ويقرر العذاب عندما يقرر اللّه له ذلك، لأنَّهم ظالمون يستحقون كلّ ألوان العذاب بسبب ظلمهم وتمرّدهم وطغيانهم... وتأتي الآية الثانية لتقرّر مبدأ رجوع كلّ شيء إلى اللّه، لأنَّه مالك لكلّ ما في السَّموات وما في الأرض، فيغفر لمن يشاء في الدُّنيا والآخرة، ويعذب من يشاء في الدُّنيا والآخرة... وقد سبقت رحمته غضبه، فإنَّه الغفور الرحيم الذي لا ينسى أحداً من غفرانه ورحمته.
ــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:831ـ832.
(2) مجمع البيان، ج:2، ص:832.
(3) مجمع البيان، ج:2، ص:833.
تفسير القرآن