من الآية 130 الى الآية 132
الآيــات
{يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا الرِّبا أضعافاً مضاعفة واتَّقوا اللّه لعلَّكم تفلحون* واتَّقوا النَّار التي أعدَّت للكافرين* وأطيعوا اللّه والرَّسول لعلَّكم ترحمون}(130ـ132).
* * *
معاني المفردات:
[أضعافاً مضاعفةً]: بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب، وضعف الشيء مثله، وهذه المضاعفة إمّا في الزيادة فقط، وإمّا بالنسبة إلى رأس المال كاستدانة عشرة بثلاثين. وقد وردت الكلمة على نحو الإشارة إلى وصف غالب، ونتيجة واقعية للنظام الربوي، وليس شرطاً لحكم الحرمة ليُقال: بأنَّ الحرمة تختص بالربا الفاحش الذي لا يقل عن الضعف.
[تفلحون]: تظفرون وتدركون البغية في الدُّنيا من الإعمار والغنى والعز، وفي الآخرة من الفوز بالثواب. وأصل الفلاح: الشقّ، وقيل: الحديد بالحديد يفلح، أي يشقّ.
* * *
مناسبة النـزول:
أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتـم عن مجاهد قال: كانوا يتبايعون إلى الأجل، فإذا حلّ الأجل زادوا عليهم، وزادوا في الأجل، فنـزلت: {يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا الرِّبا أضعافاً مضاعفة}[1]، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء، قال: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا جاء الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون عنّا فنـزلت: {لا تأكلوا الرِّبا أضعافاً مضاعفةً}[2].
* * *
ارتباط آية الربا بما قبلها:
جاء في مجمع البيان: قد قيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان: (أحدهما): لاتصال الأمر بالطاعة بالنهي عن أكل الربا، فكأنَّه قال: [وأطيعوا اللّه] في ما نهاكم عنه من أكل الرِّبا وغيره، و (الثاني): ما قاله محمَّد بن إسحاق بن يسار أنَّه معاتبة للذين عصوا رسول اللّه لما أمرهم به يوم أحد من لزوم مراكزهم فخالفوا، واشتغلوا بالغنيمة، وكان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول اللّه(ص)[3].
ونلاحظ في هذا المجال، أنَّ القرآن لـم ينـزل بشكلٍ مرتب على الطريقة الحالية، بل نزل على دفعات، لتربية المجتمع المسلم في كلّ قضاياه ومشاكله وأوضاعه المتنوّعة التي كانت المسيرة الإسلامية ـ في حربها وسلمها ـ تواجهها في مختلف المراحل، ما قد يفرض الحديث عن منهج أخلاقي تارةً، وعن نظام اقتصادي أخرى، وعن قضايا متصلة بالسلم أو الحرب في حركة الإنسان المسلم فيها، وعن علاقة القيادة بالقاعدة وعلاقة القاعدة بها، وغير ذلك، مما لا يفرض وجود حالةً من الارتباط بين الآيات، لأنَّه ليس هناك ارتباط بين مواقع نزولها ومنطلقات موضوعاتها.
وتبقى المشكلة في الترتيب القرآني عند جمع القرآن، فإذا كان النبيّ محمَّد (ص) هو الذي أمر بجمعه تحت رعايته، فلا بُدَّ لنا من البحث عن طبيعة الارتباط بينها، بمعرفة المناسبة التي جعلت النبيّ محمَّد (ص) يضع هذه الآية أو تلك في سياق تلك الآيات، وربَّما كانت المناسبة أنَّ الأجواء التي تثيرها السورة هي حركة الإنسان في ساحة الصراع في كلّ حالٍ من أحوالها، وفي كلّ شأن من شؤونها، فمن النظام الجهادي الذي يجعل الإنسان يواجه التحدّي في حالات الخطر من أجل حماية الرسالة والرساليين, إلى النظام الأخلاقي الذي يواجه الإنسان فيه الموقف الحادّ في جهاد النفس من أجل حمايتها من الانحراف، وبذلك تكون المناسبة في ارتباط النشاط الإنساني في التشريع الإسلامي ببعضه البعض، باعتبار أنَّ الإنسان يمثِّل وحدةً تتكامل أجزاؤها في مختلف جوانب نشاطه الإنساني في حركة الحياة.
