من الآية 137 الى الآية 138
الآيتـان
{قد خلت من قبلكم سننٌ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبةُ المكذِّبين * هذا بيانٌ للنَّاس وهدى وموعظةٌ للمتَّقين}(137ـ138).
* * *
معاني المفردات:
[خلت]: مضت.
[سنـنٌ]: جمـع: سنّـة، وهي الطريقة المجعولة ليقتدى بها، ومن ذلك سنّة رسول اللّه (ص). وجاء في المجمع: أصل السنّة الاستمرار في جهة، يُقال: سنّ الماء إذا صبّه حتّى يفيض من الإناء، وسنّ السكين بالمسنّ: إذا أمرّه عليه لتحديده. ومنه السنّ واحد الأسنان لاستمرارها على منهاج، والسنان لاستمرار الطعن به، والسنن: استمرار الطريق[1].
[عاقبة]: العاقبة: ما يؤدّي إليها السبب المتقدّم، وليس كذلك الآخرة، لأنَّه قد كان يمكن أن تجعل هي الأولى في العدّة.
[موعظةٌ]: الموعظة: ما يليّن القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه من الزجر عن القبيح والدُّعاء إلى الجميل. وقيل: الموعظة هو ما يدعو بالرغبة إلى الحسنة بدلاً من السيئة.
* * *
عبر التاريخ في أحداثه وظواهره:
في الآية الأولى لفتةٌ قرآنيةٌ للتاريخ في كلّ حوادثه القريبة والبعيدة، ودعوةٌ للنَّاس إلى دراسة سنن اللّه في الأرض وقوانينه الحتميّة التي تحكم الواقع الإنساني في خطوات التقدّم والتأخّر، والعمران والخراب، والرقيّ والهبوط؛ ليأخذوا من ذلك كلّه العبرة والدرس، ويعرفوا أنَّ عاقبة التكذيب للأنبياء، والبُعد عن خطّ الحقّ والشريعة، هي الدمار والموت والانهيار، وأنَّ الحاضر لن يكون أفضل من الماضي في هذا الاتجاه، لأنَّ سنن اللّه لا تتغيّر. وفي ضوء ذلك، نعرف أنَّ القرآن الكريـم يضع التاريخ في موضعه التربوي الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يعرف الأسس التي كانت ترتكز عليها حركته، والقوانين الطبيعية التي تحكم أحداثه وظواهره في المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والحربيّة... ويعرف في نهاية المطاف كيف يتحوّل الانسجام مع خطّ اللّه ـ عبر الإيمان به ـ إلى عنصر حضارةٍ وتقدّم وانطلاقٍ، وكيف يتحرّك البُعد عنه ـ عبر الكفر والشرك والضلال ـ إلى عنصر تخلّفٍ وتأخر وارتباك... وبذلك لا يعود التاريخ قصةً للمتعة واللهو وقتل أوقات الفراغ.
وفي الآية الثانية، إعلان عن طبيعة الآيات المتقدّمة في ما تأمر به وما تنهى عنه، وما تطرح من مفاهيم ومواعظ وإرشاداتٍ وقضايا، ليعرف النَّاس أنَّها واردة من أجل إيضاح الحقيقة وجلاء المفاهيم، وإنارة الطريق، وموعظة الغافل التائه وتذكيره... وقد اعتبرت ذلك كلّه موجّهاً إلى المتَّقين، من خلال أنَّ التَّقوى تدفع الإنسان إلى السعي نحو المعرفة باعتبارها مسؤولية فكرية وعمليّة، وليست ترفاً فكريّاً يمكن للإنسان أن يستغني عنه، وبذلك يتحوّل البيان لديه إلى وضوح فكري، والهدى إلى حركةٍ على الطريق المستقيم، والموعظةُ إلى انفتاحٍ على آفاق اللّه الواسعة في رحاب الحياة... أمّا غير المتَّقين، فقد أغلقوا عيونهم عن النور، وأصمّوا أسماعهم عن كلمات الحقّ، وجمّدوا عقولهم عن التحرّك في اتجاه الحقيقة.
