تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 149 إلى الآية 151

 من الآية 149 الى الآية 151

الآيــات

{يا أيُّها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردُّكُم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل اللّه مولاكم وهو خيرُ النَّاصرين * سنلقي في قلوبِ الذين كفروا الرُّعب بما أشركوا باللّه ما لـم يُنَـزِّل به سلطاناً ومأواهم النَّار وبئس مثوى الظَّالمين} (149ـ151).

* * *

معاني المفردات:

[إن تطيعوا]: الطاعة: موافقة الإرادة المرغبة في الفعل، وبالترغيب ينفصل عن الإجابة وإن كان موافقة الإرادة حاصلة، وفي النَّاس من قال: الطاعة هي موافقة الأمر؛ والأول أصحّ، لأنَّ من فعل ما يقتضي العقل وجوبه أو حسنه كان مطيعاً للّه وإن لـم يكن هناك أمر، كذا جاء في مجمع البيان[1]، وربَّما يُقال: إنَّ العقل في حكم الحسن أو الحتمية لا يكشف أمر الشارع، فتكون الإطاعة في هذا الفرض عبارة عن موافقة الأمر، ولكن بواسطة اكتشاف العقل له.

[الرُّعبَ]: الخوف الشديد الذي يملأ القلب بحيث يقتل القوى عن الحركة والمقاومة. والرُّعب ـ كما يقول الراغب ـ الانقطاع من امتلاء الخوف... وقيل: رعبت الحوض: ملأته. وسيل راعب: يملأ الوادي[2].

[سنُلقي]: الإلقاء: أصله في الأعيان يدل عليه قوله: [وألقى الألواح] (الأعراف:150) [فألقوا حبالهم] (الشعراء:44)، واستعمل في غير عين اتساعاً، كالرُّعب في الآية. وقوله: [وألقيت عليك محبةً منِّي] (طه:39)، ومثل الإلقاء في ذلك الرمي، قال سبحانه: [والذين يرمون أزواجهم] (النور:6) أي: بالزنا، فهذا اتساع وليس بعين.

[سلطاناً]: السلطان، هنا، معناه الحجّة والبرهان، وأصله: القوّة، والسلطان: البرهان لقوّته على دفع الباطل، والتسليط على الشيء: التقوية على الشيء من الإغراء به، والسلاطة: حدّة اللسان مع شدّة الصخب للقوّة على ذلك مع إيثار فعله، والسليط: الزيت لقوّة استعماله بحدّته.

[مثوى]: المثوى: المنـزل، وأصله من الثواء، وهو طول الإقامة، وأم المثوى: ربّة البيت، والثوى: الضعيف، لأنَّه مقيم مع القوم.

* * *

مناسبة النزول:

روي عن عليّ (ع)؛ قال: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم. وعن الحسن البصري: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم، لأنَّهم كانوا يستغوونكم ويوقعون لكم الشبه في الدِّين، ويقولون: لو كان نبيّاً حقّاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنَّما هو رجل حاله كحال غيره من النَّاس يومٌ له ويومٌ عليه. وعن السدّي: إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردّوكم إلى دينكم[3].

وقال السدّي ـ حول الآية (151)ـ: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتّى بلغوا بعض الطريق، ثُمَّ إنَّهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتّى إذا لـم يبقَ منهم إلاَّ الشرذمة تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلمّا عزموا على ذلك، ألقى اللّه تعالى في قلوبهم الرُّعب حتّى رجعوا عمّا همّوا به، وأنزل اللّه تعالى هذه الآية[4].

* * *

تحذير من الاستسلام لأجواء الهزيمة:

هل هناك حادثةٌ معينة أطلقت هذا النداء القرآني بالتحذير من طاعة الكافرين لئلا يردّوا المؤمنين عن إيمانهم الحقّ بأساليبهم الخبيثة، فينقلبوا من موقع الإيمان إلى موقع الكفر فيخسروا دينهم ودنياهم؟ هل هناك حالة ضعفٍ استنفدت طاقة المؤمنين على التحمّل فحاولوا الاستعانة بالكافرين من أجل الحصول على أساس من القوّة يستندون إليه، حتّى يأتي النداء ليؤكّد لهم أنَّ اللّه مولاهم وناصرهم [وهو خيرُ النَّاصرين] لأنَّه الذي يملك الأمر كلّه، والقوّة كلّها؟