* * *
النتائج الطبيعية للنظام الربوي:
تحدّث القرآن عن الربا في سورة البقرة، وأعاد الحديث عنه في هذه الآية، للتنديد ببعض حالاته التي كانت موجودةً في الجاهلية، في ما ذكره المفسِّرون: «يكون للرّجل فضلُ دينٍ فيأتيه إذا حلّ الأجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني... فإن لـم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لـم يكن عنده أضعفه أيضاً، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لـم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كلّ سنة أو يقضيه»[4]. ولعلّ هذا ما تقتضيه طبيعة النظام الربوي الذي يستغل حاجة المدين وظروفه الضيّقة التي قد لا تسمح له بالوفاء في الموعد المحدّد، لا سيّما في الأجواء الربوية التي قد تجعل الإنسان يستدين أكثر من طاقته، لأنَّه يجد الدين سهلاً يوحي بالامتداد، فيؤدّي ذلك إلى استيفاء الدائن دينه أضعافاً مضاعفة، وهذا ما نجده في الأوضاع المعاصرة التي يفرضها النظام الربوي، سواءٌ في ذلك الديون التي تحصل بين النَّاس على مستوى الأفراد، أو التي تحصل على مستوى الدول، فإنَّ المدين قد ينفق كلّ عمره في الجهد والعمل من دون أن يستطيع وفاء الربا، فضلاً عن أصل الدين لتضاعف ذلك عليه. وفي ضوء ذلك، قد نفهم من الآية أنَّها ليست واردة في معالجة هذه الحالة بالذات، بل هي واردة في الإيحاء بالنتائج الطبيعية للنظام الربوي التي تتمثّل في تضعيف المبلغ الذي يستدينه الإنسان على عدّة أضعاف.
[ يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا الرِّبا أضعافاً مضاعفةً]، وبذلك تبطل حُجّة الذين أرادوا أن يفهموا منها اختصاص حرمة الرِّبا في الإسلام بالرِّبا الفاحش الذي تزيد به الفائدة عن مثل الشيء لتكون ضعفاً له بل أكثر. وقد نضيف إلى ذلك، أنَّ اختصاص الآية بما ذكر لا يوجب اختصاص حرمة الرِّبا به، لأنَّ آية سورة البقرة: [وأحلَّ اللّه البيع وحرَّم الرِّبا] (البقرة:275) كانت شاملة لجميع موارده، ولا موجب لتخصيص إحداهما بالأخرى، لأنَّ من الممكن أن تكون هذه الآية جارية على أسلوب التشديد بهذا النموذج الفاحش من الرِّبا... ونزيد على ذلك، أنَّ الانسجام مع المدلول الحرفي لهذه الآية يفرض علينا أن نلتزم به، فلا بُدَّ حينئذٍ من أن يكون وارداً في الاتجاه الذي ذكرناه من التأكيد على النتائج الطبيعية للنظام الربوي، واللّه العالـم بأسرار آياته وأحكامه.
* * *
كيف جاء تحريـم الرِّبا؟
جاء في بعض التفاسير: «إنَّ اللّه حرّم الرِّبا في القرآن كتحريـم الخمر في أربعة مواضع، وسار التحريـم في مراحل أربع، الموضوع الأوّل منها مكي، والباقي مدني:
1 ـ ففي مكة أنزل اللّه [وما آتيتم من ربا ليربو في أموال النَّاس فلا يربو عند اللّه] (الروم:39)؛ وهذا يُقابل آية الخمر المكية: [ومن ثمرات النَّخيل والأعناب تتَّخذون منه سكراً ورزقاً حسناً] (النحل:67) وفي كلا الآيتين تمهيد للتحريـم وتعريض به وإيماء إلى ضرورة تجنّبه.
