تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 138 إلى الآية 143

 من الآية 138 الى الآية 143

الآيــات

{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتُمُ الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسَسكُم قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُهُ وتلك الأيَّام نداولها بين النَّاس وليعلم اللّه الذين آمنوا ويتَّخذ منكم شهداء واللّه لا يُحبُّ الظَّالمين * وليُمحِّص اللّه الذين آمنوا ويمحَقَ الكافرين * أم حسِبتم أن تدخُلُوا الجنَّة ولمّا يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصَّابرين * ولقد كنتم تَمَنَّونَ الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} (139ـ143).

* * *

معاني المفردات:

[ولا تهنوا]: لا تضعفوا، والوهن: الضعف القلبي والروحي والانسحاق الداخلي. وقد مرّ.

[قرحٌ]: أثر الإصابة بجراح. والقرح ـ كما يقول الراغب ـ الأثر من الجراحة من شيءٍ يصيبه من خارج[1].

[الأيام]: الدول والظفر والسلطنة والقهر، على نحو الكناية، قال الإمام عليّ (ع): «الدهر يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك»[2]. واليوم ـ كما يقول صاحب الميزان ـ هو المقدار المعتد به من الزمان اللازم لحدوث الحوادث، فيختلف باختلاف الحوادث. وقد شاع استعماله في ما بين طلوع الشمس وغروبها، وربَّما استعمل في الملك، والسلطنة، والقهر، ونحوها بعلاقة الظروف والمظروف[3].

[نداولها]: نصرّفها ونداورها ونحوّلها. ودال يدول دولاً: دار، ودالت الأيام: دارت وتحوّلت من قوم إلى آخرين. والمعنى: نصرّفها مرّةً لفرقةٍ ومرّةً عليها. ومداولة الأيام تعاقب الشدّة والرخاء، والهزيمة والنصر، والضرّاء والسرّاء.

[شهداء]: جمع: شهيد من الشهادة بمعنى القتل في سبيل اللّه، في إشارةٍ إلى من قتل من المسلمين في معركة أحد، لأنَّهم ـ كما قيل ـ بذلوا الروح عند شهود الواقعة ولـم يفروا؛ أو جمع شاهد، والمراد به الشاهد على النَّاس في ما يقومون به من الأعمال السيئة والحسنة من خلال رؤيته وموقعه القيادي، الذي يتيح له هذا الموقع المميّز الذي ينفصل به عن النّاس الذين يعيشون التجربة الواقعية العمليّة. وبهذا كانت هذه التسمية لمشاهدتهم الأعمال التي يشهدون بها.

[وليمحِّصَ]: ليخلّص ما في قلوبكم من نقاط الضعف والعيوب، والتمحيص: التطهير والتصفية وتخليص الشيء من الشوائب، وأصل المحص ـ كما يقول الراغب ـ: تخليص الشيء مما فيه من عيب... يُقال: مَحَصْت الذهب ومحَّصتُه إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث[4]. والتمحيص يكون في القلوب والنفوس كما يكون في الصفوف.

[ويمحَقَ]: يبطل وينقص ويهلك. والمحق: إنفاد الشيء تدريجياً وإزالته شيئاً فشيئاً، والمحق ـ كما يقول الراغب ـ: النقصان، ومنه: المحاق لآخر الشهر[5]. والمحق يكون في النفوس كما يكون في الصفوف.

[تمنَّونَ]: من التمني. قال في المجمع: الفرق بين التمني والإرادة، أنَّ الإرادة من أفعال القلوب، والتمني قول القائل ليت كان كذا. وقيل: إنَّ التمني معنى في القلب يطابق هذا القول، والصحيح هو الأول[6].

* * *

مناسبة النزول:

جاء في مجمع البيان: «قيل: نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح. وقيل: لما انهزم المسلمون في الشعب، وأقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبيّ (ص): اللّهمّ لا يعلُنَّ علينا، اللّهمّ لا قوّة لنا إلاَّ بك، اللّهمّ ليس يعبدك بهذه البلدة إلاَّ هؤلاء النفر، فأنزل اللّه تعالى الآية، وتاب نفرٌ رماة[7]، فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتّى هزموهم، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله تعالى: [وأنتم الأعلون]، عن ابن عباس. وقيل: نزلت الآية بعد يوم أحد حين أمر رسول اللّه (ص) أصحابه بطلب القوم، وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، وقال (ص): لا يخرج إلاَّ من شهد معنا بالأمس، فاشتدّ ذلك على المسلمين، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، عن الكلبي، ودليله قوله تعالى: [ولا تهنوا] في ابتغاء القوم، الآية»[8].

