تفسير القرآن
آل عمران / الآية 159

 الآية 159

الآيــة

{فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكَّل على اللّه إنَّ اللّه يُحبُّ المتوكِّلين} (159).

* * *

معاني المفردات:

[فظَّا]: غليظ القلب جافياً سيّئ الخلق، خشن الكلام، والفظّ ـ كما يقول الراغب ـ الكريه الخَلْق، مستعار من الفظّ، أي: ماء الكَرِش، وذلك مكروه شربه لا يُتناول إلاَّ في أشدّ ضرورة[1].

قال صاحب مجمع البيان: وقيل: إنَّما جمع بين الفظاظة والغلظة وإن كانتا متقاربتين لأنَّ الفظاظة في الكلام، فنفى الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه[2].

[غليظ القلب]: قاسي القلب، والغلظة: ضدَّ الرقة، وتستعار للمعاني كما في قولـه: [ميثاقاً غليظاً] (الأحزاب:7).

قال الراغب: وأصله أن يُستعمل في الأجسام لكن قد يُستعار للمعاني[3].

[لانفضُّوا]: لتفرّقوا وتباعدوا. والفضّ: تفريق الشيء. والانفضاض: التفرّق.

[وشاورهم في الأمر]: أي: اطلب ما عندهم من الرأي لتقدّم لهم ما عندك منه، فإنَّ معنى المشورة في قولك: شاورت فلاناً: أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده.

[عزمت]: العزم: عقد القلب على الشيء تريد أن تفعله، والعزيمة كذلك، قال ابن دريد: يُقال: عزمت عليك: يعني أقسمت عليك.

[فتوكَّل]: التوكّل على اللّه: هو تفويض الأمر إليه والثقة بحسن تدبيره. وأصله: الاتكال: وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه ممن يستند إليه، ومنه: الوكالة، لأنَّه عقد على الكفاية بالنيابة، والوكيل: هو المتكل عليه بتفويض الأمر إليه.

* * *

بين أخلاق الرَّسول وأخلاق الرّسالة:

وتنفصل السورة قليلاً عن أجواء الحرب وما يُثار فيها من سلبيّات وإيجابيات في الكلمة والحركة والفكرة، لتلتقي بالصورة المشرقة المتمثلة في رسول اللّه (ص)، في قلبه الكبير الرحيم الرقيق الذي يتسع لكلّ مشاكل المسلمين وأخطائهم، فلا يتعقد ولا يتشنّج ولا يضيق ولا يقسو، بل ينفتح ويتسع ويرقّ ويلين، وفي أسلوبه الرقيق الذي يتفايض بالأحاسيس الطيّبة والمشاعر الطاهرة والنبضات الرحيمة، فلا تتحرّك كلماته من موقع قسوة لتؤذي المشاعر، ولا تنطلق من حالة فظاظةٍ لتُدمي الإحساس، بل هو اللين والرحمة واللطف والعاطفة الحميمة التي تدخل إلى القلوب بكلّ عفويّة وبساطة ومحبّة...

وتلك هي شخصية الإنسان الرساليّ في ما يريده الإسلام للرسالة من سمات في حركة الرَّسول والداعية، فقد ينبغي أن نتعلّم من شخصية رسول اللّه في خطواته العملية في أسلوبه في الدعوة، أنَّ علينا التوقف أمام حقيقة إنسانيّة إسلاميّة، وهي أنَّ أخلاقية الرَّسول أساسيّة في حركة الرسالة، فلا يكفي في نجاحه أو نجاحها أن يملك الفكر العميق الذي يستطيع من خلاله أن يقنع الآخرين بالحجّة والبرهان، أو يملك القوّة العظيمة التي يسيطر بها على خصومه بالوسائل العنيفة القاسية، بل يجب أن يتّصف بالأخلاق العالية التي لا تعيش في خارج ذاته بطريقة تمثيليّة ظاهريّة، بل تتعمّق في داخل الذات رحمةً ومحبة وانفتاحاً على النَّاس ووعياً للظروف الموضوعية المحيطة بهم، ليكون التعامل معهم من موقع الفهم الواعي لمشاكلهم الحقيقية ولنوازعهم الذاتية، فتتحرّك الرحمة في نفس الرَّسول، في ممارسته لأسلوب رسالته، في دراسة كلّ المؤثّرات في ما يختاره من الكلمات اللطيفة والأساليب الحكيمة والأجواء الموحية، لتصل الدعوة إلى قلوب النَّاس في الوقت الذي تصل فيه إلى عقولهم، لأنَّ قيمة الرسالة في حركة الشخصية الإسلامية، تتمثّل في تحوّلها إلى وعي للفكرة في عمق الذات وانسجام عفويّ مع كلّ آفاقها وأفكارها، بحيث تنطلق منها انطلاقة النهر من قلب الينابيع والشعاع المتفجّر من قلب الشمس.

