تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 133 إلى الآية 136

 من الآية 133 الى الآية 136

الآيــات

{وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنَّةٍ عرضُها السَّماوات والأرض أعدَّت للمتَّقين * الذين ينفِقُونَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس واللّه يُحبُّ المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذُّنوب إلاَّ اللّه ولـم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربِّهم وجنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجرُ العاملين} (133ـ136).

* * *

معاني المفردات:

[وسارعوا]: وبادروا وامضوا واشتدّوا في سرعتكم. والمسارعة: المبادرة والاشتداد في السرعة. والسرعة: ضدَّ البطء.

[والكاظمين]: الممسكين الحابسين المتجرّعين. وأصل الكظم: شدّ رأس القِربة عن ملئها ـ كما يقول صاحب المجمع ـ تقول: كظمت القِربة إذا ملأتها ماءً ثُمَّ شددت رأسها. وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئاً حزناً وكذلك إذا كان ممتلئاً غضباً ولم ينتقم[1]. وكَظْم الغيظ ـ كما يقول الراغب ـ حَبْسه[2].

[الغيظ]: هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه، بخلاف الغضب، فهو إرادة الانتقام أو المجازاة، ولذلك يقال: غضب الله ولا يقال اغتاظ، كما جاء في الميزان[3].

[فاحشة]: أصل الفاحشة: الفحش، وهو الخروج إلى عظيم القبح أو رأي العين فيه، ولذلك قيل للطويل المفرط: إنَّه لفاحش الطول، وأفحش فلان: إذا أفصح بذكر الفحش.

[يُصرُّوا]: الإصرار: أصله الشدّ من الصرّة، والصرّ: شدّة البرد، فكأنَّما هو ارتباط الذنب بالإقامة عليه، وقيل: أصله الثبات على الشيء. وقال الحطيئة:

عَوابِسُ بالشعث الكُماة إذا انْتَقوْا عُلالتها بالمخصِراتِ أصرّتِ[4]

* * *

مناسبة النزول:

جاء في المجمع: «روي أنَّ قوماً من المؤمنين قالوا: يا رسول اللّه، بنو إسرائيل أكرم على اللّه منّا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفّارة ذنبه مكتوبةً على عتبة بابه: (اجدع أنفك أو أذنك افعل كذا). فسكت رسول اللّه(ص)، فنـزلت الآية، فقال: ألا أخبركم بخير من ذلكم؟ وقرأ عليهم هذه الآية، عن ابن مسعود، وفي ذلك تسهيل لما كان قد شدّد فيه على بني إسرائيل، إذ جعل الاستغفار بدلاً منه. وقيل: نزلت في نبهان التمار، أتته امرأة تبتاع منه تمراً، فقال لها: إنَّ هذا التمر ليس بجيّد، وفي البيت أجود منه، وذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه فقبّلها، فقالت له: اتّق اللّه، فتركها وندم، وأتى النبيّ (ص)، وذكر له ذلك، فنـزلت الآية؛ عن عطاء»[5].

* * *

دعوة إلهية:

في هذه الآيات دعوةٌ للمؤمنين إلى الإسراع في الحصول على المغفرة من اللّه، بالعمل على تحصيل أسبابها التي جعلها اللّه في الانسجام مع خطّه المستقيم في العقيدة والتشريع، وفي الوصول إلى الجنّة الواسعة التي عرضها السَّماوات والأرض في إيحاءٍ بالامتداد الواسع... ولعلّ في هذه الدعوة إلى الإسراع، بعض الإيحاء بأنَّ العمر الذي يعيشه الإنسان فرصة سانحةٌ قد لا تمتد طويلاً، فمن الممكن أن يكون قصيراً لا يتسع للانتظار الطويل، فلا بُدَّ من اغتنامه كفرصةٍ لا تعوّض، ما يقتضي بذلك الجهد في اتجاه الطاعة بأسرع وقتٍ ممكن للحصول على نتائجها الدنيوية والأخروية.

[وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكُم] بالسير في خطّ الطاعة، والبُعد عن خطّ المعصية، بالالتزام بأوامر اللّه ونواهيه من خلال الإسلام في عقائده ومفاهيمه وشرائعه، فإنَّه السبيل الأقوم للحصول على مغفرة اللّه سبحانه.