وقال راشد بن سعد: لما انصرف رسول اللّه كئيباً حزيناً يوم أحد، جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين وهي تلدم[9]. فقال رسول اللّه: أهكذا يفعل برسولك؟ فأنزل اللّه تعالى: [إن يمسسكم قرحٌ] الآية[10]. وأخرج ابن أبي حاتـم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر، خرجن يستخبرن، فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير، فقالت امرأة من الأنصار: مَنْ هذان؟ قالوا: فلان وفلان، أخوها وزوجها، أو زوجها وابنها، فقالت: ما فعل رسول اللّه؟ قالوا: حيّ، قالت: فلا أبالي، يتخذ اللّه من عباده الشهداء. ونزل القرآن على ما قالت: [ويتَّخذ منكم شهداءي] [11].

وقد أشرنا في أكثر من ملاحظة حول أسباب النـزول، أنَّها قد تكون اجتهاداً من رواتها، كما أنَّ الغالب منها غير نقيّ السند، وغير واضح الحجية، ولعلّ هذه الرِّوايات من أمثال تلك، لأنَّنا نتحفظ حول انفعال رسول اللّه(ص)، وهو العارف بسنن اللّه في قضايا الهزيمة والنصر، وحكمة اللّه في ابتلاء المؤمنين، ومدى المصلحة في ذلك لمجرّد سماعه امرأة تلدم، ليقول مناجياً ربّه أهكذا يفعل برسولك، وهكذا نلاحظ على نزول القرآن على ما قالت المرأة، واللّه العالـم.

* * *

وقفة نقد وتقويم:

وتعود السورة من جديد إلى معركة أحد في وقفة نقدٍ وتقويـمٍ لمواقف المسلمين فيها، فقد أدّت الهزيمة في هذه المعركة إلى حالةٍ شديدة في داخل الذات الإسلامية من الشعور بالوهن والضعف والحزن، في تساؤل نفسي عنيف، كيف حدث كلّ هذا، ولماذا؟... ويواجه القرآن هذا كلّه بالرفض لهذه الحالة في موقف المؤمنين: [ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون]، لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخلي أمام الهزيمة، في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشعور بالكرامة والإحساس بالعزّة. إنَّ اللّه يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقي للأشياء، لأنَّ ارتباطه باللّه يُشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي له بالفكرة العليا، وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة... وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضعف والخوف والحزن، ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الروحي بالألـم والتضحية في طريق الجهاد.

ولعلّ من الواضح أنَّ الآية الكريمة لا تريد أن توحي للمؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذات على الآخرين لتصبّ في مجرى الأنانية الذاتية، بل كلّ ما تريده ـ في ما نستوحيه منها ـ هو الاستعلاء الروحي والرسالي على قوى الكفر والظلم والطغيان، وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة [إن كنتم مؤمنين] من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.

ثُمَّ تلتفت إليهم في أسلوب واقعي يريد للقضية أن تعيش في نطاق أسبابها الطبيعية التي أخضع اللّه لها كلّ ما في الظواهر الكونيّة والإنسانيّة، فإنَّ قضية النصر والهزيمة في حياة الأفراد والجماعات لا ترتبط بالجانب الغيبـيّ للحياة ليواجه الإنسان قضاياها من هذا الموقع، فيدفعه ذلك إلى الشكّ في منطلقات الإيمان وخطواته، بل ترتبط بالجانب الواقعي للأشياء؛ فإذا أخذ النَّاس بأسباب النصر فإنَّهم سينتصرون وإن كانوا كافرين، وإذا تركوها انهزموا وإن كانوا مؤمنين، لأنَّ اللّه لا يريد أن يُحارب بالنيابة عن المؤمنين، بل يريدهم أن يأخذوا بسنته، ويسيروا على حسب قوانينه، فينطلقوا إلى ساحات الصراع من موقف الوعي للساحات ومتطلباتها المادية والمعنوية... ولا مانع من اقتضاء حكمة اللّه أن يتدخل في الحالات الصعبة التي تمثِّل فيها الهزيمة حالة انهيار للإسلام وللمسلمين ـ كما حدث ذلك في معركة بدر ـ ولكنَّها حالاتٌ طارئة لا تصل إلى مستوى القاعدة العامّة الثابتة.

