تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 145 إلى الآية 148

 من الآية 145 الى الآية 148
 

الآيات

{وما كان لنفسٍ أن تموت إلاَّ بإذن اللّه كتاباً مؤجَّلاً ومن يُرد ثواب الدُّنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشَّاكرين * وكأيّن من نبيّ قاتل معه ربيُّون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللّه وما ضعفوا وما استكانوا واللّه يُحبُّ الصَّابرين * وما كان قولهم إلاَّ أن قالوا ربَّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهُم اللّه ثواب الدُّنيا وحسن ثواب الآخرة واللّه يُحبُّ المحسنين}(145ـ148).

* * *

معاني المفردات:

[ربيُّونَ]: إلهيّون منسوبون إلى الربّ، والربّيّ كالرّباني.

[وهنوا]: ضعفوا روحياً ونفسياً. وهو الضعف الداخلي القلبي، وهو الأساس في الضعف والاستكانة، وقال بعضهم: إنَّ الوهن هو الضعف، وقال: وما ضعفوا من حيث إنَّ الوهن انكسار الجسم بالخوف وغيره، والضعف: نقصان القوّة.

[استكانوا]: أي خضعوا واستسلموا لعدوّهم. والاستكانة: أصلها من الكنية، وهي الحالة السيّئة، يُقال: فلان بات بكنية أي بنية سوء، وبخيبة، أي: بحالة سوء، وقيل: أصلها من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد تحرّك.

[ضعفوا]: ضعفت قواهم عن الاستمرار في الصراع، ولانت عزائمهم في الثبات في ساحة المواجهة. والضعف: نقصان القوّة. وإن كان الضعف عاماً في النفس وفي البدن وفي الحال.

[وإسرافنا]: الإسراف مجاوزة المقدار، والإفراط بمعناه، وضدّهما التقتير، وقيل: الإسراف مجاوزة الحقّ إلى الباطل بزيادة ونقصان، والأول أظهر. يُقال: أسرفت الشيء: أي: نسيته، لأنَّه جاوزه إلى غيره بالسهو عنه.

* * *

الإنسان يحدّد مصيره من خلال عمله:

لماذا يجبن الإنسان المؤمن، ولماذا يخاف ويتراجع عن الاندفاع في معارك الحقّ والباطل؟ هل هو الخوف من الموت؟ ولكنَّ الإيمان بالقضاء والقدر يتلخص في الفكرة القائلة: إنَّ ما أصاب الإنسان في هذه الدُّنيا لـم يكن ليخطئه، وما أخطأه لـم يكن ليصيبه، وإنَّ لكلّ إنسان أجلاً محدوداً لن يعدوه، فلا يتقدّم ولا يتأخر مهما كانت الظروف والأخطار. إنَّ هذه الفقرة من الآية الأولى تقرّر هذه الحقيقة من أجل أن يستلهمها المؤمنون عندما يدعوهم الواجب إلى خوض الحرب دفاعاً عن الحقّ... [وما كان لنفسٍ أن تموت إلاَّ بإذن اللّه] فهو الذي يملك الحياة والموت من حيث إنَّه خالقهما في الإنسان وفي الموجودات الحيّة كلّها من خلال سنته في الموت في أسباب الحياة والموت، وهذا هو المراد من [إلاَّ بإذن اللّه]، [كتاباً مؤجَّلاً] أي مؤقتاً له إلى أجل معلوم لا يتقدّم ولا يتأخر.

فلكلّ نفس وقتٌ محدَّدٌ خاضع للظروف الكونية المحيطة به التي قدّر اللّه من خلالها حياته وموته عندما خلق اللّه النَّاس، فلا يموت الإنسان إلاَّ بإذن اللّه الذي يمثِّل التعبير عن القوانين التي تحكم حياة الإنسان، بعد أن يبلغ الكتاب أجله. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا الخوف من الموت؟!

وتنطلق الآية لتحدّد للإنسان مصيره من خلال إرادته واختياره في خطّ المسير: [ومن يُرِد ثوابَ الدُّنيا]، ولا يفكّر بما بعدها، بأن كان ممن أخلد إلى الأرض واتبع هواه [نؤته منها] فإنَّ اللّه لا يحجب عنه ذلك، بل يؤتيه منها... [ومن يُرِد ثواب الآخرة] فيتحرّك في الحياة بطاعة اللّه طلباً لرضوانه وشكراً لنعمه، في عملية تجسيد للشكر بالإيمان والعمل الصالح، بأن كان ممن ارتبط باللّه في عقيدته وعمله [نؤتِهِ منها] أي كان له ذلك كنتيجة لعمله، [وسنجزي الشَّاكرين] وجزاء اللّه عليه جزاء الشَّاكرين، فلماذا لا يغتنم الإنسان الفرصة فيفكّر باللّه ويعمل لما عنده فيكون قريباً منه؟!