* * *

صفات المتَّقين:

وقد ذكر المفسِّرون وجوهاً في تفسير المراد من قوله: [وجنَّةٍ عرضُها السَّموات والأرض] فهل ذلك ثابتٌ في حالة ضمّ بعضها إلى بعض، أم أنَّ ذلك كنايةٌ عن السعة، من دون أن يكون فيه نوعٌ من الدقة في التحديد، أم أنَّ هناك وجهاً آخر غير ذلك...؟ ربَّما كان الأقرب أنَّها واردة مورد الكناية عن السعة، لأنَّ السياق لا يقتضي أكثر من ذلك، بل يوحي بشيءٍ من هذا القبيل، ومع ذلك فإنَّ تحقيق هذا غير مهم من ناحية الفكرة العامّة للآية، وهي التركيز على الصفات المميّزة للمتَّقين الذين أعدّت لهم هذه الجنّة، وهي صفات خمس، ثلاث منها تتصل بطبيعة حركة العلاقات الاجتماعية التي تربط المتَّقين بالنَّاس في حيوية الممارسة وإنسانيتها وطهارتها وفاعليتها، وذلك هو قوله تعالـى: [أعدَّت للمتَّقين]، وتفصيل الموضوع في هذه الصفات في عدّة نقاط:

1 ـ [الذين ينفقون في السَّرَّاء والضَّرَّاء] الإنفاق على النَّاس في حالتي الشدّة والرخاء، ما يعني أنَّ هذا الإنفاق ليس حالةً طارئةً في ذات التّقي، يختص بأريحية الإنسان في حالات الرخاء، بل هو حالةٌ أصيلةٌ تحرّك الإنسان نحو العطاء حتّى في أشدّ حالات الضيق والضرّ.

2 ـ [والكاظمين الغيظ] الذي يعبّر عن الإرادة القويّة التي يواجه بها الإنسان حالات الانفعال التي تدفعه إلى الاندفاع في تفجير الغيظ الذي تمتلئ به نفسه تجاه الآخرين، فلا يسمح لها بأن تجرّه إلى ذلك مما لا تحمد عقباه، بل يُحاول أن يحبس غيظه في صدره.

3 ـ [والعافين عن النَّاس] الذي يمثِّل الروح المتسامحة الطيبة التي لا تنطلق من عقدةٍ نفسية داخليّة عندما تكظم غيظها، بل تعمل على التخلّص من كلّ أجواء الغيظ بتفريغ النفس من كلّ الحالات السلبيّة التي تثيره وتعقّده، وذلك بأن يتلمس أسباب العفو في دراسته للنقص الذي رُكّب في الإنسان أو للظروف الداخلية أو الخارجية التي دفعته نحو الخطأ، أو بغير ذلك مما يوحي بالأسباب التخفيفيّة الباعثة على العفو عنه، واعتبار كأنَّ الخطأ لـم يكن في كلّ سلبياته الذاتية، وهذا ما يجعل من الأمر بالصبر وكظم الغيظ وسيلة للتهدئة والتبريد الداخلي، من أجل دفع الإنسان إلى التفكير الهادئ المتّزن الذي لا يتعامل مع العنف، بل يتعامل مع الرفق واللين، ولا يندفع في اتجاه تعقيد المشاكل، بل يعمل على حلّها مهما أمكن، ذلك هو السبيل الذي يجعل من العفو حالة واعية واقعية بدلاً من أن تكون حالة مزاجية طارئة لا ترتكز على أساسٍ من وعي وفكرٍ وإيمان.

4 ـ [واللّه يُحبُّ المحسنين] قد تكون هذه صفةً رابعة توحي بأنَّ العفو وحده لا يكفي في إزالة النتائج السلبيّة إزاء الحالة النفسية التي أوجدها الغيظ، فلا بُدَّ من الإحسان لتتحوّل السلبيّات إلى إيجابيات... وهذا ما يمكن أن تعبّر عنه القصة المرويّة في سيرة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) الذي كانت إحدى جواريه تصبّ الماء من الإبريق على يده، فسقط على رأسه فشجّه فقالت له: [والكاظمين الغيظ]، فقال: قد كظمت غيظي، فأردفت: [والعافين عن النَّاس]، فقال: قد عفوتُ، فقالت: [واللّه يُحبُّ المحسنين]، فقال: اذهبي فأنتِ حرّةٌ لوجه اللّه.