وهكذا خاطب اللّه المسلمين بعد أن نهاهم عن الحزن والوهن ودعاهم إلى الشعور بالعلوّ في خطّ الإيمان، ووضعهم في واجهة الصورة؛ وذلك في قوله تعالى: [إن يمسسكم قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُهُ] فإذا كان المسلمون قد انهزموا في المعركة في أحد وأصابهم القرح، فقد أصاب الكافرين مثل ذلك في بدر، فليست الهزيمة حالة ثابتة للمهزومين في بعض المعارك، وليس النصر قانوناً حتمياً دائماً في حياة المنتصرين في حالات النصر؛ فقد ينتصر المهزوم في معركة جديدة، وقد ينهزم المنتصر، [وتلك الأيام نُداولها بين النَّاس] فقد تكون القوّة لفريق من النَّاس في ما هيّأ اللّه لهم من أسباب القوّة، وقد تتبدل الحال فتكون القوّة في الجانب الآخر والضعف في جانب الأقوياء، تلك هي سنّة اللّه في الأرض التي تدفع الحياة إلى خطّ التوازن، فلا ييأس المهزوم من النصر فيظلّ يُلاحق التجربة الحيّة التي تقود إليه، ولا يطغى المنتصر بانتصاره ويستسلم لنتائجه، بل يبقى في هاجس الهزيمة المرتقبة، فيُحافظ ـ من خلال ذلك ـ على مواجهة المستقبل بروح متوازنة... وفي ذلك كلّه تتجدّد الحياة وتنمو وتتكامل فُرَصها وتتوازن حركاتها ويتحرّك خطّ الصراع في اتجاه سليم.

* * *

أسلوب قرآني مميّز:

[وليعلم اللّه الذين آمنوا] فإنَّ المواقف الصعبة التي يواجه فيها النَّاس الهزائم قد تزلزل النفوس وتدفع بعض المؤمنين إلى الريبة والشكّ والتراجع، وتزيد المؤمنين الآخرين ثباتاً وقوّةً وتحفزاً وتصميماً على مواجهة التحدِّيات، وبذلك ينكشف الإيمان المزيّف من الإيمان الخالص الصحيح الثابت، فإنَّ حالات الرخاء والأمن والدعة تجمع في داخلها كلّ النماذج الخيّرة والشرّيرة، لأنَّ الجوّ لا يفرض عملية الفرز الاجتماعي الإيماني ما دامت الفرصة تحتوي الجميع وتستوعبهم من دون سلبيّات.

وقد يوحي هذا التعبير بأنَّ التجربة تستهدف علم اللّه بالمؤمنين، فهل يحتاج اللّه في علمه بالأشياء إلى وسيلة للعلم مما يحتاجه الإنسان في ذلك؟! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً. فما معنى ذلك إذاً؟! الظاهر أنَّ هذا أسلوب قرآني مميّز يستعمل الأفعال المنسوبة إلى اللّه بالطريقة التي تنسب إلى الإنسان من أجل التأكيد على ارتباط النتيجة بالمقدّمات في طبيعة الأشياء؛ وإن اختلفت في طريقة نسبتها إلى اللّه الذي يعلم الأشياء قبل حصولها، ونسبتها إلى الإنسان الذي يحتاج إلى الوسيلة التي تؤدّي إلى العلم...

وهذا أسلوب جرى عليه القرآن في طريقة المحاكاة في الموارد التي لا يحمل فيها الفعل طبيعة المعنى الذي أطلق عليه، كما في قوله تعالى: [فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم] (البقرة:194)؛ مع أنَّ انتصار الإنسان لنفسه لا يعتبر اعتداءً، ولكن المشاكلة لا تخلو من المناسبة التي تُعطي الفكرة بتناسب الفعل مع ردّ الفعل. وعلى ضوء ذلك يكون المقصود: ليظهر اللّه الذين آمنوا من خلال التجربة. فالقضية قضيّة تعبيريّة فنيّة ولا صلة لها بالمضمون، فلا حاجة إلى ما ذكره صاحب مجمع البيان في تفسيره، قال: «... وإذا كان اللّه تعالى يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان، كما يعلمهم بعده، فإنَّما يعلم قبل الإظهار أنَّهم سيميزون، فإذا أظهروه علمهم متميّزين، ويكون التغيّر حاصلاً في المعلوم لا في العالـم، كما أنَّ أحدنا يعلم الغد قبل مجيئه، على معنى أنَّه سيجيء، فإذا جاء علمه جائياً، وعلمه يوماً لا غداً، فإذا انقضى فإنَّما يعلمه الأمس لا يوماً ولا غداً، ويكون التغيّر واقعاً في المعلوم لا في العالم»[12].