قد لا يبدو أمامنا شيءٌ فعليّ من هذا القبيل، ولكن القرآن يتحدّث عن الحالات الوقائية بالأسلوب نفسه الذي يتحدّث به عن الحالات الدفاعية. وهكذا نستوحي الموقف هنا، فإنَّ حالة الهزيمة قد تخلق لدى الإنسان وضعاً صعباً يؤدّي إلى الانهيار والانسحاق والضياع في بعض الأحيان، وقد ينتهي به ذلك إلى البحث عن مخرجٍ للمأزق الذي وقع فيه، وقد يتمثِّل ذلك في الوقوع في قبضة مخطّط الكفر في التنازل عن بعض المبادئ الأساسية بالدخول في بعض المشاريع المحرّمة، والسير في الدروب الملتوية التي لا تؤدّي إلى خير وصلاح، وذلك من أجل الحصول على الأمن المستقبلي من مراكز القوى المنتصرة والكافرة. وربَّما يخيّل إليه أنَّه يستطيع أن يجمع بين الإيمان بعقيدته والانطلاق مع مبادئه، وبين مداراة هؤلاء ومجاملتهم والسير معهم في بعض خطوات الطريق.

وكانت مثل هذه الأفكار الناشئة عن هذه الحالة، تشكّل عنصر خطورةٍ على أمثال هؤلاء الطيبين والمهزومين، لأنَّها تمثِّل النموذج الساذج من التفكير، فالكفر لا يمثِّل لدى الكافرين حالة مزاجيّة طارئةً ليمكن التعامل معها بأسلوب اللحظة السريعة، بل هو لدى أصحابه فكرةٌ وخطّة عمل في إضلال المؤمنين وإبعادهم عن دينهم، وبذلك فهم يعملون على استغلال حالات الضعف من أجل السيطرة على هؤلاء المؤمنين الساذجين، كما لاحظناه لدى الكثيرين من أصحاب المبادئ الكافرة الذين يطرحون الشعارات الطيّبة المضلّلة في عرض ذكيِّ للقوّة، وإمعان في إثارة نقاط الضعف لدى الآخرين بأساليب نفسية شيطانية، من أجل أن يقودوا الضعفاء من المؤمنين إلى ضلالهم بأقرب طريق.

ويمكن أن تكون هذه الآيات وسيلةً من وسائل التوعية الوقائية لدى المؤمنين المهزومين بأن لا يعطوا الموقف أكثر مما يتحمّل، بحيث يصوّرون لأنفسهم بأنَّ الكافرين يملكون زمام الأمر وحركة القوّة، فيقعون تحت تأثير أساليبهم ومخططاتهم ويطيعونهم في المواقف والأعمال التي تؤدّي إلى الكفر والضلال وخسارة الدارين طمعاً في النصرة وطلباً للقوّة... فليست القضية في قصة الهزيمة سوى خسارة لمعركةٍ من المعارك، الأمر الذي يمثِّل ضعفاً في مرحلة معينة لا في المسيرة كلّها، فلا بُدَّ لهم ـ في هذه الحالة ـ من الرجوع إلى إيمانهم وربِّهم ليعرفوا بأنَّ القوّة للّه جميعاً، وأنَّ النصر بيده لا بيد غيره، وأنَّه قد يبتلي عباده المؤمنين ببعض البلاء في بعض مراحل الطريق، ولكنَّه ينصرهم في نهاية المطاف، فعليهم أن لا يبتعدوا عن اللّه حتّى لا يضلّوا من حيث يعرفون ومن حيث لا يعرفون.

* * *

لا تطيعوا الكافرين:

[يا أيُّها الذين آمنوا] وعاشوا إيمانهم في عمق وجدانهم إشراقة فكر، وطمأنينة قلب، وانطلاقة روح، وثبات موقف من خلال الثقة باللّه الذي يرعى عباده المؤمنين برعايته وينصرهم بنصره، ويقوّي مواقعهم ويدعم مواقفهم، لا تتراجعوا عن التزامكم بالعقيدة التوحيدية المنفتحة على وعي الساحة من جهة، ووعي ألطاف اللّه بالمؤمنين من جهة أخرى، ولا تسقطوا أمام الزلزال الذي يحرّكه الآخرون في مواقعكم ليثيروا في قلوبكم الشك والريبة بالحقّ الذي تعتقدونه وتؤمنون به، بالأساليب المتنوّعة التي تنفذ إلى عقولكم وقلوبكم ومشاعركم الحميمة، وهذا ما يريد اللّه أن يحذركم منه في أسلوب التوعية الفكرية والعملية في ما تأخذون أو تدعون، [إن تطيعوا الذين كفروا] من المشركين أو غيرهم بفعل الخضوع لعلاقات القرابة، أو بالانسجام مع أجواء المجاملة، أو بالرغبة بالحصول على بعض المواقع عندهم من أجل ربح عاجل أو شهوة طارئة، [يَرُدُّوكُم على أعقابكم] لتتراجعوا عن الدِّين الذي آمنتم به، والتوحيد الذي أخلصتم له في حركةٍ جديدة للشرك في حياتكم، وللكفر في أفكاركم بعد أن قطعتم شوطاً طويلاً وبلغتم درجةً عالية من الإسلام للّه ورسوله، [فتنقلبوا خاسرين] لأنَّكم بالعودة إلى الكفر تفقدون الصفاء الروحي المشرق في وجدانكم، وتفتحون على أنفسكم الكثير من المشاكل المعقّدة التي تربك حياتكم، وتقلق تصوّراتكم، وتفترس طمأنينتكم، وتواجهون الخسارة في الدُّنيا والآخرة. وأيّ خسارة أعظم وأكبر من فقدان الإنسان علاقته بربِّه الرحمن الرحيم، الذي يمنح عباده برحمته كلّ خير، ويفيض عليهم كلّ نعمة، ويُعطيهم كلّ قوّةٍ وراحةٍ واطمئنان، ثُمَّ أيُّ خسارة أعظم من خسارة الإنسان مصيره في الآخرة في نهاية المطاف، ليعيش عذاب جهنم بدلاً من نعيم الجنَّة ورضوان اللّه؟!

إنَّهم لا يخلصون لكم ولا يفكّرون في إعانتكم ومساعدتكم، فلا تحسبوهم مواليكم الذين تسكنون إليهم وتستنصرون بهم [بل اللّه مولاكم] فهو الذي يملك القوّة جميعاً، وهو القادر على كلّ شيء، ويملك الرحمة الشاملة، وهو الرحيم بعباده [وهو خيرُ النَّاصرين] فهو الناصر الذي لا يُغلب، والمولى الذي لا يترك أولياءه، ولا يمكن لأحدٍ أن يمنعه مما يريد، وهو القادر على أن يمنع كلّ خلقه مما يريدون، فهو الذي يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء. فكيف يوالي المؤمن غيره، وكيف ينتقل من ولايته إلى ولاية أعدائه؟!

* * *

السلطان والأمر للّه:

ثُمَّ يوضّح اللّه لنا الصورة بأسلوب أقوى وأكثر وضوحاً، فإنَّ الكافرين لا يعيشون عمق الشعور بالقوّة، لأنَّ قلوبهم فارغةٌ من الإيمان باللّه الذي يمنح القوّة لعباده، فهم يُمارسونها بشكل استعراضي لا ينطلق من قاعدة ثابتة، ما يجعلها تذوب لدى أوّل بادرة جديدة للقوّة، فتمتلئ نفوسهم بالرُّعب وتتحوّل أفئدتهم إلى هواء. [سنُلقي في قلوب الذين كفروا الرُّعب بما أشركوا باللّه ما لـم يُنـزِّل به سلطاناً] فإنَّ الشرك باللّه لا يملكون أيّة حجّةٍ عليه في خطّ العقيدة والعبادة، لأنَّ مثل هذه الأوثان التي يعبدونها وهؤلاء الأشخاص الذين يطيعونهم في معصية اللّه، لا تمثِّل أية حقيقة في معنى الألوهية، ولا تملك أيّة خصوصية في مضمون الربوبية، فإنَّها لا تملك لوجودها ضرّاً ولا نفعاً إلاَّ باللّه، فهي من صنع أيديهم، وبالرغم من هذا كلّه فهم يعتبرونها آلهة، ويعبدونها من دون اللّه. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الشرك يفرّغ القلب من كلّ قوّةٍ، ويعزله عن كلّ طمأنينةٍ، ويبتعد به عن كلّ إحساس بالأمن، لأنَّ اللّه ـ وحده ـ هو الذي يملأ عقل الإنسان وقلبه وروحه وضميره وكلّ حياته، فيمنحه الطمأنينة الهادئة العميقة، التي توحي إليه بأنَّه في أمان من كلّ خوف، لأنَّ اللّه هو المهيمن على الأمر كلّه، فلا يملك أيّ مخلوق الإضرار به إذا لـم يرد اللّه له ذلك.