5 ـ أمّا الصفة الأخيرة فقد حدّثنا اللّه عنها في قوله تعالى: [والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذُّنوب إلاَّ اللّه] وهي تتصل بعمق الصلة الروحية باللّه، ما يجعل من الأخطاء الطارئة التي يفعلها الإنسان في معصيته للّه، مجرّد حدثٍ عابرٍ لا يمتد في حياته ولا يستمر، بل يتحوّل إلى ندم عميق يبعث في النفس حالة الخشوع التي تدفع إلى الاستغفار والتوبة والإنابة إلى اللّه، لأنَّ الإصرار على الذنب لا يتناسب مع الإخلاص للّه والسير على خطّه المستقيم، فإنَّ معناه الإيحائي يتمثّل في اللامبالاة النفسية والعملية برضى اللّه وغضبه، ما يعني ضعفاً في الإيمان، ونقصاً في الروحية... وقد أكّدت الآية بطريقة الجملة الاعتراضية، أنَّ اللّه يغفر الذّنوب التي يتوب منها الإنسان، بينما لا يواجه هذا الإنسان في حياته العامّة مثل هذا الفيض السمح من المغفرة لدى الآخرين في ما إذا عاش بعض الأخطاء في حياته العامّة أو الخاصّة.

والظاهر أنَّ المراد بالفاحشة في الآية مطلق المعصية التي تمثِّل تجاوز الحدّ الذي يجب على الإنسان أن يقف عنده في علاقته باللّه، ولا يختص بما كان مرتبطاً بالعِرض، لأنَّ الآية واردة في ما هو أشمل من ذلك، كما أنَّ ذلك هو المراد من ظلم الإنسان نفسه، فإنَّ المعصية تمثِّل ظلماً للنفس في ما تستتبعه من سلبيّاتٍ في الحياة الدُّنيا وعقوبات في الآخرة...

وتشير الآية إلى هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات التي تمثِّل سعة الأفق ورحابة الصدر وعمق العاطفة الإنسانية، وعظمة الشعور بالمسؤولية، وقوّة الإرادة، وامتداد الصلة الروحيّة في علاقتهم باللّه، وابتعادهم عن الإصرار على المعصية، وانسجامهم مع الخطّ العملي للطاعة [ولـم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون]؛ ثُمَّ تفيض في تصوير الجزاء الأوفى الذي ينالونه عند اللّه [أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربِّهم وجنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها] كنتيجةٍ لما قدّموه بين أيديهم من أعمال، [ونعم أجرُ العاملين].

* * *

من وحي الآيات:

ونستوحي من هذه الآيات، أنَّ عظمة الشخصية الإنسانية هي في امتزاج الجوانب الإنسانية والعملية والروحية ببعضها البعض، لتمثِّل التوازن في حركة الشخصية وفاعليتها في الحياة، بعيداً عن فكرة الجانب الواحد الذي قد يرى فيه بعض النَّاس مظهراً حيّاً من مظاهر التقييم، كما نلاحظ في النماذج التي تتميّز بالروحية في العبادة إلى مستوى الفناء والذوبان في محبّة اللّه، ولكنَّها تتميّز ـ في الجانب السلبي ـ بالقسوة في المعاملة والعلاقة، أو بالبخل في جانب العطاء، أو بالانفتاح على المعاصي مع الإصرار، أو بالانحرافات الاجتماعية في نطاق الكلمة والفعل والأسلوب... فإنَّ ذلك الارتباك في طبيعة هذه الصفات يدلّ على وجود خللٍ في عمق الصفة الواحدة المتميّزة وابتعادها عن الأجواء الرحبة الطاهرة، ذلك كلّه في نطاق الأوضاع الإسلامية السليمة...

وتنتهي الآيات بما بدأت به من الحديث عن الجنّة والمغفرة كجزاءٍ على ما قدّموا من عمل في سبيل تقويـم نفوسهم وتوجيهها إلى الالتزام بالخطّ الإيماني الذي يتحوّل إلى معاناةٍ وإحساسٍ وحركة حياةٍ من أجل الأفضل، لتوحي للإنسان، بأنَّ المسارعة إلى المغفرة والجنّة تبدأ من تربية الذات على الصفات الأصيلة التي تعمّق في الإنسان معنى إنسانيته وتحوّله إلى عنصرٍ خيّر تتحرّك فيه التَّقوى لتربطه باللّه من جهة، وبالنَّاس من جهةٍ أخرى من خلال ارتباطه باللّه.

ــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:835.

(2) مفردات الراغب، ص:449.

(3) تفسير الميزان، ج:4، ص:21.

(4) مجمع البيان، ج:2، ص:839.

(5) مجمع البيان، ج:2، ص:839.