تفسير القرآن
آل عمران / الآية 152

 الآية 152

الآيــة

{ولقد صَدَقكم اللّه وَعدَهُ إذ تَحُسُّونَهُم بإذنه حتَّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تُحبُّون منكم من يريد الدُّنيا ومنكم من يريد الآخرة ثُمَّ صرفكم عنهم ليبتليَكُم ولقد عفا عنكم واللّه ذو فضلٍ على المؤمنين} (152).

* * *

معاني المفردات:

[تَحُسُّونَهُم]: تستأصلونهم بالقتل وتخمدون حسّهم وأنفاسهم. الحسّ: القتل على وجه الاستئصال، وأصله من الإحساس، ومنه: [هل تـحسُّ منهم من أحدٍ] (مريـم:98). وسمّي القتل حسّاً، لأنَّه يبطل الحسّ.

[بإذنه]: بإرادته وأمره وتأييده وعونه.

[فشلتم]: ضعفتم وجبنتم، والفشل: الجبن.

[صرفكم]: ردّكم للهزيمة.

[ليبتليكُم]: ليمتحنكم ويختبركم، فيظهر المخلص من غيره، ليُعاملكم معاملة من يختبر ويمتحن.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في المجمع: «ذكر ابن عباس والبراء بن عازب والحسن وقتادة أنَّ الوعد المذكور في الآية كان يوم أحد، لأنَّ المسلمين كانوا يقتلون المشركين، حتّى إذا أخلّ الرماة بمكانهم الذي أمرهم الرَّسول بالمقام عنده، فأتاهم خالد من ورائهم، وقتل عبد اللّه بن جبير ومن معه، وتراجع المشركون وقُتل من المسلمين سبعون رجلاً، ونادى مناد: قتل محمَّد. ثُمَّ منَّ اللّه على المسلمين فرجعوا، وفي ذلك نزلت الآية»[1].

وقال محمَّد بن كعب القرظي: «لما رجع رسول اللّه إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، وقال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللّه النصر؟ فأنزل اللّه تعالى: [ولقد صدقكم اللّه وعده] الآية، إلى قوله: [منكم من يريد الدُّنيا] يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد»[2].

* * *

معركة أحد: النصر أو الهزيمة أخيراً:

[ولقد صدقكم اللّه وعده] لقد وعد اللّه المسلمين النصر في معركة أحد، على لسان رسول اللّه(ص)، ولكنَّه لـم يكن وعداً مطلقاً على كلّ حالٍ، بل كان وعداً مشروطاً بالسير على وفق الخطّة الموضوعة التي تنسجم مع الأسباب التي تهيّئ ظروف النصر للمعركة، وكان من بينها وضع الرّماة في الثغرة التي كانت تمثِّل نقطة الضعف في دفاعات المسلمين في الجبل... وسارت الخطّة على ما يرام، فقد انتصر المسلمون في بداية المعركة عندما أخذوا بأسباب النصر، ونفّذوا الخطّة الموضوعة من الرَّسول (ص) بدقّةٍ وأمانةٍ وإخلاص، [إذ تحسُّونهم بإذنه]، وكان المسلمون يحسُّون الكافرين، أي يستأصلونهم بالقتل، فكأنَّ القاتل يبطل حسَّ المقتول، وكانت العملية بإذن اللّه وتوجيهه، [حتَّى إذا فشلتم] ولكن المسلمين وقعوا في الفشل وتركوا أسباب النجاح، [وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تُحبُّون] وتنازعوا في أمرهم، ففرقة كانت ترفض النـزول إلى ساحة المعركة من أجل الحصول على الغنائم، وفرقةٌ كانت تصرّ على ذلك، [منكم من يريد الدُّنيا ومنكم من يريد الآخرة] وتغلّب الفريق المصرّ على المعصية الذي يريد الدُّنيا على الفريق الذي يريد السير على خطّ الانضباط لأنَّه يريد الحياة الآخرة، وابتعد المسلمون عن خطّ النصر عندما ابتعدوا عن روحه وإرادته وأجوائه.

[ثُمَّ صرفكم عنهم ليبتليكم]، وصرفهم اللّه عن المشركين من خلال الأسباب الاختيارية التي ينصرف فيها المجاهد عن صنع النصر، ليبتلي المسلمين ويختبرهم ويدفعهم إلى مواجهة الموقف بإيمان وصدق واستعداد للاستفادة من هذه التجربة الصعبة في سبيل نصر جديد، على أساس الالتزام بالخطّة الحكيمة. وشعر المسلمون بالخطأ الذي وقعوا فيه، وعاشوا روح الندم، وتعمّقت التجربة في داخلهم، ورجعوا إلى إيمانهم، وعادوا إلى اللّه يستغفرونه ويطلبون منه القوّة على الانطلاق نحو المستقبل بروح إسلامية عالية، وعلى صنع الموقف على أساس الإرادة. [ولقد عفا عنكم واللّه ذو فضلٍ على المؤمنين] وعفا اللّه عنهم بفضله، فإنَّه ذو فضلٍ على المؤمنين، وهو يحبّ المؤمنين لإيمانهم وجهادهم في سبيله، ويعلم نقاط الضعف الكامنة في نفوسهم والطارئة عليهم، كما يعلم أنَّهم في ساعة الضعف لا يبتعدون عنه، ولكنَّهم يغفلون عن ذكره بفعل الضغوط الهائلة المسيطرة عليهم، ولذلك لـم يعاجلهم بالعقوبة، ولـم يهملهم أو يكلهم إلى أنفسهم، بل تعهّدهم بفضله بما يثيره في نفوسهم من الرغبة في العودة إليه والتوبة والاندفاع ـ من جديد ـ نحو جولة جديدة من الجهاد في موقع جديد، لأنَّ الهزيمة في موقع معيّن لا تُلغي الإيمان ولا تُسقط الإرادة ولا تبتعد بالمؤمن عن اللّه، لأنَّ الإيمان لا يمثِّل حالة طارئة، فينطلق هذا الفضل الإلهي الذي يغمر به اللّه عباده المؤمنين في الحبّ الإلهي، لأنَّهم بادلوه حبّاً في حركة الإيمان والطاعة، فبادلهم حبّاً في إرادة العفو والمغفرة.

* * *

من وحي الآية:

وهكذا نستوحي من هذه الآية، أنَّ اللّه ـ سبحانه ـ قد يطلق الوعد لعباده بالنصر في مواقف المعركة، كما يطلق الوعد لهم في أشياء أخرى، كاستجابة الدُّعاء عند الدُّعاء، وكالمغفرة عند التوبة... ولكن لذلك شروطاً روحيّة وعملية لا بُدَّ للإنسان من مراعاتها ودراستها وتنفيذها إذا أراد لهذه الوعود أن تتحقّق، لأنَّ اللّه سبحانه يريد لعباده أن يواجهوا الحياة على طريق سننه في الكون ليأخذوا بأسبابها، فإنَّه لـم يخضع الأمور للمعجزة الخارقة للعادة إلاَّ في حالات التحدِّي الكبير، فلا يستوحش الإنسان إذا دعا ولـم يستجب له، أو تاب ولـم يغفر له، أو انطلق في المعركة فلم يحقّق لنفسه النصر... ولا يعتقد أو يتساءل كيف لـم يتحقّق وعد اللّه؟! بل ينبغي له أن يبحث هل أنَّه راعى في ذلك الشروط الإلهية التي ربط اللّه بها تحقيق وعده أم لا..

ـــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:858.

(2) أسباب النزول، ص:70.