وهكذا كان رسول اللّه (ص) في أسلوب رسالته الذي يمثِّل أسلوب شخصيته في خُلُقه العظيم وقلبه الكبير، فاستطاع من خلال ذلك أن يدخل الرسالة إلى كلِّ قلب، وأن يطلق صوتها في كلّ فم، وأن يحرّك شريعته في قلب كلّ مساحة من مساحات الحياة... وهذا هو سرّ نجاح الداعية في الدعوة، فليس له أن يستسلم لنوازعه الذاتية ليفرضها على الدعوة، بل ينبغي له أن يصوغ شخصيته صياغة إسلاميّة، تنبع من روح الإسلام وخلقه كما تتحرّك مع فكره، ويترك مزاجه الشخصي لأجوائه الفرديّة التي تبتعد عن جوّ الدعوة والعمل.

* * *

سرّ العظمة في أخلاق النبيّ (ص):

[فبِما رحمةٍ من اللّه] أي فبرحمة وما زائدة بإجماع المفسِّرين ـ قاله صاحب مجمع البيان ـ قال: ومثله قوله: عمّا قليل، جاءت (ما) مؤكّدة للكلام، ودخولها تحسن النظم كدخولها لاتزان الشعر في نحو قول عنترة.

يا شاةُ ما قَنَصٌ[4] لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تُحْرَمِ[5]

ويكون معنى الآية: أي بسبب الرحمة التي رحم اللّه بها المسلمين الذين اتبعوك وآمنوا بك، وما أودعه في شخصيتك الرسالية من محبة لهم وانفتاحٍ على قضاياهم وإحساسٍ بالمسؤولية في تثبيتهم على الخطّ الإيماني والتزامهم به، وفي إبعادهم عن حالة الاهتزاز النفسي التي قد تحرّكها في الذات الأجواء السلبيّة، التي قد تسيطر عليها من خلال ردود الفعل على قسوة هنا وغضبٍ هناك، وتشنج من الداعية في بعض المواقع، [لِنتَ لهُم] فكنت الرقيق في أسلوبك وكلامك معهم وخطابك لهم، والرّقيق في نبضات قلبك أمام آلامهم وأحلامهم ومشاكلهم، والمتسامح معهم إذا أخطأوا، والمتساهل معهم إذا خالفوا تعاليمك.. وذلك هو سرّ العظمة في أخلاقه النبوية وروحيته الإنسانية وسلوكيته الإسلامية التي تعمّق إحساس النبيّ بالآخرين في خطّ الانتماء، وانفتاح الإنسان على النَّاس الذين يلتقي بهم في الخطّ الفكري والعملي، لتأكيد الانتماء والعلاقة القوية وحركية المسلم الداعية في تقوية روحية المسلمين في مواقع الصراع.

[ولو كنت فظّا] أي فظّ اللسان والطباع، خشن المعاملة، سيّئ الخلق، [غليظ القلب] في قسوة الإحساس الداخلي في خفقاته ونبضاته بالطريقة السلبيّة، [لانفضُّوا من حولك] أي لتفرّقوا عنك، لأنَّ النَّاس يبتعدون عن أيّ شخص يغلق قلبه عنهم، ويقسو في المعاملة معهم، ويضغط بالخلق السيِّىء على مشاعرهم، لأنَّ النفس مجبولة على النفور ممن يسيء إليها، كما هي مجبولة على حبّ من أحسن إليها. وهكذا كنت ـ يا محمَّد ـ تمثِّل الرَّسول القائد الذي ينطلق بروحية الرسالة وعفوية الإنسانية لاحتضان النَّاس الذين اتبعوه وعاشوا معه، كوسيلة من وسائل تأكيد قوّة الرسالة في جمهورها والتزام جمهورها بقيادتهم الحكيمة الحميمة.