[ويتَّخذ منكم شهداء] الظاهر أنَّ المراد منه جمع الشاهد، لا جمع الشهيد ـ كما ذكره صاحب تفسير الكشاف[13] ـ وقد تكرر في القرآن الحديث عن أنَّ اللّه جعل هذه الأمّة في موضع الشهادة على النَّاس: [وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرَّسول عليكم شهيداً] (البقرة:143)؛ أمّا علاقة ذلك بالمعركة ـ التجربة ـ الامتحان، فهي تعميق الإيمان وتصفيته وتنميته في نفس الإنسان المؤمن، ما يجعله في مستوى الشهادة التي تحتاج إلى عمق وصفاء وامتداد في الإيمان...

وربَّما تنطلق التجربة الصعبة التي تتنوّع فيها المشاكل وتتكرر فيها الحلول وتشتدّ فيها المعاناة، لتعمل ـ بأجمعها ـ على صنع الإنسان القيادي، والمؤمن الصلب الواعي المتحدّي الفاعل، لأنَّ مسألة القيادة ليست مسألة تتصل بالجانب الفكري للإنسان ـ بل هي ـ إلى جانب ذلك ـ مسألة مرتبطة بالتجربة الحيّة التي تتحرّك في وعي الإنسان في ساحة المعاناة ومواقع الصراع، وهذا واقع دور الشهادة الذي يطلّ بالإنسان على واقع الأمّة ليرصد كلّ حركتها الإيجابية أو السلبية في خطّ الاستقامة أو الانحراف من خلال وعيه الحركي للجانبين معاً، ومعاناته في الإصرار على الموقف الحقّ في صراع الحقّ والباطل.

وفي ضوء هذا، قد نجد معنى الشاهد في الشهادة أقرب من معنى الشهيد، لا سيّما أنَّ اللّه قد حدّثنا في القرآن في أكثر من آية عن الشهداء على النَّاس، من دون أن يتحدّث عن الشهيد بهذا التعبير في آية واحدة، بل لـم يعهد استعماله في القرآن، وإنَّما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية ـ كما يقول صاحب الميزان ـ مع ملاحظة أخرى، وهي أنَّ كلمة [ويتَّخذ] لا تتناسب مع الشهداء بمعنى قتلى المعركة. فقد لا يكون من المألوف أن يُقال اتخذ اللّه فلاناً مقتولاً في سبيله أو شهيداً، كما يُقال: اتخذ اللّه إبراهيم خليلاً، أو اتخذ اللّه موسى كليماً، ومحمَّداً شهيداً يشهد على أمّته يوم القيامة[14]، لأنَّ التعبير ـ على الظاهر ـ يُناسب المعنى الذي يمنح صاحبه خصوصية له، كالخليل والكليم والحبيب، وهذا لا ينسجم مع المعنى المذكور، واللّه العالم.

[واللّه لا يُحبُّ الظَّالمين] الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن الحقّ والتراجع عن الطريق السويّ، [وليُمحِّص اللّه الذين آمنوا] ويختبرهم بما يبتليهم به، ويقودهم إلى المواقف السليمة الثابتة، وذلك من خلال أنَّ الابتلاء المنفتح على التجربة المتنوّعة الأبعاد المتعدّدة الجوانب، يمنح الإنسان المؤمن وعياً جديداً صافياً، بحيث تتغيّر نظرته إلى الأشياء وفهمه للأمور لمصلحة تغيير الذهنية العامّة، والسلوك الأخلاقي، والقيمة العملية، فتتحوّل نقاط الضعف إلى قوّة، والجوانب السلبية إلى جوانب إيجابية، فتزول كلّ الشوائب التي تبتعد بالإنسان عن صفاء الحقّ ونقاء الحقيقة.

[ويمحَقَ الكافرين] وذلك بتوجيه الضربات المتتالية إليهم، وتتابع الفرص أمام المؤمنين في الاندفاع مرّة بعد أخرى، وذلك من دون فرقٍ بين المحق الفردي والجماعي، تبعاً للأسباب الحادثة في الواقع الذي يعيشه الكافرون، حتّى يستقيم الأمر للخطّ الصحيح في نهاية المطاف.

* * *

الجنَّة ليست منحة مجانية للكسالى:

[أم حسبتُم أن تدخلوا الجنَّة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصَّابرين] كان حديث الآيات الثلاث السابقة، هو حديث التجربة الحيّة في المعركة، وكيف يمكن الاستفادة منها بالتخفيف من سلبياتها ومضاعفة إيجابياتها، ودراسة أهدافها القريبة والبعيدة؛ أمّا في الآيتين الأخيرتين، فنُلاحظ أنَّ الحديث يتخذ بُعداً آخر، وهو مواجهة المؤمنين في الآية الأولى بالميزان الإسلامي للدخول إلى الجنّة، وهو العمل الصالح المتحرّك في خطّ الصبر والجهاد الذي يعبّر عن نفسه في الممارسات الصعبة التي يخوضها المجاهدون والصابرون الذين يضعون حياتهم في كفّة الميزان، وإيمانهم وعقيدتهم في الكفّة الأخرى، فترجح كفّة الإيمان والعقيدة على كفّة الحياة، فيقدّمون حياتهم ضحيّة على مذبح إيمانهم وعقيدتهم، فليست الجنَّة منحة مجانية يمنحها اللّه للكسالى الذين يقضون أيامهم في استرخاء نظري كسول، يُمارسون فيه ترف الفكر وغيبوبة الروح في أجواء الفراغ، ثُمَّ يبدأون بالتنديد بالطلائع المجاهدة التي تقف في مواقع الخطر في خطّ الجهاد، ليحطموا معنوياتهم ويهدّموا روحهم بالأساليب المتلوّنة الخبيثة. فمن أراد الجنَّة، فلا بُدَّ من أن يسعى نحوها بوسائلها التي يقف الجهاد في طليعتها ليقود الإنسان إلى جنّة اللّه، كما تزف العروس إلى زوجها في ليلة العرس.

وفي هذا الجوّ، لا بُدَّ للإنسان المؤمن الذي يفكّر بالجنّة من أن يطلبها في حركة الواقع الصعب، وفي ساحات الجهاد المرّ، لا في ساحات المساجد ومحاريبها فحسب؛ حتّى المسجد كان في أيام الإسلام الأولى منطلقاً لصيحات الجهاد التي تختلط بأذان الصلاة لتأكيد أنَّهما ينطلقان من قاعدة واحدة، وهي الإخلاص في مواقف العبودية الخالصة؛ ولكنَّ المدّ الإسلامي قد انحسر عن الحياة عندما ابتعد المسلمون عن الجهاد.

وتتحرّك الآية الثانية في خطّ التحدّي للتمنيات السابقة على المعركة التي كان المؤمنون يعيشونها في داخل أنفسهم: [لقد كنتم تمنَّون الموت من قبل أن تلقوه]. فقد كانوا يتمنَّون قتلاً في سبيل اللّه ليحصلوا على جنّته ورضوانه مما كان القرآن يحدّثهم عمّا أعدَّ اللّه للمجاهدين من فضلٍ وكرامة وسعادة في الدار الآخرة عنده، ولكنَّ التمنيات كانت تعيش في الفراغ خارج نطاق التجربة الصعبة، فلم يكن هناك معارك تفرض نفسها على الساحة، ولا اضطهاد وتشريد ومواجهة أخطار، كما هي حالة الكثيرين منّا عندما يقفون خلف المنابر فيهزونها بخطاباتهم الحماسية، وأساليبهم البلاغية، ودعوتهم للموت في سبيل اللّه...

وجاءت التجربة في معركة أحد، وكان الموت يركض في هذا الموقع، ويقف في ذلك، ويرفرف على رأس هذا، ويتحرّك حركة صاعدة وهابطة في هذا الاتجاه أو ذاك؛ وبدأ التردّد والقلق، وانطلقت نقاط الضعف في حركة التفاف حول أحلام الإنسان ونوازعه الذاتية، وجاء القرآن ليُخاطب هؤلاء ويُخاطبنا من خلالهم، ويؤكّد أنَّ الأمنية قد تجسّدت في الموقف، فها هو الموت أمامكم، حدّقوا به كيف يتحرّك في خطّ الشهادة، [فقد رأيتموه وأنتم تنظرون] لقد رأيتموه، فكيف تواجهون الموقف؟! ويسود الصمت، فلا تتحدّث الآية عن التفاصيل، ولكنَّها تترك للمؤمن أن يفكّر ليمتد تفكيره في اتجاه المسؤولية التي تقف في الخطّ الفاصل بين الدُّنيا والآخرة.

ـــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:415.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم/396، ص:411.

(3) تفسير الميزان، ج:4، ص:29.

(4) مفردات الراغب، ص:483ـ484.

(5) مفردات الراغب، ص:484.

(6) مجمع البيان، ج:2، ص:846.

(7) كذا وردت، والصحيح، وثاب نفر من الرماة. وثاب: أي: عاد ورجع.

(8) مجمع البيان، ج:2، ص:843.

(9) اللدم: صوت الحجر، أو الشيء يقع بالأرض وليس بالصوت الشديد.

(10)أسباب النزول، ص:69.

(11)الدر المنثور، ج:2، ص:333.

(12)مجمع البيان، ج:2، ص:844.

(13) انظر: تفسير الكشاف، ج:1، ص:466.

(14)انظر: تفسير الميزان، ج:4، ص:30.