* * *

دروس من الماضي:

ثُمَّ يُطلق الحديث في تاريخ النبوّات السابقة، ليربط تجربة الحاضر بتجربة الماضي، وليثير أمام جيل التجربة الجديدة ما يبعث فيهم روحاً حيّة متحرّكة تثير فيهم قوّة الاندفاع والحركة... [وكأيِّن من نبيّ قاتل معه رِبيُّون كثيرٌ] فقد كان لكلّ واحد من الأنبياء ربيّون، وهم الجماعات الكاملة في العلم والعمل ـ كما قيل ـ [فما وهنُوا] أي ضعفوا داخلياً وانهزموا نفسياً، [لما أصابهم في سبيل اللّه وما ضعفوا وما استكانوا] أي لم يستسلموا للعدوّ في ذلةٍ وانكسارٍ، بل صبروا في مواقع الجهاد على الآلام والضغوط والمشاكل والتحدِّيات... [واللّه يُحبُّ الصَّابرين] فلماذا لا تصبرون مثلهم؟! وكانت روحيتهم صافية منفتحة على اللّه؛ فإذا شعروا في داخل ذواتهم بالجفاف والقسوة ورأوا أنَّ خطواتهم بدأت تنحرف عن الطريق بفعل الأجواء الخانقة المحيطة بهم، جلسوا بين يدي اللّه في مناجاة روحيّة خاشعة: [وما كان قولهم إلاَّ أن قالوا ربَّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا] فقد تجاوزنا الحدود المرسومة لنا من قِبَل رسلك وابتعدنا عن الطريق طويلاً، وبدأت الأرض تهتز من تحت أقدامنا لتزلزل أقدامنا في زلزال الكفر والانحراف، [وثبِّت أقدامنا] في مواقع الزلل [وانصرنا على القوم الكافرين] عندما نُجاهد في سبيلك، فإنَّنا لا نطلب النصر إلاَّ منك بتأييدك وعونك ونصرك. واستجاب اللّه لهم هذا الدُّعاء الذي يجمع للإنسان ثواب الدُّنيا والآخرة: [فآتاهُمُ اللّه ثواب الدُّنيا وحسن ثواب الآخرة واللّه يُحبُّ المحسنين] الذين يعملون له عندما يعملون، ويتوكلون عليه عندما يجاهدون.

تلك هي الصورة في مجتمع النبوّات السابقة، وتلك هي الصورة التي يريد اللّه للمجتمع المسلم أن يستعيدها في نفسه عندما تضيق به الأمور، وتُحيق به الهزائم، وتجتمع في آفاقه الأزمات، وتتضافر عليه قوى الشر... فيسأل اللّه الفرج حيث لا فرج، والمدد حيث لا مدد؛ فتسكن النفس، ويرتاح اللب، وتثبت الأقدام، وينفتح للحياة على اللّه درب طويل لا نهاية له، تخضرّ فيه أرواح، وتنبت فيه كلّ الجنائن الروحيّة التي يزهر فيها الورد، وتتفتح فيها براعم الرياحين... ويبدأ الإنسان حياته الجديدة الآمنة المطمئنة في آفاق اللّه...

* * *

ما معنى حبّ اللّه؟!

وهنا ملاحظات:

الأولى: إنَّ اللّه تحدّث عن الصَّابرين، في قوله: [واللّه يُحبُّ الصَّابرين] من موقع التعبير عن الحبّ الإلهي للمجاهدين الصَّابرين الذين عاشوا الصبر في خطّ الجهاد، باعتباره العمق الروحي الذي يؤكّد الثبات في الموقف من خلال تحمّل الآلام القاسية ومواجهة التحدِّيات الكبرى، ما يوحي بأنَّ الإنسان يقف في مثل هذا الموقف ويُعاني كلّ هذه المعاناة حبّاً باللّه ورسوله، بحيث يعيش الفرح الروحي في داخل نفسه، لأنَّ اللّه يراه فيهون عليه كلّ شيء أمام ذلك، وهذا هو الذي يقوّي إرادة التَّقوى في الإنسان، ويحرّك قدرته في اتجاه الأهداف، لأنَّ الإنسان كلّما ازداد حبّاً للّه كلّما ازداد صبراً، وكلّما ازداد صبراً كلّما ازداد قوّة وثباتاً، فيتحوّل إلى أن يكون إنسان اللّه الذي يحبّ ما يحبّه اللّه ويكره ما يكرهه في الأعمال والحياة والإنسان، فيبادله اللّه حبّاً بحبّ. وتلك هي السعادة الكبرى التي ليس فوقها سعادة، والغنيمة التي لا تساويها غنيمة، أن يحصل الإنسان على حبّ اللّه، فتفيض عليه الرحمة بكلّ فيوضاتها، ويحوطه اللطف الإلهي بكلّ رعايته.

* * *

من هم المحسنون؟

الثانية: إنَّ اللّه تحدّث بكلمة «الحبّ» عن المحسنين في قوله تعالى: [واللّه يُحبُّ المحسنين]، هؤلاء الذين عاشوا معنى الإحسان في أفكارهم فكراً يقدّم الإحسان إلى النَّاس الذين يبحثون عن الحلول الفكرية لمشاكلهم العامّة، وعملاً يقدّمه إلى النَّاس ليُحسن إلى حياتهم الباحثة عن قوّةٍ لضعفها، وغنًى لفقرها، وحيويةٍ لحركيّتها؛ فيرفع بذلك مستواهم، ويحقّق لهم الكثير من الخير في جميع أمورهم وأوضاعهم.

وهؤلاء الذين عاشوا الإحسان لأنفسهم إيماناً في الروح، وعقيدةً في العقل، واستقامة في الطريق، وثباتاً في الخطى، وتقوًى في العمل، وانفتاحاً على اللّه في آفاق الغيب، وجهاداً في ساحة الصراع، وقوّةً في مواجهة التحدِّيات، وإخلاصاً للرسالة وللرّسول، وحبّاً لعباد اللّه... وهذا هو الذي يمثِّل ارتباطهم باللّه وحركتهم نحو القرب منه، فيراهم اللّه في مواقع الإحسان لأنفسهم وللنَّاس وللحياة، من خلال محبتهم له وإقبالهم عليه، فيمنحهم بذلك حبّاً إلهيّاً، ليغرقهم في السعادة، ويغمرهم بالنعيم، ويسير بهم نحو درجات القرب عنده.

* * *

للصَّابرين المحسنين ثواب الدُّنيا والآخرة:

الثالثة: إن اللّه حدّثنا أنَّه لا يكتفي بثواب الآخرة جزاءً للصَّابرين من عباده، الثابتين في مواقع رضاه، المحسنين في أقوالهم وأفعالهم، بل يضيف إليه ثواب الدُّنيا بما يسبغه عليهم من نعمه ويتفضل عليهم بآلائه، ليتحسسوا في الدُّنيا ثواب أعمالهم في دلالته على رضوان اللّه، وليكون انتظارهم لثواب الآخرة من موقع الثقة بأنَّ اللّه استجاب لهم دعواتهم وتقبّل أعمالهم ورضي عنهم، فكانوا المرضيّين عنده الراضين عنه، وتلك هي النعمة الكبرى التي تمتدّ من الدُّنيا إلى الآخرة.

وهكذا نجد من خلال هذه الملاحظات الثلاث أنَّ اللّه يريد أن يعمّق في شخصية الصَّابرين إرادة الصبر، وفي وجدان المحسنين روح الإحسان، من خلال الإعلان عن الحبّ الإلهي لهم، ليستمتعوا بهذا الحبّ في وجودهم الإيماني الروحي الذي يحلّق في آفاق اللّه بكلّ سعادة وغبطة وانفتاح، ثُمَّ استثارة الرغبة الإنسانية الذاتية الغريزية في طلب التعويض عمّا يقدّمه الإنسان من جهدٍ أو موقف أو عمل، وذلك بالحديث عمّا ينتظرهم من الثواب العظيم في الدُّنيا والآخرة، ليتحرّكوا في اتجاه قيمة الصبر وروحية الإحسان، من موقع الروح من جهةٍ، ومن موقع المادة من جهة أخرى.