* * *

المسلمون وعفو الرَّسول عنهم:

ولا بُدَّ للرَّسول في الدعوة، وللداعية في وعيه للعمل، من أن يعيش الأجواء الواقعية للمسلمين في ما يقعون فيه من الأخطاء، أو يتأثرون به من الانحرافات، أو يخضعون له من الضغوط الخاصّة والعامّة، انطلاقاً من حركة الصراع في داخل النفس التي قد تؤدّي إلى الحقّ، وقد تقع في قبضة الباطل، وذلك بإفساح المجال لهم للتراجع عن الخطأ، والاستقامة في مواقع الانحراف، والرجوع إلى الحقّ في مواطن الباطل... بالابتعاد عن الإيحاء الدائم بذلك كعقدةٍ مستعصيةٍ غير قابلة للحلّ، أو كجريمةٍ غير خاضعة للعفو، فلا بُدَّ من إعطاء المجال للعفو عن كلّ ذلك والمغفرة للفاعلين، للإيحاء لهم بأنَّ الخطيئة ليست ضريبة مفروضة على الإنسان، وأنَّ الانحراف ليس قَدَر الإنسان في حركته في الحياة، بل يمكن له أن يتحرر من هذه أو ذاك في عمليّة تجديد الشخصية في خطّةٍ روحيّة فكريّة عمليّة، تحتوي كلّ أوضاع الإنسان في كلّ ما يقوله وما يفعله، وهذا ما أراد اللّه سبحانه أن يثيره أمام رسوله: [فاعفُ عنهم واستغفر لهم] داعياً له إلى العفو عن المسلمين الذين يخطئون في حالة السلم وفي حالة الحرب في ما يتعلّق بحقوقه كرسول وقائد وحاكم... وإلى الاستغفار لهم في ما يتعلّق بحقوق اللّه من ترك طاعته والإقبال على معصيته، ليستقيم لهم الطريق من جديد، وتتحرّك الطاعة في حياتهم على طريق اللّه.

* * *

وشاورهم في الأمر:

[وشاورهم في الأمر] وهذا توجيه عمليّ آخر يوجّه به اللّه رسوله، ويوجّه الأمّة من خلاله، وهو مبدأ المشاورة في الأمور التي تمسّ حياتهم وحياة الإسلام بشكلٍ عام في ما يريد أن يقوم به الرَّسول من عمل، أو يقرّره من قرار، أو يخطّط له من وسائل وأهداف في حالة السلم وفي حالة الحرب، ليحقّق من خلال ذلك أمرين تربويين عمليين في حركة العاملين في الحياة:

الأوّل: التخطيط للسلوك الفردي والاجتماعي على أساس الابتعاد عن الاستبداد بالرأي في اتخاذ المواقف الحاسمة والقرارات المصيريّة، والتأكيد على أن يرجع الإنسان إلى فكر الآخرين الذين يملكون الفكر السليم، فيحاورهم ويناقشهم ويستثيرهم في كلّ خطوةٍ من خطوات العمل، ثُمَّ يرجع إلى فكره ليُقارن بين الآراء ويدرس كلّ واحدٍ منها بمفرده بهدوء وموضوعية، لينتهي إلى النتيجة الأخيرة بطريقةٍ فكريّة سليمة، فيعمل على أساسها بقوّة وثبات.