ولهذا كان الإنسان الفارغ قلبه من اللّه هو الذي يطوف القلق في داخله أمام أيّ طارئ من طوارئ الحيرة، ويعيش الخوف في كيانه من خلال كلّ عنصر من عناصر الإثارة، حتّى أنَّ الوساوس والهواجس تنفذ إليه، بسبب العوامل السلبية التي تحيط به، فتأكل روحه، وتهزّ موقعه، لأنَّه لا يجد أية قاعدة ثابتة للإحساس بالقوّة في نفسه، ما يجعل حياته نهباً لأية حالة طارئة وأيّ شك جديد، لتلعب به الرياح النفسية والخارجية على طريقة قول الشاعر:

إذا الريح مالت        مال حيث تميل

وهذا ما يجعل الإحساس بالرُّعب أمراً طبيعياً في حياتهم بسبب الهواجس التي تطوف في خيالهم، وينطلق الغيب الإلهي بالقدرة الخفية، ليثير الرُّعب بقوّة من خلال هواجس جديدة وتهاويل مخيفة في تصوّراتهم للأشياء التي يُدخل فيها بعض عناصر الخوف ونوازع القلق.

* * *

دور الحالة النفسية في تثبيت المواقف:

وإنَّنا نعرف أنَّ للحالة النفسية دورها في تثبيت المواقف وتأكيدها، لأنَّ الإنسان يتحرّك من خلال الجوّ الداخلي في نفسه، فهو الذي يمنح الخطى توازناً، والموقع صلابةً، والموقف قوّة، والإنسان صموداً، لأنَّه لا يُحارب من موقع طاقته الجسدية المادية، بل من موقع طاقته الروحية التي تنفذ إلى مفاصل الجسم لتمنحه قوّة من قوّتها، وثباتاً من ثباتها، وروحية من روحيتها.

وفي ضوء هذا، فإنَّ الرُّعب الذي يلقيه اللّه في قلوب الذين كفروا من خلال العناصر الخارجية والإيحاءات الداخلية، في مقابل الطمأنينة والسكينة التي ينـزلها على رسوله والمؤمنين، يمكن له أن يحرّك الهزيمة في ساحة الكافرين والنصر في مجتمع المؤمنين، ما يفرض على المؤمنين أن يدخلوا المعركة بثقةٍ في أنفسهم من خلال الثقة باللّه الذي يملك الأمر كلّه، فإنَّهم إذا أخذوا بأسباب النصر وانطلقوا في إرادة التحدّي، أعطاهم اللّه أسباباً خفية تبعدهم عن روح الهزيمة وعن مواقع الفرار. وهذا ما ينبغي للعاملين في خطّ الدعوة والحركة والجهاد ملاحظته في خططهم الحركية، في ملاحقة كلّ الوسائل الاستكبارية العاملة على إثارة أجواء التهويل والتخويف من القوى المضادّة بما يتحدّث به إعلامها عن مواقع القوّة لديها مقارناً بمواقع الضعف عندنا، ما يوحي بأنَّ الطريق الوحيد للنجاة هو الاستسلام لأنَّه لا مجال لاختراق هذا الجدار الصلب من القوّة للفئات المستكبرة أو الكافرة، فلا واقعية للمواجهة ولا فرص للثبات، وذلك من أجل إلقاء الرُّعب السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والثقافي في قلوب المؤمنين ليعيشوا الهزيمة النفسية التي تهيّئ الظروف للهزيمة الخارجية.

إنَّ المؤمنين الذين يأخذون بأسباب الإيمان، ويخلصون للّه، ويعرفون سنته، ويتعرفون مواقع قدرته ووسائل لطفه، من حيث إيحاءات العقيدة، وواقع اللطف الإلهي بعباده... يعرفون كيف يتمرّدون على كلّ وسائل التخويف وكلّ أجواء الرُّعب، بالانفتاح على اللّه في مواقع غيبه، بالإضافة إلى السير في الحياة على خطّ سننه الكونية والتاريخية؛ وبذلك يملكون التوازن في الموقف، والثبات في الموقع، والقوّة في ساحة الصراع، للوقوف بصلابة في وجه هؤلاء الكافرين والمستكبرين الذين سيلقي اللّه في قلوبهم الرُّعب من خلال قوّة أوليائه، وخفايا غيبه، وذلك هو شأنهم في الدُّنيا عندما تواجههم قوّة الحقّ، [ومأواهم النَّارُ] في الآخرة جزاءً لهم على كفرهم وطغيانهم [وبئس مثوى الظَّالمين] الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلموا النَّاس والحياة بالعدوان.

ـــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:855ـ856.

(2) مفردات الراغب، ص:203.

(3) انظر: الدر المنثور، ج:2، ص:341،342، ومجمع البيان، ج:2، ص:856.

(4) أسباب النزول، ص:70.