2 ـ ثُمَّ قصَّ علينا القرآن في المدينة سيرة اليهود الذين حرّم عليهم الرِّبا، فأكلوه وعاقبهم اللّه بمعصيتهم، فقال: [وأخذِهِم الرِّبا وقد نُهُوا عنه] (النساء:161)؛ وهذا نظير المرحلة الثانية في تحريـم الخمر: [يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثـمٌ كبيرٌ ومنافعٌ للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما](البقرة:219)؛ وكلا الآيتين إنذار بالتحريـم، وتعريض به، وإيذان بعقوبة المخالف.
3 ـ ثُمَّ نهى تعالى عن الرِّبا الفاحش الذي يتزايد حتّى يصير أضعافاً مضاعفةً، وهو ما كان في الجاهلية: [يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا الرِّبا أضعافاً مضاعفةً] (آل عمران:130)، وهذا يُشابه المرحلة الثالثة من مراحل تحريـم الخمر: [يا أيُّها الذين آمنوا لا تقربوا الصَّلاة وأنتم سكارى حتَّى تعلموا ما تقولون] (النساء:43)؛ فكلا الآيتين نهي جزئيّ صريح، إلاَّ أنَّ آية الرِّبا نهي عن الصورة الفاحشة من صور الرِّبا وهو الرِّبا الجاهلي، وآية الخمر نهي جزئي عن تناول المسكر وقت إرادة الصَّلاة.
4 ـ ثُمَّ جاء التحريـم القاطع لكلّ من الرِّبا والخمر، أمّا الرِّبا فقد نهى اللّه عن كلّ ما يزيد عن رأس مال الدين: [يا أيُّها الذين آمنوا اتَّقوا اللّه وذرُوا ما بقيَ من الرِّبا إن كنتم مؤمنين] (البقرة:278) الآيات. وأمّا الخمر فقد أمر اللّه باجتنابه في كلّ الأحوال: [يا أيُّها الذين آمنوا إنَّما الخمر والميسر والأنصابُ والأزلام رجسٌ من عملِ الشَّيطان فاجتنبوه لعلَّكم تُفلِحونَ] (المائدة:90).
وقوله تعالى: [وحرَّم الرِّبا] (البقرة:275)؛ اللام للجنس، أي: حرّم جنس الرِّبا، وليست للمعهود الذهني وهو ربا الجاهلية أو ربا النسيئة، وإنَّما يفيد النص وإطلاقه تحريـم جميع أنواع الرِّبا، مثل إباحة أنواع البيع في قوله تعالى: {وأحلَّ اللّه البيعَ}[5] (البقرة:275).
ونلاحظ على هذا الحديث أنَّ الآيات المذكورة في ترتيب المراحل لا توحي بالمرحلية، فإنَّنا في الآية الأولى نجد أنَّ الآية تدل ـ بنحو الكناية ـ على أنَّ الرِّبا ليس محبوباً عند اللّه، بل هو مرفوض عنده، باعتبار أنَّ سياقه هو سياق الترغيب في الصدقة والتنديد بالرِّبا، أمّا الآية الثانية فإنَّ ذمّ اليهود بأخذهم الرِّبا، وقد نهوا عنه، يوحي بأنَّ أخذ الرِّبا من الأمور التي حرّمها اللّه في كلّ زمان ومكان، ولذلك ندّد بهم في مقام الإيحاء بانحرافهم عن اللّه في ذلك، ولذا عقبه بأكلهم أموال النَّاس بالباطل، وأمّا الثالثة، فإنَّها واردة في النهي عن الرِّبا مطلقاً، فإنَّ ذكر الأضعاف المضاعفة وارد في النتائج الطبيعية للنظام الربوي لا لتخصيص النهي به، وهكذا فإنَّنا لا نجد في هذا السرد القرآني للآيات دليلاً على ما ذُكر، لا سيّما أنَّ هذا القائل لـم يذكر التاريخ التفصيلي لنـزول هذه الآيات ليكون ذلك أساساً للترتيب التدريجي في التحريـم، واللّه العالـم.