الثاني: إعداد الأمّة التي تمثِّل القاعدة الواسعة لتفكّر مع القيادة في كلّ ما تريد القيادة أن تقوم به من خططٍ ومشاريع، لتعرف ـ من موقع الفكر ـ كيف يكون التحرّك وأين تقع الوسيلة من خطّ الهدف، فتتابع القرارات من بدايتها بوعي وتأمّلٍ وتركيز، وتتدرّب ـ بذلك ـ على ممارسة الدور القيادي في المرحلة الفكرية، من أجل أن تعدّ نفسها لاستلام القيادة في حالات الفراغ بكفاءةٍ وقدرةٍ على اتخاذ القرارات وتخطيط المواقف، وتتعلّم كيف تراقب خطوات القيادة غير المعصومة، أو ترصد قراراتها، لئلا تنحرف أو تغفل أو تخون، فتكون بالمرصاد لها من بداية الطريق، قبل أن تتعقّد المشكلة ويستفحل الأمر في نهايته، وبذلك يصعب على القيادات المنحرفة التي قد تفرض نفسها على الساحة في المستقبل، أن تُمارس حريتها في التلاعب بمقدرات الأمّة واللعب على عواطفها ومشاعرها بالكلمات المبهمة، لأنَّ الأمّة قد أعدّت لترصد الحكم في عمليّة محاكمة ومناقشة على أساس تحصيل القناعة من قاعدة الحجّة والبرهان المتمثّل بحركة الحوار الفكري.

وتلـك هي عظمة التربية الإسلامية التي توحي للقادة، وإن كانوا في مستوى رسول اللّه (ص) الذي لا يحتاج إلى فكرٍ أحد، بأن يبحثوا عن القاعدة التي تفكّر وتقتنع لتطيع من خلال ذلك، لا عن القاعدة التي تطيع من دون فهم ووعي، وذلك كوسيلة مُثلى من وسائل التحضير العملي لقيادات المستقبل من بين أفراد القاعدة.

* * *

الآية وعلاقتها بالشورى في الحكم:

وقد أثار الكثيرون من المفكّرين الإسلاميين في حديثهم عن هذه الفقرة من الآية، موضوع الشورى وعلاقتها بشرعيتها كأساسٍ للحكم الإسلامي، فرأوا في هذه الآية قاعدة التشريع التي توحي للرَّسول (ص) وللأمّة من خلاله، بأن يعتمد الشورى كأساس للقضايا العامّة، ليكون ذلك دستوراً عملياً شاملاً، حتّى في الحالات التي لا تحتاج فيها القيادة إلى ذلك، كما في حالة وجود إمام معصوم.

ولكنَّنا لا نستطيع أن نوافق على إخضاع الآية لهذه الفكرة، فإنَّنا لا نلمح فيها مثل هذا الجوّ، فقد وردت في الحديث عن السلوك العملي للرّسول (ص) مع المسلمين كوجهٍ للصورة الإنسانيّة الإسلاميّة التي تتمثّل فيها إنسانية الرسالة وواقعيتهـا في ما يعيشه الرَّسول (ص) مع أصحابه من الرحمة في رقّة القلب ولين الكلمة، وفي ما يريد اللّه له أن يعيشه معهم من العفو عنهم والاستغفار لهم إذا أخطأوا، ومن استشارتهم في الأمر كأسلوب من أساليب تأكيد اهتمامه بهم وتقديره لهم، وإعدادهم من خلال ذلك للمستقبل ليعتادوا على التفكير في الأمور، ولـم تتحدّث الآية الكريمة عمّا تفرضه الاستشارة من مسؤوليات على المستشير إذا لـم يقتنع بالرأي المشار به، كما هو المفروض في ما تقتضيه فكرة الشورى في اعتبارها قاعدة لشرعية الحكم في الدولة الإسلامية من حيث الإلزام للأمّة بما تفرضه من قرارات وما تستتبعه من التزامات... بل ربَّما نستوحي من الفقرة التالية [فإذا عزمت فتوكَّل على اللّه] أنَّ الاستشارة لا تفرض شيئاً، بل القضية هي إرادة الإنسان وعزمه المنطلق من قناعتـه بعد الاستشارة، سواء كانت منسجمة معها أو غير منسجمة. ويؤكّد هذا المعنى، أو يوحي به، بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، فقد جاء في بعضها: لما نزلت [وشاورهم فـي الأمر] قال رسول اللّه (ص): أما إنَّ اللّه ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها اللّه تعالى رحمةً لأمّتي، فمن استشار منهم لـم يعدم رشداً، ومن تركها لـم يعدم غيّاً.