* * *
نظام كوني إلهي:
[قد خلت من قبلكم سننٌ] مضت في الزمن الماضي الذي عاشت فيه أمم متنوّعة في خصائصها وأعرافها ولغاتها وألوانها ومواقعها، في أوضاعها الخاصّة والعامّة، وفي صراعاتها المعنوية والمادية، وفي مواقفها إزاء الرسالات التي جاء بها الأنبياء وحياً من اللّه، وتحرّك فيها المصلحون في خطّ الرسالات في تمرّدها الفكري والعملي عليها، واضطهادها للرسل ودعاة الصلاح والإصلاح، فكانت لها في حركة التاريخ في الواقع الإنساني أكثر من سنّةٍ إلهية تنفتح على أكثر من قانون عام تخضع له الحياة والإنسان في كلّ الأحداث التي تحدث في الواقع، وفي كلّ التطوّرات الإنسانية والمتغيرات الحياتية، وذلك في النظام الكوني والإنساني الذي أقام اللّه الحياة عليه، فلا يختلف فيه الحاضر عن الماضي، ولا ينفصل فيه المستقبل عن الحاضر، فهناك خطّ واحد ممتد في الزمان في الوجود الإنساني يتحرّك عليه الإنسان، فهو الذي يضع لنفسه خيرها بإرادته الخيّرة، وهو الذي يضع لها شرّها بإرادته الشريرة، وهو الذي يغيّر الواقع من خلال تغيير فكره في تصوّراته وتطلّعاته وخططه للحياة وللحركة وللعلاقة بالإنسان وبالوجود، لأنَّ اللّه جعل حركته مظهراً لفكره في مفرداته وأسلوبه وحركته في الواقع، وهكذا تنطلق الحضارات في عملية البناء والقوّة والامتداد والحيوية من خلال الانفتاح على القيم، وانحدار الإنسان إلى الدرك الأسفل في روحيته وحركته وبُعده عن الخطّ المستقيم، وقد أشار اللّه إلى بعض ذلك في قوله: [ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً سنَّة اللّه في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنَّة اللّه تبديلاً] (الأحزاب:61ـ62)؛ وقوله تعالى: [سنَّة اللّه التي قد خلت من قبلُ] (الفتح:23).
[فسيروا في الأرض فانظروا] أيُّها المكذبون الضالون المتمرّدون على الرسالة والرَّسول، وانظروا يا أيُّها الذين تواجهون خياراتكم في السير مع خطّ الرسالة والالتزام بها وفي الانفصال عنه، [كيف كان عاقبةُ المكذِّبين] الذين كذّبوا الرسل، وأعرضوا عن الرسالات، فابتعدوا بذلك عن الحصول على مصالحهم الحيوية التي هي سرّ التشريعات الإيجابية، والوقوع في المفاسد التي هي سرّ التشريعات السلبيّة، ثُمَّ طواهم الزمن من خلال العقوبات التي أنزلها اللّه بهم، أو من خلال البلاء القاسي المتنوّع الذي حلّ بهم، لتعرفوا أنَّ مسألة التكذيب ليست مسألة سلبيةً في موقع صاحب الرسالة، بل هي كذلك في حياة المكذّب نفسه لما يخسره من الخير ويقع فيه من الشرّ.
[هذا] النداء الإلهي الصادر من موقع الرحمة الواسعة واللطف العميم والفضل العظيم من أجل أن يدعوكم إلى ما يحييكم ويحقّق لكم النتائج الكبيرة في الدُّنيا والآخرة، [بيانٌ للنَّاس] ليملكوا وضوح الرؤية للمسؤولية، [وهُدى] يهتدون به إلى الصراط المستقيم، [وموعظةً] تليّن قلوبهم وتفتحها وتلطّف مشاعرهم وأحاسيسهم، وتوجّه خطواتهم إلى الطريق السوي، [للمتَّقين] الذين يخافون مقام ربّهم ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاَّ اللّه.
ـــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:841.
تفسير القرآن