* * *
التَّقوى وقضية المصير:
وقد انطلق القرآن، كعادته في آيات التشريع، في إثارة أجواء التَّقوى وعلاقتها بالفلاح وإطاعة اللّه والرَّسول، وعلاقتها بالرحمة الإلهية، والتحذير من النَّار التي أعدّها اللّه للكافرين، لأنَّ الكفر يمثِّل التمرّد على اللّه.
وذلك هو قوله تعالى: [واتَّقوا اللّه لعلّكم تُفلحون] فقط ربط اللّه الفلاح في الدُّنيا والآخرة بالتَّقوى، [واتَّقوا النَّار التي أعدَّت للكافرين] كما أراد لهم أن يجعلوا النَّار أمامهم كلّما أراد الشَّيطان أن يغويهم بوسوسته ووسائله الخفية، ليتذكروا حريقها ولهيبها وعنف عذابها الذي أعدّه للكافرين به أو المنحرفين عن خطّه المستقيم بالتمرّد على أوامره ونواهيه [وأطيعوا اللّه والرَّسول لعلَّكم تُرحمون] وبيّن لهم أنَّ طاعة اللّه والرَّسول هي التي تجعل الإنسان موضعاً لرحمة اللّه، ليتحرّكوا ـ في طلبهم لرحمته ـ على هذا الأساس.
ويمتد في جانبه العملي إلى انحراف الإنسان عن الخطّ التشريعي الذي رسمه اللّه للنَّاس، ما يجعل من التمرّد على أحكام اللّه نوعاً من أنواع الكفر العملي الذي يسوّغ للتعبير القرآني أن يستعمل كلمة الكافرين صفةً للمؤمنين الذين ينحرفون عن خطّ الإيمان في سلوكهم العملي، للإيحاء بالقيمة العملية للإيمان في ما يريد اللّه للمؤمنين أن يتمثّلوه في ممارستهم له في حياتهم الخاصّة والعامّة...
وقد يكون هذا الأسلوب من أفضل الأساليب التي تدعو إلى الاهتمام بالاستقامة على خطّ التشريع، لأنَّها لا تجعل منه مادّة قانونية جامدة تلزمه بالفعل أو تمنعه منه، بل تهيّئ له الأجواء الروحيّة الداخلية التي تربط خطواته المنسجمة مع التشريع بقضية المصير في ما يريده الإنسان لنفسه من الفلاح والنجاح والنجاة من الهلاك والعذاب في الدُّنيا والآخرة والحصول على رحمة اللّه ورضوانه، وذلك بإطاعة اللّه ورسوله في ما يأمران به أو ينهيان عنه. وقد يكون للتأثيرات الاقتصادية التي تتمثّل في النظام الربوي سلباً أو إيجاباً على حركة الحياة العمليّة لدى النَّاس مدخلٌ كبير في الإيحاء بهذه الأجواء، ليتمكن الإنسان من خلالها من السيطرة على السلبيّات التي تتحداه في حياته، على أساس الالتزام الواعي بهذا التشريع.
ـــــــــــــــــ
(1) الدر المنثور، ج:2، ص:313.
(2) (م.ن)، ج:2، ص:314.
(3) مجمع البيان، ج:2، ص:834ـ835.
(4) الطبري، ابن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1415هـ 1995م، م:3، ج:4، ص:120.
(5) الزحيلي، وهبة، التفسير المنير، ج:3، ص:92ـ93.
تفسير القرآن