الآية 155
الآيــة
{إنَّ الذين تولَّوا منكم يوم التقى الجمعان إنَّما استَنـزَلَّهُمُ الشَّيطانُ ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه عنهم إنَّ اللّه غفورٌ حليمٌ} (155).
* * *
معاني المفردات:
[الجمعان]: جمع المؤمنين وجمع المشركين.
[استَنـزَلَّهُمُ]: طلب وتحرّى زلتهم وأوقعهم في الزلل ـ والزلّة ـ في الأصل ـ كما يقول الراغب: ـ استرسال الرِّجْل من غير قصد[1].
* * *
علاقة المعصية بالأخلاق:
[إنَّ الذين تولَّوا]: وهربوا وولّوا الأدبار وأعرضوا عن مسؤولية المعركة [منكم] أيُّها المسلمون [يوم التقى الجمعان] جمع المشركين وجمع المسلمين في الحرب المستعرة بينهما، [إنَّما استَنـزَلَّهم الشَّيطانُ] من خلال حركته في داخل حياتهم، لإيقاعهم في الزلّة التي تؤدّي بهم إلى السقوط والوقوع تحت تأثير سخط اللّه ورسوله، [ببعض ما كسبوا] في نفوسهم وأعمالهم من الذّنوب الصغيرة أو الكبيرة التي تترك آثارها العميقة في داخل الإنسان من خلال عناصرها السلبية في تحريكها لكلّ نقاط الضعف الإنساني في كلّ وضع من أوضاعهم المستقبلية ما يجعل الذّنوب تتتابع، فإنَّ الذنب يجرّ إلى الذنب، من خلال القاعدة التي يركزها في الذات في الأخلاقية المنحرفة للإنسان، تماماً كما أنَّ الطاعة تجرّ إلى الطاعة في الأخلاقية المستقيمة في قاعدة الإيمان في النفس.
ما هي العناصر الذاتية الداخلية التي ساهمت في إعراض من أعرض وهزيمة من انهزم؟ هل هي أمور عميقة في داخل الإنسان، تملي عليه أعماله وتحدّد له خطواته في الحياة، أو هي حالات طارئة لا تلبث أن تذوب وتتطامى وتهدأ؟ إنَّ الآية تجيب عن هذا التساؤل، فتثير أمام الإنسان كثيراً من أخلاقه السلبيّة التي اكتسبها بفعل البيئة والنـزعة والشهوة، فقد كسب هؤلاء من خلال أوضاعهم وعلاقاتهم بعض الخصائص في ما يتطلّعون إليه من أهداف الحركة في الحياة، وما يعيشون فيه من اهتمامات، فقد عاشوا الاهتمام بتحصيل الغنائم كهدفٍ من أهداف المعركة، كما استسلموا للحياة الدُّنيا في ما يستريحون إليه من حالات الضعف أمام مطالب الجسد ونوازع النفس الأمّارة بالسوء، ما أدّى إلى النتيجة الطبيعية المؤلمة في إعراضهم عن الوقوف أمام مسؤولياتهم في الدفاع عن المواقع المتقدّمة في خطّ المعركة امتثالاً لأوامر الرَّسول (ص) في ما وضعه من التخطيط للمعركة، فكان ذلك سبباً في التفاف المشركين على المسلمين وفي حدوث الهزيمة في نهاية المطاف.
وربَّما نستوحي من خلال ذلك مفهوماً إسلامياً تربوياً يتصل بحركة الإنسان في خطّ الاستقامة والانحراف في الحياة، وخلاصته أنَّ المعصية تنطلق من حالات فكرية أو نفسية يكسبها الإنسان من خلال بعض الأوضاع والأفكار والممارسات... وبذلك تكون نتيجة للمفاهيم السلبية الداخلية، ولا تكون مجرّد حالةٍ طارئة، ولذلك فإنَّ على العاملين في حقل التربية الإسلامية أن يوجهوا اهتمامهم إلى هذا الجانب في شخصية الإنسان، بالنفاذ إلى طبيعة المفاهيم التي يحملها، بدلاً من أن يتحرّك اهتمامهم إلى مواجهة أفعاله كأشياء متناثرة متفرقة لا رابط بينها. وعلى الإنسان ـ في هذا المجال ـ أن ينفذ إلى داخل فكره ليدرس المفاهيم التي اكتسبها من خلال بيئته وعمله، ليصلح نفسه على أساس إصلاح تلك المفاهيم وتغييرها في داخله، ليتحرر من حالات الضغط الشعورية عليه.