وجاء عن عليّ بن مهزيار قال: كتب إليّ أبو جعفر ـ الإمام محمَّد الباقر (ع) ـ أن «سل فلاناً أن يشير عليَّ ويتخيّر لنفسه، فهو يعلم ما يجوز في بلده، وكيف يُعامل السلاطين؛ فإنَّ المشورة مباركة، قال اللّه تعالى لنبيّه في محكم كتابه: [فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكَّل على اللّه إنَّ اللّه يُحبُّ المتوكِّلين]، فإن كان ما يقول مما يجوز كنت أصوّب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء اللّه»[6]. وجاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) لبعض أصحابه، «أنَّ رسول اللّه (ص) كان يستشير أصحابه ثُمَّ يعزم على ما يريد»[7].

وقد روي أنَّه (ص) شاور أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى قافلة أبي سفيان فقالوا: يا رسول اللّه، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى بُرَك الغماء لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: [فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون] (المائدة:24)، ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.

وكان الرَّسول (ص) في تربيته النَّاس على الشورى يحضهم على التمييز، في كلّ مورد يريدون أن يدلوا إليه برأيهم في بعض مسائل الحرب والسلم، بين ما هو تكليف إلهي شرعي، وبين ما هو تدبير بشري صادر عن شخص النبيّ، ليشيروا عليه بآرائهم فيما لو كان رأيه (ص) رأياً خاصّاً. وهذا ما رواه كتّاب السيرة في يوم بدر، فقد نزل النبيّ (ص) في موقع هناك، كان أدنى ماءٍ من بدر ـ كما يقولون ـ فقال الحباب بن المنذر: يا رسول اللّه، أرأيت هذا المنـزل أمنـزلاً أنزله اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال (ص): بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول اللّه، ليس هذا بمنـزل، فانهش بالنَّاس حتّى تأتي أدنى ماء من القوم فينـزله ثُمَّ تفور ما وراءه... فقال له النبيّ (ص): لقد أشرت بالرأي، وعمل برأيه. وربَّما كان النبيّ (ص) يقوم بالعمل ليستثير رأي أصحابه بالمناقشة فيه، ليفكّروا بالرأي البديل، فيدربهم على التفكير في الأمور، ويوجّه القيادات من بعده إلى الاستماع إلى آراء القاعدة الشعبية في قرارات القيادة، ومن أجل تسديد الرأي وتعميق العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس المسؤولية المشتركة في التقرير والتنفيذ، مع الحفاظ على الموقع القيادي للقيادة، لأنَّ مسألة الشورى تتحرّك في المرحلة التي تسبق القرار الحاسم في الموقف أو في المعركة.

ولا بُدَّ لنا من التدقيق في الرِّوايات التي تتحدّث عن مشاورة رسول اللّه (ص) للمسلمين من حيث توثيق رواتها ودراسة مضمونها، لأنَّ بعض هذه الرِّوايات تسيء إلى صورة وعي النبيّ (ص) للرسالة وإنسانيته في نظرته إلى النَّاس؛ كما جاء في رواية أنَّ النبـيّ (ص) شاور أصحابه في يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له أبو بكر: إنّا لـم نجىء لقتال أحد وإنَّما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال.

فنحن نلاحظ أنَّ هذه الرِّواية توحي بأنَّ أبا بكر كان أكثر وعياً للمهمة التي جاء المسلمون لتنفيذها من رسول اللّه (ص)، في الوقت الذي نعرف فيه أنَّ النبيّ هو الذي قادهم على أساس القيام بالعمرة لا على أساس القتال، لذلك لم يجئ مقاتلاً في حال استعداد شامل للقتال، لأنَّه كان يهيئ الظروف والأسباب لفتح مكة. ثُمَّ كيف يفكّر رسول اللّه (ص) في الإجهاز على الذراري، في الوقت الذي لـم يبدأ فيه القتال مع المشركين المعاندين؟! وكيف يمكن لنا أن نقدّم صورة النبيّ (ص) الذي يفكّر في قتل النساء والأطفال الصغار قبل الدخول في حرب، في الوقت الذي تتمثّل فيه صورة النبيّ ـ الإنسان ـ في القرآن وفي السنّة في كلّ أقواله وأفعاله. وهذا يفرض علينا أن ندرس شخصية الرّواة الذين رووا هذه الرِّواية قبل الأخذ بها، وندقق في مفرداتها التي لا تتناسب مع صورة النبيّ الحقيقية الرسالية في إنسانيته وأخلاقيته وحكمته وعدالته، في النظر إلى الأشياء من مواقع المسؤولية العملية مع النَّاس.