* * *
اللّه غفورٌ حليم:
[ولقد عفا اللّه عنهم إنَّ اللّه غفورٌ حليمٌ] وقد كان العفو من اللّه رحمةً لهم، لأنَّهم كانوا حديثي عهد بالتجربة الصعبة التي تفرض عليهم الالتزام بالتخطيط العملي للرسالة، فكان انحرافهم نتيجة طبيعيّةً للعوامل الداخليّة المؤثّرة في مسيرتهم، فأراد اللّه لهم أن يرجعوا إلى أنفسهم من جديد ليراجعوا مواقفهم، فينطلقوا نحو التحدِّيات المستقبليّة بروح رسالية صامدة، ويُمارسوا المسؤوليات بإرادة قويّة منضبطة... وهكذا كان عفو اللّه عن عباده، فرصةً جديدة لهم من أجل تصحيح مواقفهم الخاطئة في كلّ موقف يشعرون فيه بالحاجة إلى التوبة والمغفرة. وقد نستطيع الاستيحاء العملي من هذه الآية في حركة الإنسان المسلم في أجواء المسؤوليات الإسلامية المباشرة عندما تنحرف به الخطى عن الطريق بسبب بعض الضغوط الداخليّة، ثُمَّ يندم ويتراجع ليستقيم من جديد على الخطّ، ويتحرر من كلّ المؤثرات السلبيّة في داخله، فقد يكون من الضروري أن لا نتعقد أمامه، بل نفسح له المجال لتجربة المسيرة من جديد.
وهناك ملاحظة تفسيرية للعلاّمة الطباطبائي في «الميزان» جديرة بالاهتمام، وهي متعلّقة بالمقارنة بين قوله تعالى في هذه الآية: [ولقد عفا اللّه عنهم إنَّ اللّه غفورٌ حليمٌ] وبين قوله: [ولقد عفا عنكم] وذلك بالتأكيد على أنَّ العفو المذكور في الآية الأولى هو غيره المذكور في الآية الثانية، قال: «ومن الدليل على اختلاف العفوَيْن ما في الآيتين من اختلاف اللحن، ففرق واضح بين قوله تعالى: [ولقد عفا عنكم واللّه ذو فضلٍ على المؤمنين] ثُمَّ ذكر إثابتهم غمّاً بغم لكيلا يحزنوا، ثُمَّ إنزاله عليهم أمنةً نعاساً، وبين قوله تعالى: [ولقد عفا اللّه عنهم إنَّ اللّه غفورٌ حليمٌ]، حيث ذكر العفو وسكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به، ثُمَّ ختم الكلام بذكر حلمه، وهو أن لا يعجل في العقوبة، والعفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط.
فإن قلت: إنَّما سوّى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعاً.
قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق، وإن صدق على الجميع مفهوم العفو على حدٍّ سواء، ولا دليل على كون العفو والمغفرة وما يُشابههما في جميع الموارد سنخاً واحداً، وقد بينّا وجه الاختلاف»[2].
ونُلاحظ على ما ذكره، أنَّ اختلاف النقاط التي أحاطت بكلمة العفو في الموردين لا يعني اختلاف كلمتي العفو في المصداق، بل كلّ ما يوحي به ذلك اختلاف الحديث عن صفة العفو في طبيعته الواحدة وحركته الواقعية في صفة اللّه التي تلتقي به، فاللّه ذو فضلٍ على المؤمنين عندما يعفو عنهم في كلّ موارد العفو بعد استحقاقهم للمؤاخذة من خلال ذنوبهم، وهو الحليم بهم والغفور لهم الذي يتسع حلمه في خطّ المغفرة، وهكذا يكون الحلم في موقع الفضل، كما يكون الفضل مظهراً للحلم، فهما عنوانان ينطبقان على مصداقٍ واحد.
أمّا مسألة ذكر الإكرام هناك وإغفاله هنا، فهو أمرٌ آخر يُضاف إلى العفو ولا يدخل في معناه المصداقي، وهذا هو الأسلوب القرآني في الحديث عن صفات اللّه، حيث تلتقي كلّ صفةٍ بصفات اللّه الأخرى مع اتحاد الورود والمصداق، لأنَّ اللّه تحدّث عن الواقعة كوحدةٍ في أوضاعها ونتائجها مع تعدّد في الوقائع وتنوّعها في سلوك الأشخاص الذين يمثِّلون فريقاً واحداً، فليس هنا فردان من العفو؛ عفو لا ينفتح على معنى الفضل، وعفو ينفتح عليه، إنَّ ذلك نوع من التكلّف.
ــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:218ـ219.
(2) تفسير الميزان، ج:4، ص:53.
تفسير القرآن