وإذا كنّا قد لاحظنا في فهمنا للآية أنَّها لا تطرح الشورى كقاعدة ملزمةٍ في حركة القيادة، فإنَّنا نحاول أن نؤكّد أنَّ المسألة تتجاوز أخلاقية النبيّ (ص) في صفته الإنسانية إلى موقعه في صفته القيادية، سواء من حيث سلوك القائد مع القاعدة، أو من حيث مسؤوليته في التعرّف على آراء النَّاس الآخرين في حركة القضايا المتصلة بالمسيرة الإسلامية، لأنَّ الإسلام يرفض استبداد القائد في حركته العامّة من الناحية الأخلاقية أو السياسية، ولهذا فإنَّ الأمر بالمشاورة للنَّاس في هذه الآية ينطلق من الخطّ العام، بعيداً عمّا إذا كان النبيّ محتاجاً لذلك في الواقع الخارجي أو غير محتاج، ما يعني أنَّ على القائد أن ينفتح على شعبه من خلال الشورى، ليكون حكمه منسجماً مع الخطّ الإسلامي العام في هذه القضية الحيوية المهمّة، وفي غيرها من القضايا الجزئية والكلية في حياة النَّاس، لأنَّ المسألة لا تتصل بالجانب الذاتي في شخصيته، بل بالجانب العام في حكمه.

ولا تقتصر مسألة الشورى على الدائرة القيادية، بل تمتد إلى الواقع العام للنَّاس لأنَّها من المسائل الحيّة التي تكفل لهم المزيد من الانفتاح على بعضهم البعض في موقع الفكر المشترك في كلّ قضاياهم، كما تمنع الكثير من الزلل الذي يقع فيه المستبدون من خلال استبدادهم في إدارة أمورهم، ولذلك اعتبرها الإسلام عنواناً من عناوين المجتمع الإسلامي في قوله تعالى: [فإذا عزمت فتوكّل على اللّه] فإنَّ المؤمن ينطلق في حياته من موقع العزم المرتكز على الفكر الذاتي والاستشارة، لدراسة كلّ الجوانب المحيطة بالموضوع، حتّى إذا استكمل كلّ الأسباب الموضوعية للقرار، أعطى الموقف قوّة الإلزام من إرادته، وتحرّك نحو الهدف متوكلاً على اللّه غير خائفٍ من الطوارئ التي تعيش في أجواء الغيب المجهول، لأنَّ الثقة باللّه تدفع الإنسان إلى الثقة بالموقف، فإنَّ اللّه قد تكفّل لعبده المتوكل عليه بأن يكفيه ما أهمّه مما لـم يحتسبه من أوضاع إذا أعدّ كلّ ما يحتسبه من أسباب ومؤثرات، وذلك هو معنى التوكل في ما يجمعه من واقعية النظرة إلى الساحة، وغيبيّة الاستسلام للمستقبل المجهول بالاعتماد على اللّه، ]إنَّ اللّه يُحبُّ المتوكِّلين[ لأنَّهم يمثِّلون في توكلهم عليه، قوّة الثقة به والاعتماد عليه، وينطلقون من سنّته الحكيمة إلى الكون في ما أراده من توفير الوسائل للحركة من خلال ما أودعه في الحياة من ذلك كلّه... وبذلك يخلصون له بالإخلاص لسننه، وبالإخلاص العميق لقدرته التي تحمي الإنسان من كلّ مفاجآت المجهول.

ــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:396.

(2) مجمع البيان، ج:2، ص:869.

(3) مفردات الراغب، ص:376.

(4) القنص: الصّيد، و"ما" زائدة، والمراد بالشاة: امرأة شبهها بها.

(5) مجمع البيان، ج:2، ص:869.

(6) البحار، م:26، ج:72، باب:48، ص:330، رواية:34.

(7) (م.ن)، باب:84، ص:328، رواية:23.